القضية التي أثارت ولازالت تثير الجدل والنقاش، باعتبار الشخصيات السياسية المتهمة فيها وخطورة الاتهامات الموجّهة، ارتأت السلطة أن تكون أولى جلساتها عن بعد باستعمال الفيديو ودون جلب للمتهمين. قرار بمثابة رد واضح على مطالب فرق الدفاع وعائلات الموقوفين ومجمل الأصوات التي ارتفعت مطالبة بعلنية المحاكمة وببثها مباشرة على احدى القنوات الحكومية، حتى يقف الرأي العام دون وصاية على حقيقة القضية التي مثلت منعرجا خطيرا في تعاطي السلطة مع معارضيها.

وعلى تعدد القضايا التي يُتهم ويلاحق ويسجن فيها مواطنون وسياسيون وإعلاميون ونشطاء للهجرة..، فإن فرق الدفاع عن عشرات المتهمين في هذه القضايا أجمعت على غياب مقومات المحاكمة العادلة واحترام حقوق المتهمين. لكن ذلك لم يمنع المعارضة وقوى مدنية وحقوقية من مواصلة الاحتجاج من أجل الإفراج عن الموقوفين وتوفير ظروف محاكمة عادلة، في مقابل تمسك السلطة بخطاب أحادي يؤكد استقلالية القضاء وعدم خضوعه للتدخل السياسي أو الضغوط الخارجية، نافيا بكل بساطة وجود محاكمات ومساجين رأي.

محاكمات عن بعد وتعتيم إعلامي

رفضت هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين في قضية التآمر قرار المحكمة الابتدائية بتونس القاضي بعقد جلسات النظر في قضايا الدائرة الخامسة (ارهاب) لشهر مارس وفقا لإجراءات المحاكمة عن بعد، بما في ذلك قضية التآمر على أمن الدولة. واعتبرت هيئة الدفاع في بيان لها أن هذا القرار ”تعسفي“ يأتي ”استمرارا لسلسلة من القرارات غير الشرعية والعبثية ومنها منع التداول الإعلامي في الملف“، مضيفة أن هذا القرار يمثل تضييقا في إعمال الضمانات الممنوحة للمتهم والمحامي على حد السواء بالإضافة لانعدام النية لتأمين إطار حقيقي دافع لكشف الحقيقة والتي تطالب هيئة الدفاع الجهات القضائية باستجلائها حسب نص البيان.

هذا القرار الذي جاء قبل جلسة المحاكمة بأيام عزز الشكوك التي عبرت عنها هيئة الدفاع وقوى مدنية وسياسية بأن جلسات المحاكمة ”السرية“ لن تسمح بكشف الحقيقة في قضية التآمر، إضافة إلى أنها لن تكون فضاء لمواجهة الأدلة ومكافحة الشهود وتبيان تفاصيل القضية بالأدلة بعيدا عن التعتيم والعموميات.

9 جانفي 2025 قرطاج – آخر لقاء معلن بين ليلى جفال وقيس سعيد بقصر قرطاج جاء في بيانه ”أن الشعب التونسي ينشد العدالة ويريد معرفة الحقائق كاملة والمحاسبة العادلة“ – رئاسة الجمهورية

تجدر الاشارة هنا إلى أن المحكمة اعتمدت على الفصل 141 مكرر الذي ينظم إجراءات المحاكمة عن بعد، وهو فصل جديد أضيف إلى مجلة الإجراءات الجزائية في أفريل 2020 في شكل مرسوم حكومي أثناء فترة حكم إلياس الفخفاخ وفقا للتفويض الممنوح إلى رئيس الحكومة في إصدار مراسيم لغرض مجابهة تداعيات انتشار فيروس كورونا. رغم أن القرار يشترط موافقة المتهم لإجراءات المحاكمة عن بعد، إلا أن نفس الفصل المذكور منح أيضا المحكمة حق إقرار هذا المبدأ دون موافقة المتهم في حالة الخطر الملم أو لغاية التوقي من إحدى الأمراض السارية. ومن الواضح هنا أن المحكمة اعتمدت على مصطلح ”الخطر الملم“ دون أي تعليل مكتفية بعبارة ”ونظرا لوجود خطر حقيقي“ بعد الاطلاع على كل القضايا الجنائية المنشورة أمام الدائرة الخامسة، رغم أن نفس الفصل الذي اعتمدت عليه ينص على أن يكون القرار معللا. وهنا موضع الخلاف والطعن: قرار قضائي بتنظيم جلسة محاكمة عن بعد لأهم قضية ذات بعد سياسي في السنوات الأخيرة، قرار يعتمد على فصل أضيف في شكل مرسوم حكومي محدد بالزمن لشهرين (وفق قرار التفويض) في سياق مكافحة انتشار فيروس كورونا، دون تعليل لأوجه الخطر، كل هذا كان مسبوقا بقرار قضى بمنع التداول في القضية ما أبقى على حالة الغموض والتشكيك في الملف الذي يُوصف بأنه ملف سياسي بامتياز.

