تواجه الهيئات الوطنية المستقلّة منذ قرابة الثلاث سنوات اختبارات عسيرة أمام السلطة، بخيارين لا ثالث لهما؛ إمّا الاصطفاف إلى جانب السلطة أو تجميد مقصود لنشاطاتها عن طريق عدم سدّ حالات الشغور فيها أو قضم جزء من صلاحيّاتها أو إغلاقها. في أوت سنة 2021، أنهى الرئيس قيس سعيّد مهام الكاتب العام للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أنور بن حسن، وكُلّف المسؤول عن الشؤون الإدارية والمالية في الهيئة بتصريف أعمالها بشكل مؤقت. في المقابل أخلت قوات الشرطة مقرّ الهيئة من جميع الموظفين العاملين بها بأمر من وزارة الداخلية وأشرف والي تونس على عملية الإخلاء آنذاك. ومنذ ذلك التاريخ، لم يُفصَح عن أسباب غلق الهيئة ولا عن مصيرها، حتّى أنّ لجنة تنظيم الإدارة وتطويرها والرقمنة والحوكمة ومكافحة الفساد بالبرلمان وجّهت رسالة في صائفة العام الماضي إلى رئاسة الجمهورية تستوضح فيها مآل الهيئة غير أنّها لم تتلق أي ردّ. وهو ما دعاها في نوفمبر الماضي إلى طلب توجيه رسالة ثانية لسعيد باسم رئيس المجلس.

في العام 2020، نشر المؤرخ الفرنسي بيار روزانفالون كتابه ”قرن الشعبوية“، ليتحدّث في جزء منه عن ثلاث لحظات شعبوية حفرت عميقا في تاريخ الحياة السياسية في القرنين التاسع عشر والعشرين في بعض دول العالم. أعاد المؤلّف قراءة مسألة الارتباط المباشر بين الحاكم والشعب، عبر سُبل مباشرة مثل الاستفتاء. حيث يصاحب هذا الإيمان بالارتباط المباشر عدم ثقة دائمة في الأحزاب والمنظمات والصحافة التي تمثّل مجالا قويّا للريبة والشكّ لدى الحاكم ذي السمات الشعبوية. ويعود السبب في كل ذلك حسب روزانفالون هو إيمان هذا النوع من الحكّام بعدم إمكانيّة وجود هيئات شرعيّة وسيطة بين الشعب والسيادة.

يقول شوقي قداس، رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية الأسبق، في تصريح لموقع نواة إنّ ”المشكلة التي تواجهها جميع الهيئات الوطنية المستقلّة في تونس هو أنّه لم يعد هناك إيمان بأي شكل من الأشكال بضرورة وجود هذه الهيئات الوسيطة. وسبق للرئيس قيس سعيّد بأن قال بأنّ هذه الهيئات هي بصدد هدم الدولة من الداخل. سعيّد يؤمن بما كان يؤمن به أستاذه المرحوم عبد الفتاح عمر الذي كان يسمي الهيئات المستقلة بالهيئات البينمية، ويعني بها كل الهياكل التي تكون رابطا بين الدولة والمجتمع. مثل البلديّات والهيئات المستقلّة وغيرها“.

هيئات مقطوعة الرأس

تعتمد الحكومة في تونس على حالات الشغور في تركيبة الهيئات الوطنية المستقلّة كسلاح لتكبيل نشاطها. وتُبرز أربع أمثلة لهيئات وطنية عجزت عن تنفيذ مهامها، أنّ سياسة عدم تعيين أو انتخاب أعضاء أو رؤساء جدد في تلك الهيئات متعمّدة. ففي أفريل 2021، عيّن الرئيس قيس سعيّد توفيق شرف الدين على رأس الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية بعد إنهاء مهام رئيسها توفيق بودربالة. وكان تعيين شرف الدين المقرّب من سعيّد، على رأس الهيئة، بمثابة مكافأة له بأن أسند له منح وامتيازات وزير. ظلّ شرف الدين على رأس الهيئة مدّة ستّة أشهر قبل أن ينصّبه وزيرا للداخلية من جديد في أكتوبر 2021. منذ ذلك الحين، لم يُعيّن أيّ رئيس جديد للهيئة، واستقال أغلب أعضائها منها، رغم أنّ موقع الهيئة الرسمي ما يزال ينصّ إلى غاية اليوم على أنّ رئيسها هو توفيق شرف الدين.

ولا يختلف وضع الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة عن وضع هيئة النفاذ للمعلومة التي غادرها رئيسها عماد الحزقي ليتولى منصب وزير الدفاع في فيفري 2020. منذ تلك التاريخ، يسيّر عدنان لسود الهيئة بالنيابة، إضافة إلى استمرار الشغور في منصب عضو ممثّل عن الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية في مجلس الهيئة، بعد خروج شوقي قداس من رئاستها. وقد طالبت هيئة النفاذ للمعلومة في جوان الماضي رئيس مجلس النواب إبراهيم بودربالة بضرورة سد الشغور في رئاسة الهيئة وفي مجلسها، غير أنّه لا توجد أيّ بوادر لحلّ هذه المشكلة. وتواجه الهيئة مصير التجميد في حال استقالة الرئيس بالنيابة عدنان لسود، خاصّة أن تركيز أعضائها من مهام مجلس نواب الشعب.

