في 22 نوفمبر 2022، أصدرت هيئة الانتخابات قرارها عدد 31 المنقح للقرار عدد 8 لسنة 2018، المتعلق بتغطية الحملة الانتخابية، وصدر ذلك القرار رغم أن نشاط الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري لم يتوقف آنذاك. كانت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين قد رفضت ذلك القرار فور صدوره ووصفته بأنه انحراف بالسلطة المخولة لهيئة الانتخابات وأنه ”خرق للمرسوم 116 المحدث للهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، معتبرة أنه حتى في صورة غياب قرار مشترك فإن الولاية العامة على وسائل الإعلام للهايكا تظل نافذة بنفاذ المرسوم عدد 116 والقانون الانتخابي وكراسات الشروط في تعديل المضامين السمعية والبصرية في كل سياقاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والانتخابية طبقا للمبادئ العامة المنظمة لها“.

استحوذت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات على صلاحيات الهايكا، ونشرت القرار المذكور الذي نصّت في فصله الأول الجديد على أنه ”للهيئة العليا المستقلّة للانتخابات الولاية الكاملة على الشأن الانتخابي دون سواها“، كما نصت في فصله 13 على أن ”تسلِّم وسائل الإعلام المخطّط التفصيلي للبرامج المخصصة لتغطية الحملة الانتخابية للهيئة وذلك قبل انطلاق الحملة الانتخابية أو حملة الاستفتاء وتقوم بنشره بالموقع الإلكتروني الخاص بها“.

مصفاة السلطة

إحالة رئيس الهايكا النوري اللجمي على التقاعد في جانفي 2023 مهد لتجميد مجلسها وتكليف إداري بتسييرها – الموقع الرسمي للهايكا

شكّل تعطيل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري بعد إحالة رئيسها على التقاعد، ثم حل مجلسها، فرصة مناسبة لهيئة الانتخابات لمشروعية ولايتها العامة على مراقبة المضامين الصحفية خلال فترة الانتخابات، فمنذ جانفي الماضي، يسيّر الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري كاتبها العام بعد تجميد مجلسها، ولا يتمتع مسيّر الهيئة بأية صلاحية قانونية من الصلاحيات التي نص عليها المرسوم عدد 116، من ذلك اتخاذ قرارات وعقوبات ضد وسائل الإعلام المخالفة للمرسوم 116 ولقانون الانتخابات، فبعد الشغور الحاصل في مجلسها، لا يحق للهايكا قانونا اتخاذ قرارات لأن العقوبات يسلطها مجلس الهيئة دون غيره، حسب ما نص عليه المرسوم المذكور.

في ظل تجميد الهيكل التعديلي الوحيد، وسّعت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات من صلاحياتها بتعديل القرار عدد 8 لسنة 2018، بإضافة فصلين خطيرين يهددان حرية التعبير وحق الجمهور في المعلومة، الأول بتوسيع مدة الفترة الانتخابية التي تبدأ قبل الحملة الانتخابية بشهرين إلى غاية الإعلان عن النتائج النهائية، وفق ما نص عليه الفصل  الثاني الجديد من القرار الذي قامت الهيئة بتعديله مرة ثانية يوم الجمعة 20 جويلية 2024، أما التعديل الثاني فيخص الفصل 18 الذي أضافت فيه الهيئة فقرة تنص على إمكانية لجوئها للقضاء الاستعجالي من أجل إيقاف أي مضمون إعلامي مهما كان نوعه، لا يستجيب للقانون أو لقراراتها حسب الفصل المذكور. بدأت الهيئة في تنفيذ الفصل الثاني من القرار حتى قبل صدوره وذلك حين أرسلت  إشعارا يوم 6 فيفري 2024 لنواة بشأن مقال نُشر على الموقع بتاريخ 26 جانفي 2024، يتناول القضايا السياسية والقضائية المتعلقة بالتآمر على أمن الدولة، حيث اعتبرت الهيئة أن المقال المذكور خرق قواعد الحملة الانتخابية وواجب الحياد، وأورد أخبارا زائفة قد تضلل الناخبين، رغم أن تاريخ الاقتراع في  انتخابات المجالس المحلية كان يوم 24 ديسمبر 2023، أي قبل أكثر من شهر من صدور المقال المذكور إضافة إلى أنه مقال رأي تحليلي لم يخض البتة في الشأن الانتخابي، ما ينبئ بأن التغطية الصحفية للانتخابات الرئاسية القادمة ستواجه مطبات ضبابية لا تخضع لقانون الانتخابات أو للمراسيم المنظمة للصحافة بل لقرارات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ولتكييف مجلسها وهي قرارات أصبحت تعلو على القوانين والمراسيم.

طريق غامض قد يؤدي إلى السجن

من المنتظر أن تصدر النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ورقة توجيهية للصحفيين في علاقة بتغطية الانتخابات الرئاسية، الهدف منها منطلق للتغطية المهنية، حيث ستتعرض هذه التوجيهات مثلا إلى مسألة التعاطي مع قضيتين الأولى التغطية المهنية لنشاط الرئيس قيس سعيد بصفته رئيسا وكيفية فصل تلك التغطية عن نشاطه في علاقة بحملته الانتخابية بعد إعلان ترشحه، حتى لا يقع الصحفيون في دعاية مبطنة لمترشح على حساب آخر.

