هذا الانتقال عبّر عنه أستاذ الاقتصاد عبد الجليل البدوي خلال تقديم دراسة حول إشكاليات تمويل الاقتصاد، التي بيّنت انتقال اليد العاملة من ممارسة الأنشطة التقليدية إلى ممارسة أنشطة صناعية ومعمليّة مرتهنة لطلب السوق الخارجية. ”هذه الهجمة الاستعمارية حرّرت اليد العاملة لكنّها في المقابل أصبحت تترقّب من يشغّلها في إطار مركزة رأس المال خارج التراب التونسي“، يقول أستاذ الاقتصاد عبد الجليل البدوي. ضعف الإنتاج داخليّا مقابل التوجّه نحو التصدير في الفلاحة والصناعة مثّل تناقضا واضحًا في سياسة الدّولة، ما ساهم في ضعف الادّخار، أي تدنّي نسبة الثروة التي من الممكن أن تحقّقها الدّولة. تدنّي نسب النموّ الاقتصادي أنتج بدوره ضعفًا في الاستثمارات، أدّى إلى شحّ مواطن الشغل وضعف نسبة تأطير اليد العاملة، ما دفع الدولة إلى اللجوء إلى التداين الخارجي لسدّ عجزها. وقد نتج عن هذا الوضع تراجع كبير لنسبة الاستثمار الخام من الناتج المحلي الخام التي مرت من 18% كمعدل سنوي أثناء الفترة 1954-1950 إلى 12.4% كمعدل سنوي بين 1955 و1960، وفق ما ذكرته الدراسة.
التعويل على التصدير
منذ أوائل السبعينات، انتهجت تونس سياسة الانفتاح على الأسواق الخارجية عبر تشجيع القطاع الخاص والتوجه نحو التصدير، خاصّة في الإنتاج الفلاحي الموجّه للتصدير، بعد فشل التجربة الاشتراكية التي سيطرت فيها الدولة على حوكمة الاقتصاد. وهو نموذج توسّعي وفق ما توضّحه الدراسة، يقوم على استعمال مكثّف للثروة والموارد البشرية. ”هذا المنوال ساهم في مواصلة نقل الثروة إلى الخارج وضعف الادخار الوطني واللجوء إلى الموارد الخارجية“، يقول أستاذ الاقتصاد.
يتحدّد منوال التنمية بثلاثة عناصر: أوّلاً نمط الحوكمة، وهو طريقة إدارة النشاط الاقتصادي وكيفيّة التعامل بين القطاع الخاص والدولة. وتبرز الدراسة أنّ النشاط الاقتصادي يرتهن إلى منطق التقسيم الدّولي للعمل، تقسيم لا تمثّل تونس داخله سوى حلقة إنتاج ثانوية، تكتفي بصناعة بعض القطع الميكانيكية مثل ”الكوابل“ وقطع غيار وسائل النقل في إطار مؤسسات تكون في أغلب الأحيان أجنبية. أما العنصر الثاني المحدّد للمنوال التنموي فيتمثّل في نمط الاندماج العالمي، المحدّد بمدى الانفتاح على الأسواق العالمية وموقع الاقتصاد المحلّي داخلها. فيما يتمثّل المحدّد الثالث في نمط الإنتاج الذي ينقسم بدوره إلى نوعين. فإمّا أن يكون مكثّفًا عبر التحسين المستمر للإنتاجية، أو توسّعيًّا يستخدم الموارد البشرية والطبيعية بشكل متزايد، وهو نمط ”مبذّر“ حسب الأستاذ عبد الجليل البدوي، فهو يقوم على الأنشطة الاقتصادية المستنزفة للموارد الطبيعية، مثل الفلاحة الموجّهة للتصدير، حيث لا يكتفي القطاع بتصدير المنتوجات الفلاحية مثل التمور والقوارص وزيت الزيتون، وإنّما يُصدّر معها الثروة المائيّة المستخدمة لريّ مثل هذه الزراعات.
