بعد أخذ ورد وتأخير وانتظار، انطلقت منذ أيام أولى جولات البطولة التونسية لكرة القدم، موسم جديد بدأ بجر تبعات مشاكل سنوات مضت وأزمات خانقة تهوي بالرياضة الشعبية الأولى في تونس يوما بعد آخر نحو القاع، في ظل أزمات مالية للنوادي وبنية تحتية كارثية للملاعب وأزمة تسيير وتهم فساد تلاحق المشرفين على كرة القدم التونسية وعلى رأسهم رئيس المكتب الجامعي المنحل وديع الجريء، المودع بالسجن منذ سنة تقريبا بتهم تعلقت أساسا بسوء التصرف في المال العام والفساد.

كرة قدم من الملاعب إلى المحاكم

 منع من الانتداب، منع من المشاركات القارية، شكايات من الفيفا وملفات لدى المحاكم الرياضية، كانت هذه أبرز عناوين الأخبار المتعلقة بالنوادي التونسية خلال الصائفة الحالية، مشاكل مادية متراكمة منذ سنوات جعلت هذه النوادي تنافس من أجل البقاء لا حصد الألقاب، فلم يعد حديث الشارع الرياضي أو المحللين في أغلب الأوقات يدور حول الإمكانيات الفنية للاعب ما أو خطة تكتيكية، بل ينحصر في الحديث عن تمكن جماهير هذا الفريق أو ذاك من جمع مبالغ مالية لدعم الخزينة بهدف خلاص الخطايا التي قد تهدد وجود فريقهم أو بقائه في المنافسة. في هذا السياق يقول الصحفي الرياضي براديو ”ديوان أف أم“ هاني براهمي في حديثه مع نواة ”نحن كصحفيين رياضيين، ابتعدنا كثيرا عن الجوانب الفنية في برامجنا و مقالاتنا، أصبح عملنا مركزا على الخطايا والشكايات والمشاكل و الحديث في أمور خارجة عن الرياضة، و نأمل أن يغير المكتب التسييري الحالي للجامعة الوضع الحالي نحو الأفضل“، مضيفا  أن الأزمة المالية التي مست تقريبا كل القطاعات كانت سببا في تدهور الوضعية المالية للنوادي، إلا أن دور المكاتب الجامعية السابقة على امتداد 10 سنوات كان لها تأثير واضح من خلال عدم تطبيق القوانين خاصة في علاقة بالمراقبة المالية لوضعية النوادي والعقود الرياضية والاستشهارية والتغاضي عن شكايات اللاعبين التي تتحول فيما بعد إلى خطايا و قضايا تلاحق النوادي.

فارس، شاب من حي شعبي في العاصمة تونس، اعتاد العيش بين المدارج منذ سنوات والحديث مطولا عن كرة القدم وفريقه المفضل في المقهى، يقول في حديثه مع نواة إن السنوات الأخيرة كانت الأسوأ منذ بداية شغفه بكرة القدم، فالجماهير ابتعدت عن الحديث عن انتصارات الفريق ومردوده أو ما يعرف في اللغة العامية التونسية ب” التنبير“ عن الجماهير الأخرى و التباهي بلاعب ما أو هدف سجل في شباك الفريق الخصم، بل تحولت سعادة المشجع إلى الاقتران بخبر أو بلاغ في صفحة الفريق تؤكد غلق ملف أو شكاية تقدم بها لاعب ضد ناديه.

