المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

يُعتبر القانون عدد 41 لسنة 2024، المؤرخ في 2 أوت والذي دخل حيز النفاذ في 02 فيفري 2025، تعديلاً لبعض أحكام المجلة التجارية، الذي لم يُغير من مفهوم الشيكات في حد ذاته، بل أضاف إليها بُعدًا جديدًا.

تعديل شمل الفصول 410 و411 و412 المتعلقة بأحكام الشيك كما تمت إضافة فصول جديدة، الفصل 410 سابعا وسابعا مكرر والفصل 410 ثامنا وثامنا مكرر للمجلة التجارية، بينما تم تخصيص فصل وحيد لتنظيم إجراءات قفل الحساب الجاري وفق الفصل 732 من نفس المجلة.

للوقوف على أهمية هذا التعديل التشريعي، لا بد من التذكير بمفهوم الشيك في القانون التونسي، حيث يُعرّف الشيك بأنه سند يسحبه الساحب على بنك أو مؤسسة مالية، بهدف صرف مبلغ مالي محدد لفائدة المستفيد الحامل، شريطة أن يكون هذا المبلغ موجودًا مسبقًا في حساب الساحب، وبموجب اتفاق صريح أو ضمني يحق بمقتضاه لهذا الأخير أن يتصرف في هذه الأموال بطريقة إصدار الشيك حسب صريح عبارات الفصل 348 من المجلة التجارية التونسية.

يمثل الشيك أداة محورية في المعاملات التجارية في تونس، حيث حظي باهتمام خاص من قبل المشرّع نظرًا لدوره الأساسي في تسهيل العمليات المالية والتجارية. غير أن استخدام الشيك لم يَعُد مقتصرا على دوره التقليدي كوسيلة دفع فورية ليصبح أداة لضمان الديون وتمويل المشاريع، وهو ما أدى إلى تفاقم ظاهرة الشيكات دون رصيد.

ظاهرة تعتبر من أبرز التحديات التي يواجهها الاقتصاد التونسي، لما لها من تداعيات سلبية على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، حيث أضحت مشكلة شائعة في تونس تفوق نظيراتها في بلدان أخرى. من هذا المنطلق، سعى المشرّع التونسي من خلال هذا التعديل إلى وضع آليات أكثر صرامة للحد من هذه الظاهرة، عبر تعزيز العقوبات وضمان حقوق الأطراف المتداخلة في العملية التجارية.

وفي هذا السياق، يثير هذا القانون تساؤلات حول مدى قدرته على إحداث التوازن المطلوب بين توفير بيئة قانونية آمنة وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، فهل نجح المشرّع التونسي في بلوغ هذا الهدف؟

الشيك كأداة خلاص فقط: نحو ثقافة مالية أكثر انضباطًا

لا شك أن المشرّع التونسي من خلال التعديل الأخير لقانون الشيكات سعى لمعالجة إشكاليات عميقة أثّرت لسنوات على الثقة في المعاملات المالية.  فقد انحرفت وظيفة الشيك من كونه وسيلة خلاص فورية، إلى أداة لضمان الديون، مما زعزع استقرار المعاملات التجارية وأصبح شبه ثقافة مترسخة في المجتمع التونسي.

لذلك جاء التنقيح الجديد ليعيد التأكيد على الوظيفة الأساسية للشيك كأداة خلاص فقط، مع تحجير استخدامه كوسيلة ضمان، في محاولة جادّة للحد من ظاهرة الشيكات دون رصيد.  لذلك جرّم المشرع قبول المستفيد شيكا على سبيل الضمان.  حيث نص الفصل 411 جديد على أنه ”…يعاقب بالسجن مدة عامين وبخطية تساوي عشرين بالمائة من مبلغ الشيك أو من باقي قيمته كل من تسلم شيكا على وجه الضمان..” من الواضح أن المشرّع لم يقتصر على تجريم إصدار الشيك دون توفر رصيد أو استخدامه بشكل مخالف للغرض القانوني المحدد له، وهو الوفاء بالديون. بل توسّع نطاق التجريم ليشمل أيضًا حالة قبول المستفيد للشيك كضمان مما يعكس توجهاً واضحاً نحو تعزيز الثقة في المعاملات التجارية وردع جميع الأطراف عن إساءة استعمال الشيكات.

