في أحد مقابر إيرلندا، يجذب قبر الزوار بسبب جملة نقشت عليه وهي ”عاشت مرة ودُفنت مرتين“، لم تكن تلك القصة أسطورة، تماما مثل قصة المناضل الشيوعي التونسي حسن السعداوي الذي دُفن بدوره مرتين: الأولى حين قُبرت حقيقة مقتله في مخفر شرطة باب بنات منذ ستين سنة، والثانية عندما دُفن تاريخ يمتد إلى أربعة عقود من النضال النقابي والسياسي.
يرقد ملف القضية عدد 48 في رفوف الدائرة الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بتونس منذ سنة 2015، تقول ابنته تونس السعداوي في تصريح لنواة إنها ستواصل مسيرة والدتها المناضلة الراحلة شريفة الدالي في سبيل استرجاع حق والدها وهو إثبات حقيقة وفاته وتثمين كل فترة نضاله قبل الاستقلال وبعده. وتضيف ”اختارت والدتي شريفة السعداوي طريقا طويلا وشاقا لتخرج كل الحقائق إلى النور، رغم أن ذلك كلّفها طمس مسيرة نضالية ثرية خاضتها هي بدورها منذ أن تزوجت بوالدي“.
من التطريز إلى النضال
تختصر شريفة الدالي زوجة حسن السعداوي ببضع أسطر معاناة عائلتها بسبب نشاط زوجها النقابي والحزبي صلب الحزب الشيوعي التونسي، وتقول في شهادتها لجريدة الطريق الجديد سنة 1983 ”تزوجت من حسن السعداوي سنة 1945 وكنا نسكن في نهج سيدي البهلول في غرفة مع الجيران نعيش فيها مع الأولاد ننام ونطبخ فيها. من سنة 1946 إلى 1956، ونحن ننتقل من زنقة إلى زنقة ومن حومة إلى حومة دون أن تتحسن ظروفنا. ولما وقع حل المنظمة النقابية (الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي) سنة 1956، بقي عاطلا عن العمل سنتين ثم اشتغل كعامل بسيط في مستشفى عزيزة عثمانة وكان يقوم بتنظيف القاعات وبمساعدة الطباخين وهو عمل شاق مما اضطره إلى الاستعانة بأحد أولاده الذي انقطع عن التعليم“.
ولد حسن السعداوي في مجاز الباب وانتقل إلى العاصمة حيث عمل في التطريز على الجلد في سوق السراجين، سنة 1922 أسس نقابة عمال الشبكة وكانت أول نقابة تونسية تنخرط في الكنفيدرالية العامة للشغل الفرنسية، حسب ما ذكره الكاتب منذر المرزوقي في كتابه ”الزعيم الشهيد حسن السعداوي المسيرة والمصير“. قاده عمله في سوق السراجين إلى التعرف على المناضل الشيوعي أحمد بن ميلاد الذي كان يزور متجر والده في ذلك السوق. علاقة صداقة ورفاقية قوية ربطت الرجلين لينظم السعداوي إلى الحزب الشيوعي التونسي سنة 1923، ثم انخرط بعد عام من انضمامه للحزب، في ”جامعة عموم العملة التونسية“ التي أسسها محمد علي الحامي.
بعد نشأته عام 1921 عقب مؤتمر تور، اكتسب القسم التونسي للحزب الشيوعي الفرنسي تدريجيا استقلالا نسبيا، تقول الباحثة إليز آباساد في بحث تاريخي بعنوان الحركة الشيوعية في تونس (1939-1956) ”كانت هذه المجموعة السياسية الصغيرة، النشطة بشكل خاص في تونس، أول من عارض الهيمنة الاستعمارية. كما أن الحزب الشيوعي التونسي هو المنظمة السياسية الوحيدة في تونس التي رحبت منذ السنوات الأولى لوجودها بالأوروبيين والتونسيين على حد السواء“ وهو ما سيكون أحد أسباب الخلاف مع رؤية نقابية ونضالية مختلفة في سنوات ما قبل الاستقلال.