ملعب حمادي العقربي برادس هو الملعب الوحيد بكامل البلاد المؤهل لاحتضان مباريات قارية مع تواصل اغلاق أجزاء كبيرة من مدرجاته في وجه الجماهير لأسباب تنظيمية وتقديرات بوليسية – الصفحة الرسمية للجامعة التونسية لكرة القدم

كما يرى الشاب أن الشغف بالملاعب بدأ في التراجع نظرا لما تعيشه الكرة التونسية عموما من مشاكل وصعوبات، خاصة في ظل غلق الملاعب لسنوات عديدة أمام الجماهير أو اللعب في غياب الجماهير المنافسة أو تقييد حرية الحضور بنسب صغيرة تحددها وزارة الداخلية، إضافة إلى حرمان جيل كامل منذ سنة 2011 من دخول المنشآت الرياضية بسبب قانون-18 [1] الذي مثل عائقا كبيرا أمام الجماهير الرياضية خلال السنوات الأخيرة. مضيفا القول ”عندما نشاهد مباريات كرة القدم في عدد من الدول وخاصة في المغرب أمام مدارج ممتلئة بالكامل بحضور جماهير الفريقين و تقديم تلك اللوحات الفنية نشعر بالحزن على حالنا كمشجعين بعد أن كنا السباقين في إفريقيا والعالم العربي في إدخال ”التيفوات“ و”الكراكاجات“ و خلق روح جديدة للمباريات، زد على ذلك فإن المستوى الفني للمباريات في بطولتنا المحلية رديء للغاية كحال بنية الملاعب المأساوية التي تمثل صورة مخجلة لبلادنا أمام العالم.“

ملعب المنزه: تعطل الأشغال ومصير مجهول

من ناحية أخرى، لا يختلف حال ملاعب الكرة والمنشآت الرياضية عن باقي المنشآت العمومية من ناحية البنية التحتية، ملعب واحد حصل على ترخيص احتضان المقابلات القارية والدولية من بين عشرات الملاعب المنتشرة في البلاد. ملاعب فيها من خرج عن الخدمة بسبب الإهمال وغياب الصيانة أو آخر، مثل ملعب الشاذلي زويتن، مغلق منذ سنوات دون سبب واضح، أو من دخل رفوف النسيان بعد بدأ الأشغال فيه على غرار الملعب الأولمبي بالمنزه.

يوم 10 جوان 2022 ، انطلقت الأشغال في الملعب الأولمبي بالمنزه و التي كان من المتوقع أن تنتهي بعد 900 يوما ،أي بعد سنتين و خمسة أشهر تقريبا، لكن الأشغال وعلى امتداد هذه الفترة عرفت التعطيل والتوقف تلو الآخر ما ينذر باستحالة انتهاء الأشغال  في وقتها المحدد، الأمر الذي أكده نوفل بلحاج رحومة مدير البناءات والتجهيز بالإدارة العامة للمصالح المشتركة بوزارة الشباب والرياضة في تصريحات إعلامية  ما دفع سلطة الاشراف إلى فسخ العقد مع شركة مقاولات تونسية بعد ان تم تكليفها بتجديد الملعب و التفكير في إسناد أشغال استكمال المشروع لشركة مقاولات أجنبية، مشيرا في نفس السياق إلى وجود عرض من شركة صينية متخصصة في البناء الرياضي مما عجل بزيارة وفد صيني لمعاينة الملعب وعقد اجتماع مع وزيرة التجهيز خلال نفس الشهر، دون إحراز أي تقدم في الملف بعد خمسة أشهر تقريبا.

زيارات الرئيس سعيد لملعب المنزه وغضبه أمام الكاميرا جراء تعطل الاشغال لم تغير من الحالة المزرية التي تبدو عليها بقايا الملعب الأولمبي – رئاسة الجمهورية

ملف أشغال الملعب الأولمبي بالمنزه الذي تحول إلى ركام منذ ما يزيد عن السنتين يعتبر المثال الأبرز الذي يعكس واقع البنية التحتية الرياضية من شمال البلاد إلى جنوبها، سواء تعلق الامر بملاعب كرة القدم أو قاعات رياضية في غياب أي سياسات أو برامج لترميم ما تبقى من هذه المنشآت المهملة.

أزمات مالية وصراع مستمر مع جامعة الجريء

عدم تطبيق القانون من قبل المكتب الجامعي وغياب المساواة بين النوادي وأزمة التسيير، عوامل أدت إلى تدهور الكرة التونسية، والمتسبب الأول هو الجامعة التونسية.