دور البنوك في مكافحة الشيكات دون رصيد: إصلاحات جوهرية ومسؤوليات إضافية

لا يمكن إنكار أن المشرّع التونسي قد وضع على عاتق البنوك مسؤوليات جديدة، باعتبارها خط الدفاع الأول ضد إصدار الشيكات دون رصيد. حيث أصبح على المصرف واجب التحقق من الوضعية المالية للحريف قبل منحه دفتر شيكات، من خلال الاسترشاد لدى البنك المركزي التونسي عن وضعيته مسبقا، ودراسة ملاءمته المالية ومراقبة تصرفاته ذات المخاطر. كما أقرّ المشرع التونسي وضع سقف مالي لكل دفتر شيكات، يحدد حسب القدرات المالية للحريف وقدرته على تغطية الدفوعات بالشيك، ما يشكّل تحولاً جذرياً مقارنة بالقانون السابق.

التنصيص على التسقيف كآلية جديدة يمثّل في قانون الشيكات خطوة هامة نحو تنظيم أكثر صرامة للمعاملات المالية من خلال إلزام البنوك بتحديد قيمة قصوى لكل شيك، والالتزام بعدم تجاوزها والتي في كل الحالات لا يمكن أن تتجاوز 30 ألف دينار، الهدف من ذلك ضمان تغطية كل شيك برصيد كافٍ في الحساب البنكي. يُعتبر هذا التنصيص وجوبيًا لا يمكن مخالفته، ما يفرض على المصارف التحقق المستمر والدوري من القدرة المالية للحريف قبل منحه دفتر شيكات. هذه الآلية لا تسهم فقط في تعزيز الشفافية في التعاملات المالية، بل تحدّ أيضًا من ظاهرة إصدار الشيكات دون رصيد. علاوة على ذلك، يمنح القانون الجديد المصرف الحرية الكاملة في رفض تسليم دفاتر الشيكات للحرفاء الذين لا يلتزمون بتعهداتهم المالية، مما يعزز من رقابة المؤسسات البنكية ويحدّ من انتشار الشيكات غير المضمونة.

مدة صلاحية الشيك: آلية قانونية للحد من المخاطر المالية

 أيضا، فرض المشرّع التونسي بموجب التعديلات الجديدة، التزاماً صريحاً على المصارف بتحديد مدة صلاحية للشيك لا تقل عن ستة أشهر، بحيث لا يمكن التعامل بالشيك بعد انقضاء هذه المدة. يعكس هذا الإجراء توجهاً نحو ضبط وتنظيم تداول الشيكات، حيث يُعتبر الشيك بعد انتهاء مدة صلاحيته ورقة لا تحمل قوة تنفيذية في المعاملات المالية. هذا الإلزام يهدف إلى تفادي استمرار تداول الشيكات لفترات طويلة دون تغطية، مما قد يعرض أصحابها لمشاكل قانونية أو مالية. كما أن تحديد مدة زمنية معقولة يضمن سرعة دوران الأموال في السوق ويقلل من المخاطر المتعلقة بالشيكات القديمة غير المدفوعة. إضافة إلى ذلك، فإن هذه المدة تمثل حماية للطرفين: فالمستفيد عليه تقديم الشيك خلال المدة القانونية، والساحب لن يكون مهدداً بشكل دائم، مما يعزز الاستقرار والثقة في التعامل بالشيكات كوسيلة دفع فعالة.

شيكات بلا تظهير: تعزيز الثقة والحد من المخاطر

 نذكر كذلك أن المشرّع فرض من خلال التعديلات الجديدة بموجب تنقيح سنة 2024  أن يكون الشيك موجهاً إلى مستفيد واحد فقط، مانعاً بذلك إمكانية التظهير. ويعني هذا الشرط أن الشيك يجب أن يُحرر باسم شخص مسمى، سواء كان شخصاً طبيعياً أو معنوياً، مما ينهي التعامل بالشيكات التي تمرّ عبر عدة أطراف من خلال التظهير المستمر.

