في ماي 2019، نشر المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية، مقطع فيديو قدمت فيه سلوى العباسي بن علي طرحها لإصلاح التعليم في تونس. تحدثت العباسي حينها بصفتها عضوا في لجنة الإصلاح التربوي بالاتحاد العام التونسي للشغل، وقالت بعد أن ختمت مداخلتها:
أتمنى أن يتحقق هذا المشروع وأتمنى أن يكون لي دور في المستقبل وألا يكون دوري تنظيري فحسب، وقيل إن النساء يمكنهن الترشح. يمكن ذلك فامرأة مستقلة مثلي تطمح لتحقيق شيء ما في هذا البلد.
سلوى العباسي
كانت تلك الجملة كنبوءة تحققت لسلوى العباسي وقادتها، بعد 5 سنوات، نحو منصب وزيرة التربية في أفريل 2024.
تشبه مسيرة وزيرة التربية إلى حد كبير مسيرة الرئيس قيس سعيد، فهي لم تنفك منذ أن كانت متفقدة عامة بولاية أريانة، على إثارة الجدل بتصريحات تتحدث عن الفساد أو عند طرح تصوراتها المتعلقة بتغيير المنظومة التربوية برمتها. كانت الوزيرة كمن يصب الزيت على النار في تصريحاتها أو المواقف التي تدلي بها، آخرها يوم 11جوان في إذاعة جوهرة أف أم حيث قالت إنه من الصعب مقاومة الغش في جهة مفتوحة على التهريب وأضافت ”عوض أن يتربى الطفل على التربية والصدق والأمانة، فإنه يتربى على التهريب، لتبدو له هذه المسألة عادية“، طرحت الوزيرة حلا لمكافحة الغش في المناطق الحدودية يقوم على إنشاء مناطق للتبادل الحر في ”مناطق التهريب وهي جندوبة والقصرين والجنوب“، حسب قولها.
أثار هذا التصريح غضب الاتحادات الجهوية بجندوبة وقفصة وتوزر وقبلي حيث أصدرت بيانين استنكرت فيهما تصريح الوزيرة. يقول خالد العبيدي الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بجندوبة في حديثه مع نواة إن التصريح الذي أدلت به وزيرة التربية مهين لتلاميذ الجهة، وإنها رغم تقلدها مسؤولية صلب اتحاد الشغل قبل توليها منصب الوزيرة، فإن الاتحاد بريء من تصريحاتها. يضيف العبيدي ”لا يمكن لأي كان أن يمس من أبناء المناطق الحدودية وأن يصفهم بما نعتتهم به الوزيرة التي لمحت صراحة إلى عدم أمانة أبناء جهة جندوبة وبالتالي استعدادهم للغش، هذا التصريح لا يشرف النقابيين ولا أي مسؤول. لقد طالبنا في بياننا الذي أصدرناه عقب تصريح الوزيرة باعتذار الوزارة لأبناء الجهة الذين يشهد التاريخ على دفاعهم الدائم عن وطنهم وأمانتهم. على كل حال ستنتهي عهدة الوزيرة يوما ما وسيكون من الصعب رجوعها إلى المنظمة الشغيلة، فهي التي وعدت بإصلاح المنظومة التعليمية قبل أن تتراجع حين تقلدت منصبها وتصرح بأن الوزارة ملزمة بتطبيق مخرجات الاستشارة الوطنية حول التعليم“.
رغم مطالبة الاتحادات الجهوية الأربعة في بيانين منفصلين، الوزيرة بالاعتذار، إلا أنها تشبثت بموقفها خلال تصريحها في نقطة إعلامية الثلاثاء 25 جوان، مفيدة ”أنا أقول الحقيقة ومن طلب مني الاعتذار فلن أعتذر“، مضيفة أن الجهات التي لم تشهد حالات غش ”تحمل مواريث اجتماعية وقيمية“ حصنت نفسها من الغش في الامتحانات من ”الداخل ومن الأسرة والثقافة التي تحملها“ حسب ما نقلته عنها إذاعة موزاييك أف أم.