ويواجه الصحفيون هاجسا آخر يتعلق بتغطية حملات المترشحين المحتملين الذين تتعلق بهم تتبعات قضائية، خاصة أنه سبق أن تم سماع الصحفية خلود المبروك، والممثل القانوني لإذاعة ”إي أف أم“  من قبل الفرقة المختصة للحرس الوطني بثكنة العوينة يوم 24 أفريل الماضي على خلفية حوارين أجرتهما مع كل من سمير ديلو، عضو هيئة الدّفاع في ما يعرف بقضيّة ”التآمر على أمن الدولة“ ومع مبروك كرشيد الصادرة في شأنه تتبعات قضائية وإجراء منع من السفر، ما يعني أن الصحفيين قد يواجهون ملاحقات قضائية خلال تغطيتهم لنشاط أو حملة مترشح محتمل مشمول بعقوبة منع التداول الإعلامي، رغم أن قرار الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ينص في فصله الرابع على أنه ”يتعين على وسائل الإعلام خلال الحملة احترام مبدأ المساواة وضمان تكافؤ الفرص بين المترشحين“.

منذ أن أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن بداية الفترة الانتخابية، لجأت بعض وسائل الإعلام إلى البحث عن حلول من أجل تناول إعلامي مهني لا ينصهر مع تعليمات الهيئة بالكامل من جهة، وتجنب الملاحقات القضائية مثل محاورة مترشحين محتملين غير مشمولين بتتبعات قضائية حتى لا يكون مصيرهم مثل مصير الصحفية خلود المبروك.

17 ديسمبر 2022 قيس سعيد يخرق الصمت الانتخابي بإلقائه كلمة داخل مركز اقتراع بثتها التلفزة الوطنية – رئاسة الجمهورية

يقول زياد دبار رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في تصريح إذاعي إن المناخ الانتخابي لا ينبئ بوضع جيد بالنسبة للصحفيين خلال الفترة الانتخابية ويضيف إنه مقارنة بالانتخابات الرئاسية لعام 2019، تراجع مناخ الحريات بشكل عام طال المترشحين للانتخابات والصحفيين وكل التونسيين إجمالا ويفسر دبار ذلك بالقول إن ”التضييقات زادت حدتها. هناك أسئلة هل سيكون هناك نقاش عام حول برامج المترشحين؟ العملية الانتخابية ليست يوم الاقتراع، بل هي مسار كامل يقيم فيه الناخبون السلطة ويصوتون بناء على ذلك النقاش. إلى حد الآن لا يوجد هذا النقاش ولا توجد بوادر الزخم الانتخابي المعتاد. ما يقلق هو البيان الأخير لهيئة الانتخابات الذي نص على تهديد ووعيد لكل شخص يشوه الهيئة. هيئة الانتخابات نصبت نفسها وليا على قطاع الصحافة وهو أمر خطير لأنه ليس من دور الهيئة الوصاية على الإعلام وليس لها الأهلية أو الخبرة للحكم على جرائم الثلب من عدم مثلا. وعلى أي أساس ستقيم المخالفات المتعلقة بالمضامين الصحفية على أساس المرسوم 115 المنظم لقطاع الصحافة والنشر أو على أساس المرسوم 54“. يحمل رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين السلطة الحالية مسؤولية الوضع الحالي في علاقة بتنصيب الهيئة العليا للانتخابات نفسها وصيا على المضامين الصحفية خلال فترة الانتخابات ويقول:

وصلنا إلى هذا الوضع لأن السلطة الحالية جمّدت الهيئة العليا المستقلة للقطاع السمعي والبصري التي تملك خبرة في مراقبة الإعلام السمعي والبصري فلن يكون هناك قرارات مشتركة بين الهيئتين وبالتالي يجد الصحفيون أنفسهم تحت طائل قرار أحادي تتخذه هيئة الانتخابات. الصحفيون اليوم مهددون بموجب الولاية العامة لهيئة الانتخابات بموجب المرسوم 54 في علاقة بالأخطاء المهنية، وهو المرسوم الذي تستند عليه الهيئة دائما. فعن أي مناخ نتحدث. السلطة السياسية القائمة ضربت هيئة التعديل الذاتي فتشكل فراغ ملأه القضاء وهيئة الانتخابات.

زياد دبار

لا تنبئ الانتخابات الرئاسية القادمة بمضامين صحفية منصفة لكل المترشحين في ظل الخوف من المرسوم عدد 54 الذي سُجنت بموجبه مؤخرا كل من سنية الدهماني وبرهان بسيس ومراد الزغيدي…، في المقابل اعتمدت بعض وسائل الإعلام العمومي والخاص الرقابة على المضامين الصحفية المتعلقة بأحزاب أو مترشحين للانتخابات الرئاسية وآخرها في وكالة تونس إفريقيا للأنباء وجريدة الصباح. وكانت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين قد نبهت إلى ”تجاوزات وشكاوى تتعلق بصنصرة المضامين في وسائل الإعلام العمومية على غرار وكالة تونس إفريقيا للأنباء ومؤسستي التلفزة والإذاعة التونسيتين“.

أما الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فبدا أنها ستعتمد الكيل بمكيالين بخصوص رصد المخالفات التي يرتكبها المترشحون، حيث رد رئيسها فاروق بعسكر على سؤال إذاعة ديوان أف أم بخصوص استعمال سعيد المرفق العمومي لإعلان ترشحه، وهو أمر مخالف للقانون، بإن ”مهمة الهيئة هي مراقبة الإشهار السياسي وسبر الآراء خلال الحملة الانتخابية“.