هذا الإجراء يهدف إلى تقليص المخاطر المرتبطة بتداول الشيكات بين أكثر من طرف، حيث أن التظهير كان في السابق يسمح بنقل ملكية الشيك عدة مرات، مما يزيد من احتمالية التلاعب أو إصدار شيكات دون رصيد، ويعقّد عملية تتبع مصدر الشيك ومسؤولية السداد. بتحديد مستفيد واحد فقط تصبح العملية أكثر شفافية وأماناً، إذ يعلم المصرف تماماً الجهة المستفيدة التي سيتم صرف الشيك لصالحها، ما يقلل من النزاعات القانونية الناتجة عن تظهير الشيكات. كما يعزز هذا التعديل من ثقة الأطراف المتعاملة بالشيكات، حيث أن المستفيد المحدد بالاسم سيكون الطرف الوحيد الذي يحق له المطالبة بقيمة الشيك، مما يوفر وضوحاً أكبر في التعاملات التجارية ويقلص من فرص إساءة الاستخدام أو التهرب من الوفاء بالشيكات.

منصة ”تونيشاك“: نقلة رقمية في التعامل مع الشيكات

 تمثل المنصة الرقمية الموحدة الخاصة بالمعاملات المتعلقة بالشيكات، والتي نص عليها القانون الجديد والتي تم إحداثها والإشراف عليها من قبل البنك المركزي التونسي، نقلة نوعية في آليات التعامل بالشيكات في تونس. إذ تفرض هذه المنصة ”تونيشاك“ على جميع المصارف الانخراط في منظومة إلكترونية متكاملة لتبادل البيانات المتعلقة بالشيكات، مما يضمن توفير معلومات فورية وآنية حول كل شيك يتم تداوله.

 إلزامية التحقق الإلكتروني من الرصيد قبل قبول الشيك تمثل تحولاً كبيراً في المسؤوليات، حيث أصبح على المستفيد التأكد من وجود رصيد كافٍ عبر المنصة الإلكترونية قبل قبول الشيك كوسيلة دفع. هذا الإجراء يقلل بشكل كبير من حالات إصدار الشيكات دون رصيد، التي كانت تشكل مشكلة كبيرة في المعاملات التجارية. من خلال هذه المنصة الإلكترونية، يستطيع المصرف تتبع جميع العمليات المتعلقة بالشيكات بشكل فوري، مما يساهم في الحد من المخاطر المالية، وتسريع الإجراءات، وضمان أكبر للشفافية في المعاملات.

المسؤولية المشتركة للبنك والساحب: مقاربة جديدة في قانون الشيكات

نص القانون عدد 41 لسنة 2024 أنه في صورة توصل المستفيد بإشعار إلكتروني بتحديد المصرف مبلغ الشيك بحساب الساحب لكن رغم ذلك عند سحبه المبلغ لا يُعثر على الرصيد فإن المصرف، في هذه الحالة يُعتبر مسؤولا عن ذلك المبلغ ومديناً بالتضامن مع الساحب، وذلك بغض النظر عن قيمة الشيك. في هذه الحالة، أي عدم وجود رصيد كافٍ للساحب أو وجود رصيد غير كاف لخلاص الشيك، فإن المصرف ملزم بإعلام الساحب بهذه الوضعية وإنذاره بعدم استعمال جميع صيغ الشيكات الأخرى المسلمة التي بحوزته مع دعوته لإرجاعها للمصرف وذلك لتفادي إصدار شيكات أخرى دون رصيد مع إعلامه بضرورة تسوية وضعيته في غضون سبعة أيام عمل. إذا لم يقم الساحب بتسوية وضعيته خلال المهلة المحددة، يتولى المصرف عند انتهائها تحرير شهادة في عدم الدفع، وفي حال امتناعه، يتحمل المصرف المسؤولية بالتضامن مع الساحب.