جدل قديم جديد
بمجرد صدور قرار إقالة محمد علي البوغديري من منصب وزير التربية وتعويضه بسلوى العباسي، توجه رواد الفايسبوك إلى حسابها الشخصي على موقع التواصل للاطلاع على ما تكتبه ومعرفة مواقفها، وكانت أبرز ثلاث منشورات للوزيرة والتي أثارت جدلا هي وصفها للمتظاهرين في الأحياء الشعبية خلال أحداث جانفي 2021، بالأبناء غير الشرعيين للوطن، حيث كتبت العباسي في تدوينتها آنذاك ”نصيحة إلى أساتذة العربية: بمجرد عودتكم، شدوا هاك الفروخ إلي تقريو فيهم وخاصة في الأحياء الشعبية (العبارة مقصودة لأنهم أبناء غير شرعيين للوطن) ولقنوهم الدروس الضرورية في المواطنة والوطنية والتربية على الانتماء…أخرجوهم إلى الساحة ليقوموا بحركات رياضية أشبه بالتدريبات العسكرية، روضوهم حتى لا تلتحق وحوش الليل الصغار بوحوش النهار الكبار“. تقصد سلوى العباسي بتدوينتها تلك المتظاهرين في الأحياء الشعبية الذين تحركوا عقب احتجاجات كبيرة من أجل الضغط على مجلس النواب لسحب مشروع قانون زجر الاعتداء على القوات المسلحة المثير للجدل.
لم تكن تلك التدوينة الوحيدة التي شدت رواد فايسبوك، فقد سبق أن نشرت الوزيرة على حسابها الشخصي الذي قامت بحذفه فيما بعد، تدوينة في ماي العام الماضي، هددت فيها بالانتحار حرقا أمام وزارة التربية أو إحدى الهياكل التابعة لها وذلك بعد أن بلغها قرار محتمل بإيقافها عن العمل.
عدم ارتياح الوزيرة لماضي التدوينات على شبكة فيسبوك لم يقتصر على صفحتها الشخصية، فقد فوجئ المتابعون لأخبار وزارة التربية والتعليم باختفاء الصفحة الرسمية للوازرة على فيسبوك. حذف صفحة الوزارة لم يكن بسبب تعرضها للقرصنة كما تصور أغلب المتابعين، بل كان قرارا من الوزيرة نفسها برره منذر عافي، مدير الإعلام والاتصال بالوزارة في تصريحات إعلامية، بأنه يندرج ضمن خطة اتصالية في إطار رؤية متكاملة للوزيرة، يتم بمقتضاها تهيئة الصفحة واعادة نشرها من جديد.
قد تبدو وزيرة التربية مجهولة للمهتمين بالشأن السياسي، غير أنها لم تكن كذلك بالنسبة للأساتذة وخاصة لنقابة التعليم الثانوي، فقد خاضت صراعا مع النقابة المعنية احتد سنة 2017، حيث وصفت النقابة قائلة في رسالة وجهتها إلى وزير التربية آنذاك ناجي جلول ”من دواعي الواجب التربوي وغيرة على منظمة حشاد قلعة كل التونسيين أن أرسل رسالة عاجلة إلى وزير التربية القادم أسوق من خلالها جملة من المحاذير تهمّ العلاقة المستقبلية للمسؤولين عن ملفّ التّعليم وإصلاحه بنقابات التعليم الأكثر عددا ونفوذا داخل الاتحاد، الطامحة إلى قدر أقصى من التحكّم والتغوّل والانفراد بالسياسة التربوية للبلاد“، واصفة نقابة التعليم الثانوي بأنها تحولت ”إلى الحاكم الفعلي في سياسة الدولة ووزارة التربية وأنها تفرض أوامرها ونواهيها على المسؤولين والمندوبين ومديري التربية مركزيا وجهويا“، كان ذلك على خلفية رفض العباسي حين كانت متفقدة عامة في التعليم فتح مشرب خلال شهر رمضان في مركز إصلاح امتحان ختم التعليم الأساسي بالمعهد النموذجي بالمنزه الثامن. صدامات العباسي مع نقابة التعليم الثانوي تواصلت بعد تقديم شكوى ضدها سنة 2021 إثر نشرها فيديو داخل أقسام في معاهد تابعة لولاية أريانة دون إذن من الإدارة ودون تغطية لوجوه التلاميذ، وكانت العباسي قد اعتبرت أن الحق في التعلم يفوق الحق في عدم كشف وجوه التلاميذ.