كما تواجه هيئة النفاذ للمعلومة نقصا في الموارد البشرية بسبب عدم صدور الأمر التطبيقي المتعلق بالنظام الخاص بأعوان الهيئة إضافة إلى أمرين تطبيقيين آخرين يتعلّقان بالهيكل التنظيمي للهيئة وبتنظيم خطّة المكلّف بالنفاذ للمعلومة لدى الهياكل العمومية.

من جهة أخرى، تتولّى نائبة الرئيس الأسبق للهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية تسييرها منذ ستة أشهر، بعد خروج رئيسها شوقي قداس، مع العلم أنّ عهدتها تنتهي في أفريل القادم. يقول قداس لنواة؛ ”غادرت الهيئة منذ 31 جويلية الماضي، ولم يقع تسمية رئيس لها. ظلّت الرئيسة بالنيابة بين جويلية وديسمبر دون صلاحيّة التصرّف أو الإمضاء على مسائل مالية ولم تتمكّن من الحصول على صلاحيّة تصريف الأعمال الماليّة للهيئة إلا بعد ستة أشهر من تسلّمها مهام الرئاسة بالنيابة“. ويضيف قداس أنّ وضعية كل الهيئات الوطنية متشابهة، مثل الهيئة العليا لحقوق الإنسان وهيئة مكافحة الفساد التي تمّ تجميد نشاطها صوريّا. كما ينسحب الأمر على الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري بعد أن أحيل نوري اللجمي على التقاعد ولم يقع تسمية رئيس بعده منذ عام، حيث يسيرّها كاتبها العام.

عقاب جماعي للهايكا

في 7 فيفري الماضي، نشرت الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري بيانا قالت فيه أنّ اللجمي تلقى مراسلة من رئاسة الحكومة تعلمه فيها بإحالته على التقاعد بداية من جانفي 2023. جاءت هذه المراسلة بعد أسبوع تقريبا من صدور بيان عن الهيئة يوم 1 فيفري من ذلك العام، تقول فيه إنّ ”نوري اللّجمي سيواصل رئاسة الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السّمعي والبصري إلى حين صدور إطار قانوني جديد لها“. وقد استند بيان 1 فيفري على صدور قرار في الرائد الرسمي يوم 24 جانفي 2023 يتعلّق بمنح اللّجمي ”استثناء على سبيل التسوية للعمل بالقطاع العمومي بعد بلوغ السن القانونية للتقاعد“. ويقوم كاتب عام الهيئة منذ إحالة رئيسها السابق على التقاعد بتسيير أعمالها الإدارية. من جهة أخرى، أعلمت رئاسة الحكومة في ديسمبر الماضي الهيئة بقرارها إيقاف أجور أعضاء مجلسها بداية من جانفي 2024، وهو ما يعني تجميد مجلسها.

يقول هشام السنوسي العضو السابق للهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري في تصريح لنواة؛ ”إنّ فلسفة السلطة الحالية هي ضدّ الهيئات والأجسام الوسيطة. رفعنا دعوى ضد قرار الحكومة بإيقاف عمل مجلس الهيئة في المحكمة الإدارية. الهايكا خاضت كل المعارك من أجل الدفاع عن استقلاليّتها وصلاحيّاتها وما أتته رئاسة الحكومة مخالف للمرسوم عدد 116. السلطة تريد تحويل الهيئات المستقلة إلى أجهزة إدارة مثلما حصل مع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي قامت بالسطو على مهام هيئة الاتصال السمعي والبصري. نحن نعيش في فوضى تشريعية عارمة، والسلطة تقوم بنسف كل ما له علاقة بالحوكمة الرشيدة والحقوق“.

يرجع هشام السنوسي قرار تجميد مجلس الهيئة إلى رسالة وجّهها إلى الرئيس قيس سعيّد يطالبه فيها بضرورة ممارسة صلاحياته الدستوريّة وإرساء عفو خاصّ عن الصحفيين المسجونين وإلغاء المرسوم عدد 54. ليضيف؛ ”لقد تمّت معاقبة الهيئة لأنّنا نبّهنا الرئاسة من خطورة ضرب حريّة التعبير وأفصحنا عن رأينا في الانتخابات التشريعية والبلدية ووصفناها بأنّها تضرب حريّة التعبير لأنّها حرمت الأحزاب من الترشّح“.

بعد أن حوّل القضاء والتشريع إلى وظائف تسبّح بحمده، يواصل الرئيس قيس سعيّد خطتّه في نسف كل الأجسام الوسيطة وعلى رأسها الهيئات الوطنية التي فضّل أغلبها الموت في صمت عوضا عن المقاومة. صمت بدأ ينتشر داخل المجتمع كالعدوى بعد أن صارت الملاحقات والسجن بسبب معارضة أهواء الرئيس أمرا مألوفا بل محلّ تندّر وتشفّ من جوقة الحكم المنتصرة دائما لكرسي قرطاج.