الجدير بالذكر أن التسوية يمكن أن تتم في أي مرحلة، سواء أثناء سير المحاكمة أي قبل صدور حكم ضد الساحب أو بعد المحاكمة أي في صورة صدور حكم ضده، مما يعكس حرص المشرّع على منح الساحب فرصة لتجنب عقوبة السجن عبر تسوية وضعيته وذلك بدفع مبلغ الشيك كاملا أو ما تبقى منه، كل ذلك قبل إبرام الصلح عن طريق الوساطة.

قانون الشيكات 2024: الوساطة أولاً.. والقضاء لاحقاً

 يعدّ ”الصلح بالوساطة“ من أبرز المستجدات التي جاء بها قانون 2024، حيث جعلها المشرّع كخطوة أولى تسبق اللجوء إلى القضاء. وقد أولى المشرّع أهمية غير مسبوقة لدور النيابة العمومية في نجاح هذه الآلية، حيث يُقدّم وكيل الجمهورية عرضه الصلح بالوساطة على كل من الساحب والمستفيد وذلك خلال فترة لا تتجاوز الشهر. تجدر الإشارة إلى أن إثارة الدعوى العمومية أصبحت مشروطة بتقديم شكاية من المستفيد، مما يعكس رغبة المشرّع في تعزيز فعالية هذه الآلية وتيسير إجراءات تسوية النزاعات المتعلقة بالشيكات. وفي حال تعذر إبرام الصلح لأي سبب من الأسباب، تقع إثارة التتبعات الجزائية بناءً على طلب من له مصلحة في ذلك.

شيكات دون رصيد: بين نزع التجريم والعقوبات المشددة

 إن من أبرز التجديدات في قانون 2024 أيضًا هو نزع التجريم عن كل من أصدر شيكًا دون رصيد بمبلغ لا يتجاوز خمسة آلاف دينار. ولضمان عدم الإفلات من العقاب، أقرّ المشرّع عقوبات سجنية بالإضافة إلى غرامة مالية تصل إلى عشرة آلاف دينار للساحب والمستفيد اللذان يتعمدان إجراء معاملات وهمية باستخدام شيكات دون رصيد تتجاوز قيمتها خمسة آلاف دينار، قصد استخلاص مبالغ عن غير ذي وجه حق.

يعكس قانون 2024 رغبة المشرّع في الحد من انتشار جريمة إصدار شيك دون رصيد من خلال اعتماد مجموعة من التدابير الوقائية والبدائل التصالحية. فقد ألزم المشرّع المصارف بعدم تقديم دفاتر الشيكات إلا للأشخاص الذين يُثبتون قدرتهم على الوفاء بالتزاماتهم عبر هذه الوسيلة، محمّلًا المصرف مسؤولية دفع مبلغ الشيك في حال مخالفته لهذا الالتزام. ويتجلّى الدور الوقائي للقانون حتى بعد وقوع الجريمة وصدور العقاب، حيث أقرّ آلية التسوية كخيار أوّلي لمعالجة الوضعية، تليها آلية الصلح بالوساطة كبديل لتسوية النزاع بين الساحب والمستفيد بشكل ودي. كما منح المشرّع للمحكوم عليه فرصة إضافية من خلال آلية المراجعة، التي تتيح له تسوية مبلغ الشيك والحدّ من العقوبات السالبة للحرية، إذ بات واضحًا في توجهات المشرّع أن الإخلال بالتزام مدني أو تجاري أو ارتكاب جريمة مالية لا ينبغي أن يؤدي بالضرورة إلى السجن، وهو ما ينسجم مع مبادئ حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الدولة التونسية. ورغم هذا التوجه الإصلاحي، يبقى التحدي الأكبر متمثلًا في ضمان التطبيق الفعلي والناجع لهذه الإجراءات. ومن ثمّ، يقع على عاتق جميع الأطراف المعنية مواكبة هذه الإصلاحات بدقة، بما يحقق بيئة مالية أكثر أمانًا وموثوقية.