تاريخ 1 جانفي 2009، قد لا يعني الكثير لعموم التونسيين أو حتى من دأب منهم على الاهتمام بالشأن العام. تاريخ نزلت فيه أحزاب المعارضة الجدية وأنصارها وأصدقاؤها للتظاهر بشعاراتها ويافطاتها موحدة لأول مرة تحت نظام بن علي البوليسي. قد يبدو الأمر حدثا عاديا لمن لم يعايش الاستبداد النوفمبري لكنه شّكل لحظة فارقة اتفقت فيها الأحزاب والمنظمات الجدية، التي لم ينجح نظام الاستبداد وقتها في تحويلها إلى ديكور ديمقراطي، على ترك تبايناتها جانبا والنزول صفا واحدا إلى الشارع تضامنا مع الشعب الفلسطيني إثر عدوان صهيوني غاشم على قطاع غزة.

المواقف الرسمية وقتها كانت محتشمة معوّمة وربما كان سماح السلطة للمعارضة بالنزول إلى الشارع والالتحام بعموم المواطنين، ولو تحت مراقبة بوليسية مشددة، مخرجا يخفي به النظام محاولاته المتكررة فرض تطبيع اقتصادي مع الكيان الغاصب. أما اليوم، فلأول مرة يصدر موقف شجاع سليم من قصر قرطاج يسمي الأشياء بمسمياتها ويذكر من نسى أو يتظاهر بالتناسي أن مقاومة الاحتلال حق مشروع حتى استعادة أرض فلسطين، كل الأرض.

فطوفان الأقصى الذي قلب دون سابق إنذار موازين المعادلة المختلة فيما يتعلّق بمقاومة الاحتلال الصهيوني، من ضمن ما نجح فيه توحيد الصف التونسي شعبا وأحزابا، سلطة ومعارضة، حتى مجموعات الألتراس الرياضية تركت خلافاتها جانبا وساندت بحناجر شبابها ونيرانها الاحتفالية المقاومة الفلسطينية الباسلة. وحدة أخرست خطاب المؤامرات التخويني الذي عبث “بالشعب الكريم” وقسمه أيما تقسيم، ليتحول الاختلاف والتنافس بين مختلف التشكيلات السياسية إلى ابتداع أشكال الإسناد السياسي والإعلامي للمقاومة والشعب الفلسطيني وإمداده بالمساعدات لا سيما الطبية المعيشية في مواجهة آلة الدمار الصهيونية العبثية.

فعبثا يسوي الاحتلال مجمعات غزة السكنية بالأرض حاصدا أرواح الأبرياء المحاصرين داخل أرضهم المحتلة وعبثا ترسل البوارج الأمريكية لشرق المتوسط وعبثا تعلن العواصم الغربية دعمها اللامشروط لنظام الميز العنصري، حجر أساسهم في هذا العبث استهداف المقاومة للفقاقيع الاستيطانية التي تقضم ما تبقى من أرض فلسطين. عبث بلغ مداه كبرى محطات الإعلام الغربي، فلا حديث إلا عن إرهاب المقاومة للمستوطنين ولا بحث إلا عن إدانة عملية طوفان الأقصى قبل أي شيء آخر، دون التطرق ولو عرضا إلى حجم الدمار الذي يخلفه القصف الجبان للأسواق والأبراج السكنية ومكاتب المؤسسات الإعلامية المزعجة للتحايل المفضوح على حاضر القضية وتاريخها.

فهل اعتبر التاريخ حرب الاستقلال الامريكية إرهابا ضد المملكة المتحدة؟ وهل كان المقاومون الفرنسيون زمن الاحتلال النازي يوصمون بالحيوانية والبربرية عند استهدافهم تجمعات النازيين وان كانت احتفالية في باريس أو غيرها؟ وحتى دون الحاجة إلى النبش في التاريخ، ألم تقم نفس هذه العواصم الدنيا ولم تقعدها بعْدُ ردّا على اجتياح الجيش الروسي لأوكرانيا؟ ألم تعتبر العملية احتلالا يحق للأوكرانيين مقاومته بشتى السبل والتكتيكات الحربية العسكرية؟ وهل يتعين على الفلسطينيين أن يكونوا شقرا بيضا بعيون خضراء زرقاء سماوية حتى يعترف “الغرب المتحضر” بحقهم في مقاومة الاحتلال؟ ثم كيف يجرؤ من قتل الآلاف و ارتكب أكثر المجازر دموية، في فيتنام والعراق و أفغانستان وغيرهم، على تنصيب نفسه متحدثا باسم الحرية والعدالة والمساواة.

احتلال سيبقى احتلالا وإن مضت بعض العواصم العربية في سياق التطبيع، وإن تتالت محاولات تسريب التطبيع الهزائمي في تونس تحت يافطات أكاديمية أو رياضية أو طربية تغنى بعضها دون حياء “ببيبي ناتنياهو” أو بالتقاط صور مستفزة مع جنود الاحتلال ببزاتهم العسكرية، نفس تلك البزز التي تغتصب الأرض والعرض منذ 48 و67 وحتى قبلهما على امتداد النصف الأول من القرن الماضي.

يبدو أن الوقت قد حان والظروف قد نضجت وتراكمت بما فيه الكفاية لتجريم التطبيع بأشكاله بعد تعريفها تعريفا دقيقا، حتى لا نعود إلى مستنقع المزايدات الكلامية التي تتبخر ساعة الجد وخاصة حتى لا يتحول النظام التونسي إلى ما يشبه الرجعيات العربية التي تقمع شعوبها داخليا وتزايد بمجاهرة عدائها للاحتلال العنصري ومن يدعمه من عواصم غربية.