وصل صراع سلوى العباسي مع نقابات اتحاد الشغل التابعة للتعليم إلى ذروته حين قدم الاتحاد الجهوي للشغل بأريانة عريضة لوزير التربية في 5 ماي 2023 أمضتها الفروع الجامعية للتربية بأريانة التابعة لاتحاد الشغل، جاء فيها أن ”المتفقدة سلوى العباسي أصبحت تمثل عنصر توتر بالجهة وذلك من خلال تجاوزاتها المتكررة واللاقانونية إلى حد أنها أصبحت تتدخل في مجالات لا تعد من اختصاصها وآخرها طرد أستاذة من الفصل وحجز التلاميذ بإعدادية النصر لتسجيل تصريحاتهم“، قبل أن تتم نقلتها من أريانة إلى بنزرت والتي أرجعتها العباسي آنذاك إلى كشفها ملف تدليس شهادات وطنية تورط فيها المندوب الجهوي للتربية في أريانة حسب قولها، حادثة قد تكون وراء خلافتها للبوغديري على رأس الوزارة. في المقابل، هاجمت العباسي النائب سامية عبو سنة 2015 والتي اتهمت ناجي جلول، وزير التربية آنذاك بأنه كذب على مجلس النواب حين عيّن شقيقه على رأس لجنة تنفيذ برنامج المدرسة الرقمية، وقالت العباسي مدافعة عن جلول ”وإن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا.. و سامية عبو أجهل ما تكون بطبيعة عمل المتفقدين“، مضيفة أن جلول عين شقيقه بعد أن اعتذر متفقد آخر عن تكليفه بذلك المنصب.
يبدو دفاع سلوى العباسي حينها عن ناجي جلول مفهوما، فقد عملت معه في المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية، وقدمت رؤيتها للإصلاح التربوي القائمة أساسا على ما تطلق عليه اسم المدرسة التعاونية.
مشروع المدرسة التعاونية
في فيديو بطول 21 دقيقة نشره المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، والذي قدم سلوى العباسي كخبيرة لديه، طرحت العباسي مشروعها للإصلاح التربوي، وقالت في ذلك الفيديو إن مشروعها قائم على سياسة التفكير:
كان لا بد أن أؤسس لمنوال جديد أطلقت عليه المنوال التعاوني ولست مبتدعة الاسم فالمدرسة خلفيتها اجتماعية نفعية، وأن استراتيجية الإصلاح يجب أن تكون تونسية لا شرقية ولا غربية.
تضيف سلوى العباسي أنه يجب أن يتم تقييم المنظومة التربوية من الخارج ولا يمكن أن تقيم وزارة التربية نفسها بنفسها.
فسّرت العباسي مشروع المدرسة النفعية بأنه رؤيتها الإصلاحية التي تبشّر بها وتضيف ”غالبا ما نتحدث عن تحمل الدولة وحدها أعباء المدرسة كأنها شأن الدولة فحسب، وهو سبب المشكل. إن تسمية المنظومة العمومية يحتاج لمراجعة لأنه أصبح منوالا متآكلا، ومفهوم النظام العمومي يقوم على مفهومية ثلاثية وهي المجانية والإجبارية والعمومية، وهذا يحتاج إلى مراجعة. بالتالي فإن التحول من العمومي المطلق الذي تتحمل فيه الدولة كل مشكل يحصل حيث يقع عليها العبء، سيتحول إلى المفهوم التعاوني الذي يجعلنا نوجه الاتهام لأنفسنا قبل توجيه الاتهام للوزارة أو الدولة“.