الصحفي هاني البراهمي

بهذه الكلمات يختصر الصحفي هاني البراهمي الوضع الراهن إلا أنه ينفي أن تكون الكرة التونسية في أسوأ فتراتها حاليا، فكل الإشكاليات الإدارية والمالية يتم حلها في كل مرة أياما قبل وقوع الكارثة فلم يحرم المنتخب أو أحد الأندية من المشاركة في المسابقات الدولية والقارية، رغم التراجع الواضح مقارنة ببقية الدول العربية على وجه الخصوص التي استثمرت في تكوين اللاعبين وتحسين البنية التحتية، وفق قوله.

مع بداية الموسم الرياضي 24/25 عرفت أغلب الجمعيات الرياضية الناشطة بالرابطة المحترفة الأولى أزمات مالية نتجت عنها عقوبات بالمنع من الانتداب أو المشاركة في المسابقات الإفريقية، من بينها أحد أعرق أندية العاصمة الملعب التونسي الذي كان مهددا بالحرمان من حقه في المشاركة في كأس الكنفيدرالية الإفريقية بعد غياب سنوات طويلة عن المسابقات القارية بسبب ديون ناهزت المليون دينار. ديون وخطايا مُتعلقة بلاعبين ومدربين سابقين صادرة في شأنها أحكام باتة موجبة للخلاص في حيز زمني تحدده الكنفيدرالية الافريقية لكرة القدم ”الكاف“ بيومين فقط. أزمة الملعب التونسي جعلت إدارة النادي تطلب من الجماهير مد يد العون للفريق لتجاوز أزمته المالية في ظل عدم توفر الإمكانيات اللازمة في خزينة الفريق بسبب غياب المداخيل، فيما قال رئيس النادي في تصريحات إعلامية خلال شهر جويلية إن جامعة كرة القدم تتحمل جزءا من مشكلة الفريق بسبب مستحقات متخلّدة منذ سنة 2015، إلا أن الفريق تمكن من خلاص كامل ديونه وضمان مشاركته في المسابقة الإفريقية والترشح إلى الدور الثاني. وضعية النجم الساحلي لم تختلف كثيرا فالنادي كان ممنوعا من الانتداب إلى حد اللحظات الأخيرة قبل بداية الموسم، أمر إعتادته جماهير الفريق في السنوات الأخيرة بسبب تراكم الديون وغياب الاستقرار على مستوى التسيير الإداري على غرار بقية النوادي.

إلا أن الملف الأبرز يبقى ملف النادي الافريقي الذي عانى ،منذ فترة تولي رجل الأعمال و السياسة سليم الرياحي رئاسة النادي، مشاكل مالية كبرى كادت تعصف بوجود الفريق على الساحة الرياضية، و منذ ما يزيد عن السبع سنوات تواصل جماهير الفريق والهيئات الإدارية المتعاقبة على مركب النادي غلق ملفات الديون والشكايات التي لم تكد تتوقف منذ ما يزيد عن 5 سنوات، الأمر الذي خلق توترا في علاقة جماهير الفريق وجامعة كرة القدم وصلت في بعض الأحيان إلى احتجاجات و صدامات مع الأمن في محيط جامعة كرة القدم، للمطالبة بخلاص هيئة عبد السلام اليونسي للديون المستوجبة على الفريق لتأهيل المنتدبين الجدد وتجنيب النادي عقوبات جديدة من ”الفيفا“ واستكمال المسار الانتخابي للنادي لانتخاب هيئة مديرة جديدة لخلافة هيئة اليونسي ومطالبة الرئيس السابق للجامعة التونسية لكرة القدم وديع الجريء بعدم دعم رئيس النادي آنذاك، ومنذ تولي هيكل دخيل رئاسة الهيئة التسييرية للنادي خلال الموسم الحالي بدأت إدارة الفريق في فض نزاعاتها القانونية والخروج من أزمتها التي تزامنت مع حل المكتب الجامعي السابق وإيداعه السجن.