بين سبتمبر 1934 وأفريل 1936، تعرض الحزب الشيوعي التونسي الذي لم يكن حزبا قانونيا منذ ماي 1922، إلى موجات قمعية. فقد اتخذ المقيم العام الفرنسي في تونس مارسيل بيروتون قرارا بإبعاد ثمانية من زعماء الحزب الدستوري وستة شيوعيين إلى قبلي. يقول بحث مشترك بين فرانسواز بلوم وماركو دي ماجيو وغابرييل سيراكوسانو وسيرج ووليكوف، بعنوان ”الأحزاب الشيوعية الغربية وأفريقيا“ إنه خلال الأشهر التي تلت ذلك القرار، لم يهدأ القمع ضد النشطاء الدستوريين والشيوعيين. ”وفي أعقاب كل توزيع للمنشورات التي تدين القمع الاستعماري، قامت الشرطة باعتقالات جديدة للناشطين. في البداية، طالت الحملة الناشطين المعروفين بالتزامهم الشيوعي منذ العشرينيات مثل: حسن السعداوي، الطيب دباب، ليون زانا، فالينزي، علي جراد وغيرهم، وسيمتد القمع أيضا إلى النشطاء الشباب أمثال جورج عدة ومحمد جراد، بالإضافة إلى مراقبة النشطاء الجدد الذين تم تجنيدهم ضمن الحزبين من مختلف الطوائف المقيمة في البلاد: مسلمون، يهود، فرنسيون، إيطاليون“.
كان حسن السعداوي قد اكتسب خبرة في العمل السياسي والنقابي، منذ انخراطه في الحزب الشيوعي التونسي فقد شارك سنة 1925 في الحملة التي قام بها الحزب الشيوعي التونسي ضد حرب الريف التي قادها الإسبان في المغرب، ليلقى عليه القبض ويسجن صحبة رفاقه علي جراد والهادي الغربي والطيب الدباب. هاجر سنة 1926 إلى فرنسا، وعمل في مصنع لسيارات سيتروان في باريس وانضم إلى منظمة ”نجمة شمال إفريقيا“ التي أسسها عمال جزائريون في فرنسا، ثم عاد إلى تونس ليهاجر إلى روسيا حيث درس في جامعة الشعوب الشرقية وظل في موسكو بين العامين 1931 و1933، ليسجن بعد عام من عودته إلى تونس بسبب نشاطه صلب الحزب الشيوعي التونسي ونضاله صلب الجامعة العامة للعمل الموحد، وهي إحدى النقابات الشيوعية التي تفرعت عن الكنفيدرالية العامة للشغل التي أصبحت ذات أغلبية اشتراكية، بعد ظهور الأممية الشيوعية الثالثة.
تقول الباحثة سنية مهذبي سوري في دراسة تاريخية بعنوان ”الخطوات الأولى للحزب الشيوعي التونسي في تونس المستقلة“ إنه ”في أعقاب موجة قمع قام بها المقيم العام بيروتون ضد الحركة الوطنية في سبتمبر 1934، تم ترحيل النشطاء الشيوعيين مثل علي جراد وحسن السعداوي وكذلك النشطاء الدستوريين إلى جنوب تونس. ومع صعود الجبهة الشعبية عام 1936 في فرنسا، خرج نشاط الحزب من السرية ورفع مجددا مطالبه الوطنية. إن تونسة الحزب وانتخاب علي جراد أمينا عاما له خلال المؤتمر الأول المنعقد يومي 20 و21 مايو 1939 المنعقد في أريانة، تجسدت في جريدة الطليعة الناطقة باللغة العربية، غير أنه بعد أربعة أشهر من ذلك، عاد القمع باندلاع الحرب العالمية الثانية. لعب الحزب الشيوعي التونسي دورا هاما خلال الحرب العالمية الثانية رغم الحظر والقمع الاستعماري ضد الحركة الوطنية عقب أحداث يوم 9 أفريل 1938 الدامية، واعتقل نشطائه سنة 1941 علي جراد، خميس الكعبي، عبد الله العبادي، والإيطالي ماوريتسيو فالنسي، بالإضافة إلى حكم الإعدام الذي صدر في البداية “على موريس نزار.
وتضيف ”مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، استأنف الحزب نشاطه ودعم المنظمات النقابية مثل الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي (U.S.T.T) الذي كان يرأسه حسن السعداوي، ورابطة صغار الفلاحين برئاسة الهادي فارح، واتحاد الشباب الديمقراطي، واتحاد نساء تونس، وكذلك دستور الحركة الشعبية للسلام التي كان رئيسها سليمان بن سليمان“.
