وجّه قيس سعيّد خلال لقائه بمديرة مؤسسة التلفزة عواطف الصغروني، لومًا للتلفزة التونسية حول كيفيّة ترتيب أخبارها وقال إنّ ذلك الأمر ليس بريئا، متسائلا: ”لماذا لا يتمّ بثّ جملة من البرامج التي تتعلّق بمطالب التونسيين؟ ديسمبر 2010، وجانفي وفيفري 2011؟ تلك اللحظة التاريخية التي عاشها الشعب التونسي ويُراد التّعتيم عليها في كثير من وسائل الإعلام الأخرى“، مشددا على ضرورة أن تكون التلفزة الوطنية ”في خدمة الوطن والشعب“، من خلال الحديث عن ”اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي وضحايا العمليات الإرهابية“.

قيس سعيد يعطي تعليمات لمديرة التلفزة الوطنية بخصوص البرمجة وترتيب الاخبار- رئاسة الجمهورية

في اليوم ذاته، أصدرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بيانًا ندّدت فيه ”بالتدخل السافر“ للرئيس في الإعلام، مذكِّرةً بأنّ ”الإعلام العمومي مُطالب بلعب دوره الأساسي كمرفق عام في خدمة الدولة والمجتمع والتعبير عن مطالب الناس ومشاغلهم […] لا أن يكون بوق دعاية للسلطة الحاكمة مهما كان لونها“، وبأنّ ”التلفزة التونسية بصفة خاصة دأبت منذ 25 جويلية 2021 على تبييض السلطة وتغييب الرأي المخالف أو الناقد لها وقدمت خدمات جليلة للسلطة لاسترضائها، دون فائدة، وتطالب رئيس الجمهورية باحترام استقلالية الاعلام والكف عن التدخل في المضامين“. ”قيس سعيّد ما هو إلا حلقة تفيد بأنّ العقل السياسي التونسي لم يتغيّر. الفاعلون السياسيّون لا يريدون سلطة مضادة وإعلامًا يقوم بدوره. كل من حكم منذ الثورة إلى الآن أعاد إنتاج النظام التسلطي لبن علي“، يصرّح هشام السنوسي، عضو مجلس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، لنواة.

الهايكا: شمّاعة فشل السلطة

تكوّنت الهيئة الّتي تُعرَف اختزالاً بالهايكا بمقتضى المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المنظّم للإعلام السمعي البصري، وانطلقت فعليّا في عملها يوم 03 ماي 2013 تزامنًا مع اليوم العالمي لحريّة الصحافة. هيئة تتكوّن من تسعة أعضاء مُعيَّنين بأمر حكومي باقتراح من الهياكل المهنية ومن المجلس التأسيسي ورئاسة الجمهورية. كانت فلسفة المشرّع آنذاك تقوم على فكرة إحداث هيئات وأجسام تحدّ من تغوّل السلطة التنفيذيّة الّتي كانت تحكم قبضتها على الأجهزة القضائية والإعلامية خلال فترة الاستبداد. ولأجل ذلك، خصّص دستور 2014 بابًا كاملاً يتحدّث عن الهيئات الدستورية المستقلّة البالغ عددها خمس هيئات، من بينها هيئة الإعلام السمعي البصري. ”بدل الحديث عن البرلمان السابق وعن تلكؤ الأحزاب وعن المبادرات المشبوهة نتحدّث عن انتهاء صلاحيات الهايكا، وهو ما تريده السلطة السياسية“، يقول هشام السنوسي لنواة، في إشارة إلى عدم حرص المؤسسة التشريعية في عهدتيها (2014-2019/ 2019-2021) على التصويت على القانون المُحدث لهيئة الاتصال السمعي البصري المنصوص عليها بدستور 2014 وعدم انتخاب أعضائها. واقع يؤكّده رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين محمّد ياسين الجلاصي الّذي يقول في تصريح لنواة إنّ ”أصحاب المؤسسات الّذين لا يعترفون بدور الهايكا، والسياسيّين الّذين لم يضعوا الهيئة الجديدة للاتصال السمعي البصري في البرلمانَين السّابقَين وفق القانون هم الّذين ساهموا في تهميش الهايكا، الهيئة قامت بدورها طيلة عشر سنوات وكانت تجربتها إيجابية من خلال ترسيخ فكرة التعديل في تونس“، مُذكِّرًا بدورها في تحسين مستوى الخطاب الإعلامي من خلال الابتعاد عن خطابات العنصرية والعنف والكراهية. ”في الوقت الحالي القائم على انفراد الرئيس بالسلطة تمّ تهميش كل الوسائط وكلّ الهيئات الدستورية وكلّ المؤسسات التي من شأنها أن تلعب دور السلطة المضادّة أو سلطة تعديل“، يضيف الجلاصي.