تفكك سلوى العباسي مفهوم المدرسة التعاونية بوصفها بالمدرسة المدللة أو المحظية في قلب المجتمع، يصبح فيها المواطن فاعلا في تمويل المدرسة وفي بناء خطط إصلاحها وفي متابعتها وتقويمها وحوكمتها. يقوم هذا المفهوم على مساهمة المواطنين في تمويل المدارس ومتابعتها من جهة، وعلى إدماج المدارس الخاصة ضمن المدارس العمومية لضمان بنية تحتية جدية وتعليم متميز حسب قولها. تقول العباسي ”المنوال التعاوني يتطلب أيضا صهرا للمنظومة العمومية والمنظومة الخاصة. وهذا المنوال لا يجب أن يقطع مع مجانية التعليم للفئات الفقيرة والمحرومة. فكرة إدماج المدارس الخاصة مع العمومية قائمة على تحويل كل من يريد فتح مشروع مدرسة خاصة خارج المنظومة العمومية نحو الدعم والاستثمار في المدرسة التعاونية حتى نوفر مدارس جيدة يتوفر فيها الماء والكهرباء مثلا تضمن تقديم تعليم جيد“. تطرح سلوى العباسي أيضا ما تسميه التدريس بالمقاربة بالمنهاج لا بالبرامج والتي تعتمدها المدرسة العمومية، وتقول إن من مساوئ التدريس بالبرامج أنه استراتيجية مفتتة ومجزأة على عكس المنهاج الذي يدعو إلى بيداغوجيا متواضعة ووجيهة حسب قولها.
عناوين وتجارب إصلاحية متتالية عرفتها المنظومة التربوية التونسية، إلا أن مجملها لم ينجح في إعادة الاعتبار للتعليم. واقع يطرح اشكالية جدوى هذه التجارب ومدى نجاعة آليات التقييم المعتمدة. لمعرفة أسباب التراجع وسبل الإصلاح الجدي، التقت نواة الأستاذ الجامعي حسن العنابي، المختص في التاريخ المعاصر والمشرف على دراسة جودة المنظومة التربوية في تونس.
يذكّر الطرح الذي تقدمه وزيرة التربية بمشروع الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي لإصلاح التعليم والذي أطلق عليه اسم مدرسة الغد، الذي تحدث عن الجانب الكمي وتجزئة المعرفة والتعليم القائم على المركزية وهي مصطلحات استعملتها الوزيرة في طرحها لمشروع الإصلاح الذي تقدمه. بعد توليها الوزارة اصطدمت أفكار العباسي الطوباوية بتصريحاتها المثيرة للجدل، من ذلك تصريحها المتعلق بارتباط الغش في الامتحانات بتفشي التهريب في الولايات الحدودية، وسيرا على درب الرئيس قيس سعيد، قالت إن من سربوا امتحانات الباكالوريا يريدون إرباكها وإرباك الوزارة ضمن مؤامرة على الدولة التونسية وعلى وزارة التربية. كما هددت الأساتذة النواب الذين انتقدوا الوزارة على مواقع التواصل الاجتماعي بفسخ عقودهم مشددة على أنها ستنفذ وعيدها.
في 2023 خلال مداخلة في الإذاعة الوطنية قالت العباسي إن الاستشارة الوطنية لم تعتمد عينة وبالتالي فإنها شعبوية، لتعدل موقفها بعد توليها منصب الوزيرة بأن وزارة التربية بدأت باتخاذ إجراءات من أجل تأكيد مصداقيتها في تجسيد مخرجات الاستشارة الوطنية حول الإصلاح التربوي وتطبيقها.
تدوينات العباسي المثيرة للجدل التي اختفت بعد حذف صفحتها من شبكة فيسبوك، لم تقتصر على الشأن التربوي و مقترحاتها ”الثورية“ بل امتدت إلى التعليق الساخر على تصريحات الرئيس سعيد، حيث كتبت سنة 2020 مدافعة عن أنس جابر ”يا قيس سعيد متاع اللحظة التي لم تأت وسوف تأتي، وإن أنت دخلتنا في حيط وبدينا ندخلو في حيط في جرة خياراتك“، قبل أن تقبل بمنصب وزيرة في حكومة تُخط كل مساراتها داخل القصر الرئاسي، وتسير في ركب المنخرطين.
iThere are no comments
Add yours