شهد تاريخ تونس المعاصر عدة قضايا كبرى لعل خطورتها أوضح بكثير من قضية التآمر الحالية، آخرها قضية الأحداث الإرهابية بمنطقة سليمان (أحداث سليمان) وكانت جلسات محاكمة المتهمين فيها علنية بحضور الصحافة المحلية والعالمية. هذا بالإضافة إلى قضايا أخرى تتعلق بأمن الدولة واتُهم فيها المئات من المنتمين لحركة النهضة سنتي 1981  و1992 حيث دارت أطوارها في جلسات علنية نشرت الصحافة المكتوبة ووسائل الإعلام المحلية والعالمية كل تفاصيلها من مرافعات المحامين واعترافات المتهمين وأدلة عرضتها المحكمة. وهو نفس المبدأ الذي سرى على كل قضايا الرأي العام طيلة عهدي بورقيبة وبن علي مثل محاكمة اليساريين (قضية برسبكتيف) والنقابيين في 1978 وهجوم قفصة أول الستينيات ومحاكمة الوزير الأسبق أحمد بن صالح بتهمة الخيانة العظمى، جميعها كانت في جلسات علنية، وهناك قضايا تُرجمت محاضرها بالكامل إلى الفرنسية لتكون متاحة للصحافة العالمية، على غرار قضية براكة الساحل، ولا يزال أرشيف بعض الصحف على غرار جريدة الصباح والأرشيف الوطني يحتوي على تفاصيل هذه المحاكمات كشهادة مهمة للتاريخ.

علنية المحاكمات هنا لا تعني أنها كانت محاكمات عادلة أو أن نظامي بورقيبة وبن علي كانا يحترمان القانون والاجراءات، بالعكس فأغلب هذه القضايا كانت قضايا سياسية بامتياز بشهادة المؤرخين والباحثين وحتى بشهادة البعض ممن كانوا محسوبين على نظامي الراحليْن بورقيبة وبن علي. المهم أنه لا ينبغي أن نتعامل مع قضايا ذات صبغة سياسية ومع تهم خطيرة كالتآمر على أمن الدولة بهذا النوع من التعتيم والاستهتار بحق الناس في معرفة الحقيقة دون توجيه أو وصاية أو تعتيم.

قضايا رأي عام وليست قضايا حق عام

ليس بعيدا عن قضية التآمر على أمن الدولة، نجد عشرات القضايا الأخرى التي يُحاكم فيها تونسيات وتونسيون بمقتضى المرسوم 54 على خلفية أراء أو تدوينات أو تصريحات إعلامية، أو على خلفية نشاطهم في مجال الهجرة. هي قضايا لا تقل أهمية عن قضية التآمر خاصة وأن منظمات حقوقية بارزة كالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وصفت هذه المحاكمات بالسياسية التي تستهدف حرية الرأي والتعبير والتضييق على النشاط المدني والسياسي. وهي في الآن نفسه قضايا تناولتها الصحافة المحلية والعالمية ووضعتها منظمات وطنية ودولية ضمن اهتماماتها، وهو ما دفع بالخارجية التونسية إلى إصدار بيان الاثنين المنقضي أعلنت فيه رفضها لانتقادات المفوضية السامية لحقوق الإنسان التي طالبت بوقف ”أنماط الاعتقال والاحتجاز التعسفي والسجن، التي يتعرض لها عشرات المدافعين عن حقوق الإنسان والمحامين والصحافيين والنشطاء والسياسيين“. واعتبرت الخارجية التونسية عن استغرابها مما جاء في تقرير المفوض السامي وأنه لا دخل لأي جهة غير قضائية فيما يتخذه القضاة من إجراءات في إطار تطبيق القانون حسب نص البيان. وأوردت الخارجية أن ”إحالة المتهمين موضوع البيان تمت من أجل جرائم حق عام، ولا علاقة لها بنشاطهم الحزبي أو السياسي أو الإعلامي، أو بممارسة حرية الرأي والتعبير“.

 24 فيفري 2025 جنيف –اختارت تونس عدم حضور أشغال الدورة 58 لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الانسان مكتفية بإرسال كلمة مصورة لوزير الخارجية محمد علي النفطي – وزارة الخارجية

سجال بين المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة والخارجية التونسية ألقى بظلاله على الوضع الداخلي بشكل أو بآخر، فالأيام الماضية شهدت الإفراج عن الرئيسة السابقة لهيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين ووزير البيئة الأسبق رياض الموخر والصحفي محمد بوغلاب.. وبناء على ذلك هناك من اعتبر أن مرحلة جديدة من الانفراج قد تبدأ بالإفراج عن المساجين السياسيين، لكن التعاطي مع بعض القضايا كملف التآمر على أمن الدولة وقرارات إحالة عدد من النشطاء في مجال الهجرة على الدائرة الجناحية ورفض الإفراج عنهم، وتواصل المعاناة وسوء المعاملة بالنسبة لعدد من الموقوفين على غرار عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري وعبد الحميد الجلاصي القيادي السابق في النهضة اللذان تدهورت حالتهما الصحية بشكل واضح، كلها مؤشرات تدل على تواصل سياسة التضييق على المخالفين والمعارضين للسلطة واستمرار نهج المحاكمات السياسية ومحاكمات الرأي.

إن مجرد إنكار السلطة وجود موقوفين في قضايا رأي أو تعمد مغالطة الرأي العام عبر أبواق الكراهية المفلتة من العقاب لن يحجب الواقع الذي تحدثت عنه تقارير المنظمات الوطنية قبل الدولية، وهي تقارير مفصلة ودقيقة ومتاحة للجميع للاطلاع والتدقيق، فالقول إن جميع الموقوفين هم على ذمة قضايا حق عام لا يصمد كثيرا أمام العشرات من الذين سجنوا أو حوكموا على خلفية تدوينات على فيسبوك أو تصريحات إعلامية أو رسوم كاريكاتورية أو حائطية، ولا يتسع المجال لذكرهم الآن. لكنهم شهود على زيف رواية السلطة ودليل واضح على التراجع الخطير في مجال حقوق الإنسان والحريات وخاصة حرية التعبير وحرية العمل السياسي والمدني.