تنافس نقابي ووحدة وطنية
منذ سنوات العشرينات، كانت الساحة السياسية في تونس تعج بكل الأيديولوجيات، وكان ذلك عاملا في تحديد المسافات في التفاوض مع سلطات الاستعمار من أجل مطالب وطنية من جهة، وفي العمل النضالي المشترك من جهة ثانية. وفي كل الحالات، كان العمل تحت يافطة الشيوعية محددا أساسيا للانقسام أو للتقسيم. تقول صوفي بيسّيس وسهير بلحسن في كتابهما ”بورقيبة“ ”حشد حزب الدستور، بقيادة أحمد الصافي وصلاح فرحات، الثلاثين ألف منخرط في جميع أنحاء البلاد. وقام عن طريق صحفه النديم ولسان الشعب ولوليبرال بحملة ضد مرسوم 20 ديسمبر 1923 الذي يسهل حصول التونسيين على الجنسية الفرنسية. من جانبه، واصل المقيم العام الفرنسي في تونس لوسيان سانت محاولة تقسيم المناضلين، واستغل تشكيل النقابات التونسية لاتهامهم بالتواطؤ مع الشيوعيين وقمع كل تحرك“.
اشتدت المنافسة في الساحة السياسة التي لم تنفصل أبدا على الساحة النقابية، ووصل ذلك التنافس إلى أوجه بين الزعيم النقابي فرحات حشاد وحسن السعداوي. يقول المؤرخ حبيب الكزدغلي لنواة إن حشاد والسعداوي كانا مناضلين في الكنفيدرالية العامة للشغل بين 1936 إلى غاية 1944، وأنهما في سنوات الثلاثينات قاما بمبادرات لتوحيد العمل النقابي واعتبرا أن ظروف الثلاثينات لم تكن هي نفسها في سنوات العشرينات. ويضيف الكزدغلي ”في مارس سنة 1944، انعقد مؤتمر للانتخابات في أقسام الكنفيدرالية العامة في تونس، غير أنه كان هناك قائمتان متنافستين، كان السعداوي مرشح قائمة النقابيين الشيوعيين وحشاد مرشح الاشتراكيين، وكان الشيوعيون خلال الحرب العالمية الثانية، لأسباب تاريخية وسياسية اغلبية في ذلك المؤتمر.
لم يستطع حشاد الفوز، في المقابل نجح السعداوي. ويذكر محمد النافع الذي أصبح أمينا عاما للحزب الشيوعي، أنه في نهاية المؤتمر، لم يستوعب صعوبة فشل شخصية مثل حشاد، واقترح عليه صحبة حبيب عاشور أن ينسحب أحد الفائزين في القائمة المنافسة ليصعد هو مكانه، غير أن فرحات حشاد رفض ذلك وانسحب من النشاط النقابي حينها واستقال من الكنفيدرالية، قبل أن ينضم إلى نقابة في صفاقس مستقلة عن الكونفدرالية، أسسها مسعود علي سعد، وهي البذرة الأولى للانقسام بين النقابيين المستقلين عن الكونفدرالية التي ستكون فيما بعد الاتحاد العام التونسي للشغل والنقابيون المنضمين للكونفدرالية فرع تونس والتي ستصبح فيما بعد اتحاد عملة القطر التونسي“.
تأسس الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي في أكتوبر 1946، أي بعد قرابة عشرة أشهر من تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل، وترأس حسن السعداوي الاتحاد النقابي، وكانت موازين القوى بين النقابتين متكافئة تقريبا، وحسب تقرير لوكالة الاستخبارات الأمريكية بتاريخ 16 أوت 1949، فإن النقابتين كانتا متكافئتين في عدد المنخرطين، الذين يتراوح عددهم بين 40 و50 ألف منخرط، لكل منهما. يقول التقرير إنه ”في السنوات القليلة الماضية، قاد الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي جهودا كبيرة ولكنها فاشلة، من أجل التأثير في توجهات الاتحاد العام التونسي للشغل. ونجاح ذلك يعني هيمنة كاملة للاتحاد النقابي على العمال في كامل تونس“. تخوف التقرير من التحاق عدد من منخرطين سابقين في الاتحاد النقابي باتحاد الشغل وإمكانية تأثيرهم السياسي عليه وأشار أيضا إلى أن زعيم الاتحاد فرحات حشاد كان عضوا في الكنفيدرالية العامة للشغل التي كان يهيمن عليها الشيوعيون.
يقول المؤرخ حبيب الكزدغلي إنه رغم ذلك التنافس، لم تختلف النقابتان في مطالبهما بالاستقلال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وجمعهما ميدان النضال إلى أن نالت تونس استقلالها.