جريح ثورة يناصر حرية الصحافة والتعبير خلال تحرك لنقابة الصحفيين – صورة لمحمد كريت

خلافات مع السلطة ونزاعات داخلية

بدأت الخلافات بين الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري والسلطة التنفيذية مع فرض عقوبة على مؤسسة التلفزة التونسية بسبب تمرير مقطع لرئيس الدولة في برنامج ”استفتاء 25 جويلية، تونس تختار“ مدته 16 دقيقة يدعو فيه الرئيس صراحة إلى الإقبال على الاقتراع بشكل يخرق الصمت الانتخابي، وهو ما تسبّب في تسليط خطية مالية بقيمة 20 مليون دينار على مؤسسة التلفزة التونسية وفق القرار الذي نشرته الهيئة في 27 جويلية 2022. كما أنّ رفض الهايكا إمضاء القرار المشترك مع هيئة الانتخابات في فترة تغطية الاستفتاء على الدستور أدّى إلى تعميق الأزمة بينها وبين الجهاز التنفيذي.

”الهايكا تعرّضت إلى ضغوطات كبيرة منذ نشأتها، من الباجي قائد السبسي وحركة النهضة وأصحاب المؤسسات، لأنّها حالة استثنائية في الهيئات والتزمت بصلاحياتها ودافعت عنها وأخذت مسافة عن الأحزاب ما جعلها منبوذة خاصّة من الأحزاب الحاكمة“، يقول هشام السنوسي لنواة.

ضبابية تخيم على مستقبل الهيئة بعد إحالة رئيسها على التقاعد – الصفحة الرسمية للهايكا

من ناحية أخرى، تعيش الهايكا وضعًا متأزّمًا من الدّاخل، تجلّى ذلك بالخصوص عندما تلقّى رئيس الهيئة السابق النوري اللجمي ”قرار إحالته على التقاعد بداية من غرّة جانفي 2023 إثر انتهاء مدة الاستثناء على سبيل التسوية للعمل بالقطاع العمومي بعد بلوغ السن القانونية للتقاعد حسب الأمر عدد 32 لسنة 2023 المؤرخ في 24 جانفي 2023 المنشور بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 10 الصادر بتاريخ 31 جانفي 2023“ (نصّ البلاغ الصادر يوم 07 فيفري 2023). ”انسحاب الرئيس بحجّة أنّه بلغ سنّ التقاعد هو تعلّة وهناك غموض يلفّ مسألة خروجه وتركه الهيئة بتلك الطريقة“، يعلّق السنوسي، مضيفًا: ”لا أرى أنه تعرض أصلا للضغط وأعتقد أنّه تطوّع للقيام بذلك الدّور“، يؤكّد عضو الهيئة، مضيفًا أنّ هناك مؤسسات إعلامية جاهزة للحصول على تجديد الإجازة وقامت بدفع الإتاوة للهايكا ولكن لا يمكن للهيئة أن تجدّد لها الرُّخَص لأنّها لم تعد تملك الطابع الرسمي لختم الوثائق. ”الطابع الرسمي تم حجزه من قبل الكاتب العام لإدارة الهايكا“، وقد تمّت مصادرة أكثر من 60 مراسلة قامت بها الهيئة ولا يُسمح لها بالخروج والوصول إلى منظوريها بما في ذلك الإحالة على القضاء“.

هذا الرفض المعلل لإنهاء مهامّ الهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي البصري دون أن تكون هناك هيئة أخرى تحلّ محلّها، يقابله سياق سياسي هجين ميزته سلطة الفرد واغراق الوعي الجمعي في مستنقع الخطب الشعبوية الجوفاء. كما أن الحديث عن لا مشروعية قرارات الهيئة والتشكيك في قانونيّتها قد يفتح الباب أمام تدخّل السلطة التنفيذية في المضامين الإعلامية، متسلّحة بالمرسوم 54 وبمجلّة الاتصالات. تعديل المشهد السمعي البصري وحريّة الصحافة محرار أساسي لقياس ديمقراطية الدّول، أما تدخّل السلطة التنفيذيّة في مضامينها فتمهيد صريح لنسف ما تبقّى من مكاسب ثورة 17-14.