إجراءات بنكية محدودة
أمّا على المستوى العملي، فإنّ إشكالية تمويل الاقتصاد تكمن أيضًا في مدى نجاعة القطاع البنكي وقدرته على توفير قروض ميسّرة للأفراد والمؤسسات الصغرى والمتوسّطة ومساهمته في تحقيق التنمية، إلى جانب الأرباح الاقتصادية. تشير الدراسة التي نشرها المنتدى إلى سيطرة الأداء الكمّي للبنوك على أدائها النوعي، من خلال تشتّت السوق البنكيّة الّذي أدّى إلى ظهور بنوك صغيرة للغاية وغير فعالة أو قادرة على تلبية احتياجات الاقتصاد من حيث تمويل الاستثمار. يقول منجي المقدّم أستاذ الاقتصاد وأحد المساهمين في إنجاز هذه الدراسة، إنّ تونس تعدّ 30 مؤسسة بنكية، منها 23 بنكًا مقيمًا، وهو عدد كبير لا يتماشى ومتطلّبات السوق المحليّة التونسية، ما من شأنه أن يخلق توجّس الحرفاء من البنوك خاصّة في ظلّ ارتفاع نسب الفائدة على القروض، في ظلّ تمتّع البنوك دون سواها بامتياز التصرّف في الأموال المودعة بحساباتها، وهو ما دفع مؤلّفي الدراسة إلى طرح التساؤل التالي: ماذا تقدّم البنوك التونسيّة مقابل هذا الامتياز؟
في تصريح سابق لنواة، يقول أستاذ الاقتصاد عبد الجليل البدوي إنّ ”هناك مجموعات تتحكّم في النشاط الاقتصادي وهي الوحيدة التي لها الحق في النفاذ لبعض الأنشطة، مثل البنوك التي تتحكّم في تمويل المشاريع، فنجد المؤسسات الصغرى والمتوسطة محرومة من التمويل، لأنّ البنوك مقسّمة على الأثرياء، وكلّ عائلة تمتلك نسبة من رأس المال“. ومن المرجّح، وفق الدراسة، أن تُوظَّف بعض المساهمات البنكية في المجموعات الصناعية التي تمتلكها نفس هذه العائلات.
ورغم ذلك، وضع مشروع قانون المالية لسنة 2024 بعض التدابير المتعلّقة بتمويل الاقتصاد، من خلال إحداث معلوم ظرفي لفائدة ميزانية الدولة خلال سنتي 2024 و2025 يستوجب على البنوك والمؤسسات المالية ومؤسسات التأمين وإعادة التأمين بنسبة %4 من الأرباح المعتمدة لاحتساب الضريبة على الشركات مع حد أدنى بـ 10.000 دينار، إلى جانب الترفيع في خط التمويل المخصّص للشركات الأهلية، بـ 20 مليون دينار وتوسيع مجال التصرف فيها ليشمل البنك التونسي للتضامن وبقية البنوك. كما يتحدّث مشروع قانون المالية في انتظار التصويت على فصوله عن ”التمكين الاقتصادي للفئات الضعيفة ومحدودة الدخل“ ودعم إدماجهم المالي من خلال إحداث خط تمويل بمبلغ 20 مليون دينار لفائدة الباعثين من الفئات الضعيفة ومحدودة الدخل يخصص لإسناد قروض دون فائدة لا تتجاوز 10 ألاف دينار للقرض الواحد خلال الفترة الممتدة من غرة جانفي إلى 31 ديسمبر 2024 لتمويل أنشطة في كافة المجالات الاقتصادية، مع إقرار إجراءات قد تساهم في إنعاش الاقتصاد بطريقة غير مباشرة عبر تحويلات مالية تُصرف لخزينة الدّولة، متأتية من الأموال المجمَّدة المودعة لدى البنوك بموجب قرارات أممية.
الأزمة الهيكلية للقطاع المصرفي وتشخيص الوضع الاقتصادي والمالي أمر واقع يتّفق حوله مختلف أطراف العمليّة الاقتصادية، من الفاعلين الاقتصاديّين أو المستهلكين. في المقابل، تكتفي الدّولة ببعض الإجراءات التي تُدسّ في قوانين الماليّة، قد تكون ناجعة بصفة ظرفيّة، ولكنّها لا تحلّ المشكلة من جذورها، رغم حديث رئيس الدّولة عن كارتال البنوك ورغم مساعي المنظّمات غير الحكومية إلى إصلاح القطاع البنكي حتّى يحقّق المعادلة بين الرّبح والتنمية.
iThere are no comments
Add yours