مسيرة لم تشفع للمصير
في سبتمبر من العام 1956، قرر المناضل حسن السعداوي حل اتحاد عموم العملة، وأهدى مقره الكائن ب9 نهج اليونان للاتحاد العام التونسي للشغل، وقدم أيضا المركز الطبي التابع له لاتحاد الشغل. تقول ابنته تونس السعداوي ”أعتقد أن الحقبة الأهم هي ما قام به والدي في سبتمبر 1956، حيث قام بتلك المبادرة، وانتظر فقط اعترافا من الاتحاد بتاريخه النضالي في العمل النقابي على الأقل، وتروي والدتي شريفة السعداوي أنه ظل ينتظر إسناد مركز له صلب اتحاد الشغل قرابة العام والنصف حين كان أحمد بن صالح على رأس الاتحاد، غير أنه لم يتلق مقابل عمله النقابي، سوى وظيفة عامل نظافة في مستشفى عزيزة عثمانة. لم يتحصل أبي سوى على تلك الوظيفة ومرت عائلتنا بظروف مادية صعبة، وتوفي والدي وهو يحمل بطاقة انخراط في الاتحاد نصت على شيء واحد وهو عامل يومي“.
في بداية الستينات، أحكم بورقيبة قبضته على المشهد السياسي، خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضده، التي استخدمها ذريعة لقمع كل المعارضين بما في ذلك الحزب الشيوعي التونسي، الذي لم تكن له يد في محاولة الانقلاب. كان حسن السعداوي حينها يزور موسكو أحيانا للعلاج من مرض القلب، لكنه لم ينج من محاولات بورقيبة قمع قيادات حزبه الذي تم منعه، وفي 12 فيفري 1963، تم اقتياده للتحقيق في مخفر الشرطة بباب بنات بالعاصمة، لكنه لم يخرج منه حيا.
تروي زوجته الراحلة شريفة الدالي السعداوي في كتاب ”الزعيم الشهيد حسن السعداوي المسيرة والمصير“ أحداث ذلك اليوم وتقول إنها تسلمت جثة زوجها في منتصف ليل ذلك اليوم بواسطة شاحنة تابعة للمستشفى وأنها رفضت تسلمها قائلة ”إن الذي توفي زعيم نقابي ومناضل سياسي كبير وليس قطا، ولا بد من معرفة سبب وفاته“.
ويذكر الكتاب ذاته أن حسن الدالي شقيق شريفة الدالي عاين جثة حسن السعداوي في المستشفى، وشاهد آثار ضرب على جسده طالب بتشريح جثته لمعرفة سبب وفاته، غير أن وكيل الجمهورية منع الأطباء من الاستجابة لطلبه، ودفن في مقبرة الجلاز يوم 13 فيفري بحضور عدد من رفاقه. تقول تونس السعداوي لنواة ”لم تستسلم والدتي وقصدت وزير الداخلية الطيب المهيري لمعرفة سبب وفاة والدي الذي أجابها هذا حال أي سياسي“، ومن جهته يقول المؤرخ حبيب الكزدغلي إن وفاة حسن السعداوي غامضة فلا أحد يمكنه الحسم في سبب وفاته هل كان مرض القلب الذي يعاني منه أم أن الشرطة قتلته خاصة أن الروايات تختلف عن مكان موته في الطريق أو في مركز الشرطة الذي تم التحقيق فيه معه. ومنذ ذلك التاريخ، دُفن حسن السعداوي ودُفنت معه مسيرة أربعة عقود من النضال النقابي والسياسي.
سنة 2015، قرر الاتحاد العام التونسي للشغل إخراج حسن السعداوي من التعتيم الذي ضُرب على تاريخه النقابي، وأحيى لأول مرة ذكرى وفاته التي مر عليها 52 عاما. قال حسين العباسي الأمين العام للاتحاد آنذاك إنه ”لم يعد من المبرر اليوم، إطلاقا مواصلة إهمال ما قدمه حسن السعداوي خلال مسيرته النقابية والسياسية والوطنية وما تعرض له بسبب ذلك من إبعاد ونفي وإيقاف“. تقول تونس السعداوي إن والدتها سألت الحبيب عاشور حين زارته في مكتبه في إحدى المرات عن سبب غياب صورة زوجها ضمن صور المناضلين النقابيين فأجابها ”السلطة ترفض ذلك“.
و إلى حد الآن تنتظر عائلة حسن السعداوي عدالة التاريخ وعدالة القضاء من أجل رد الاعتبار لمناضل أنار جزء مهما من تاريخ تونس الحديث. كان السعداوي يصر على ارتداء الجبة والشاشية التونسية في كل مهماته النقابية والسياسية خارج تونس، سواء كان ذلك في أوروبا الغربية والشرقية أو الاتحاد السوفياتي وحتى الصين الشعبية، كان الرجل مشعلا متقدا نضالا عماليا واعتزازا بوطنه وهويته حتى انه اختار اسم تونس لفلذة كبده…كل ذلك لم يشفع له، لتكون نهاية حياته أليمة وسط العتمة.
iThere are no comments
Add yours