من جهة أخرى، عرف المشهد الرياضي خلال المواسم الفارطة ما اصطلح عليه ب”حرب البلاغات“ المتمثلة في أزمة فريق هلال الشابة مع جامعة الكرة والتي وصل صداها إلى المحاكم الدولية بعد قرار الجامعة تعليق نشاط الفريق في جميع الدرجات بتاريخ 17 أكتوبر 2020 بحجة عدم اكتمال ملف انخراط النادي بالجامعة، وتعويضه بفريق آخر، ما خلق أزمة حادة بين وديع الجريء رئيس الجامعة المسجون حاليا ومكتبه الجامعي من جهة و هلال الشابة و وزارة الشباب والرياضة من جهة أخرى، تلاها قرار جامعي آخر في ديسمبر من نفس السنة يقضي بالتجميد النهائي لنشاط النادي. قرار قضت المحكمة الرياضية الدولية ”التاس“، في التاسع من جوان سنة 2021، ببطلانه وعودة نشاط الفريق الذي نزل خلال الموسم الذي تلاه إلى الرابطة الثانية رغم احترازه المقدم ضد رئيس النادي الإفريقي السابق يوسف العلمي المرفوض من قبل لجنة تأديب الجامعة، إلا أن المحكمة الدولية خالفت مرة أخرى قرارات مكتب الجريء بقبول شكاية الشابة في 29 سبتمبر 2022 وقضت مجددا بإعادة هلال الشابة الى مصاف أندية الرابطة المحترفة الأولى إلى حين النظر في القضية الأصلية.


نواة في دقيقة : فاسدة المنظومة… من الكرة للحكومة
03 جوان 2022

عاد الحديث عن الوجه القبيح لكرة القدم في تونس لتصدر المشهد الرياضي. عود فرضه التلاعب بنتائج المباريات في الجولة الأخيرة من “البلاي آوت”، لبطولة الرابطة المحترفة الأولى. تطورات حاسمة سيعرفها الموضوع و قرارات صادمة في الانتظار.


  آخر فصول صراع الجامعة السابقة والنوادي كانت ”حرب بلاغات“ مع فريق الترجي الرياضي التونسي بعد بلاغ للجامعة ادعت فيه تمكينها الفريق من تسبقة مالية لخلاص ديونه، الأمر الذي نفته إدارة الفريق مؤكدة أن جامعة كرة القدم لم تمكن الجمعية من كامل مستحقاتها الموجودة في خزينة الجامعة المتمثلة في تحويلات مالية هامة من قبل الكاف والفيفا، ليكون صراع الترجي آخر محطات الجريء في مسيرته التسييرية على رأس كرة القدم التونسية قبل إيداعه السجن.

صراعات مكتب الجريء لم تقتصر على الأندية فقط بل شملت وزارة الشباب والرياضة منذ تولي الوزير السابق طارق ذياب مقاليد التسيير فيها وصولا إلى عهد كمال دقيش، زد على ذلك أزمة ديون و لي أذرع بين الجامعة ومؤسسة التلفزة الوطنية في علاقة بملف البث التلفزي لمباريات البطولة والكأس، انتهت بحرمان المتابعين من مشاهدة المقابلات لفترة طويلة حتى فض النزاع المالي بين الطرفين، ليكون العنوان الأبرز خلال السنوات الفارطة هو أزمة الكرة التونسية ونزيف مصاعب لا يتوقف في غياب أي بوادر انفراج في التسيير وإهمال شبه متعمد لكرة القدم خصوصا والرياضة عموما جعل تونس تغيب عن منصات التتويج لسنوات متعددة أمام تطور وازدهار رياضي عربي وإفريقي جعل هذه الدول محط أنظار العالم وقبلة رياضية تنافس الوجهة الأوروبية على صعيد التنظيم والتكوين واستقطاب الخبرات والمهارات العالمية باعتمادات مالية ضخمة.


[1] قانون يمنع من تقل أعمارهم عن 18 سنة من دخول الملاعب الرياضية