من البديهي أن يخلق تقديم عدة مؤسسات، في سوق واحدة، لنفس المنتج أو الخدمة منافسة فيما بينها يكون المستهلك مستفيدا منها. تنافس سيؤدي إلى بحث كل مؤسسة عن كسب الحرفاء بتقديم خدمات أفضل وبسعر أقل من منافسيها، خاصة أن المُنافسة ترتبط إرتباطا وثيقا بالأسعار التي تُحدد على قاعدة العرض والطلب.

لكن تلك البديهيات تغيب عن واقع السوق في تونس، فمن النادر وجود تنافس بين المؤسسات الإقتصادية الخاصة على قاعدة السّعر، وذلك لاختيار هذه المؤسسات التي تنشط في نفس المجال إلى الإتفاق على سعر موحّد لمنتجها أو الخدمة التي تقدّمها، أو حتى الزيادة المتزامنة في السعر بنفس القيمة وفي نفس اليوم فيما يبدو مخالفة بديهية لمبادئ المُنافسة والقانون، إلا أن كل الحقيقة تبقى أكثر تعقيدا مما سبق ذكره.

أمثلة الاتفاق على الأسعار أو الزيادة المتزامنة فيها من طرف مؤسسات اقتصادية من المفترض أن تكون العلاقة بينها تنافسيّة، لا تعدّ ولا تُحصى، وعلّ أكثرها تواترا ووضوحا تلك التي دأبت عليها شركات الاتصالات الثلاث بصفة دوريّة بالزيادة المتزامنة تماما في تسعيرة الخدمات، والتي أعلن مجلس المُنافسة فتح تحقيق في أحدها، أي الزيادة، بتاريخ 1 أكتوبر 2020، بعد ما رأى فيها بصفة استثنائية شُبهة إتفاق بين المشغلين الثلاث للزيادة في أسعار خدمات الانترنت.

إلا أن التسعيرة الموحّدة لكل المنتجات والسلع والخدمات، التي تلبّي نفس الحاجة لدى المستهلك لا تعني ضرورة إخلالا بمبادئ المنافسة بتعريف ومفهوم القانون في تونس، فمثلا في حالات تحديد الدولة لهامش الربح وحتى مع التسقيف، تقوم كل المؤسسات التي من المفترض أنها تتنافس باعتماد هامش الربح الأقصى الموحّد حتى دون اتفاق فعلي، مما يؤدي في النهاية لبيع منتجات وخدمات من مصادر مختلفة بنفس السعر وبالقانون.

واقع السوق هذا يجعل قانونيّة اعتماد سعر موحّد، من عدمه، لمنتجات وخدمات رغم المُنافسة، غير واضحة ومُبهمة خاصة أن قانون المُنافسة في تونس من أكثر القوانين تعقيدا، في ظل سوق يندر فيه تواجد خدمات ومنتجات تلبي نفس الحاجة بأسعار مُختلفة.

ففي سابقة فتح تحقيق ضدّ مشغلي الإتصالات لاتفاقهم على ترفيع موحد ومتزامن في الأسعار، كان التعهد تلقائيّا من طرف مجلس المنافسة وفق تصريح رئيسه رضا محمود آنذاك، ولكن في المقابل لم يقع قطّ أن رفّعت شركة اتصالات بمفردها في أسعار خدماتها بل كانت الزيادات دائما بصفة جماعية ومتزامنة من طرف الشركات الثلاث سواء قبل تاريخ فتح التحقيق وحتى بعده، مما يجعل الاتفاق على الأسعار الذي يجرمه القانون ويتيحه مُبهما وغير واضح.

الهياكل المهنية متواطئة أمام مرأى الدولة

ضياء خلفالله عضو منظمة ”آلرت“، إعتبر في حديث مع ”نواة“ أن الإتفاق على الأسعار وتوحيدها وتزامن الترفيع فيها ليس خارجا عن العادة في تونس، ولا يقع داخل غرف مُظلمة أو في الخفاء، وهو ما يمثّل إشكالا كبيرا، بإعتبار أنه يتمّ في كل الحالات تقريبا داخل الهياكل المهنية القطاعية أمام مرأى ومسمع الدولة.

بل أن الإتفاق على تسعيرة مُحددة لخدمة أو مُنتج والترفيع فيها يكون في عديد الحالات بمشاركة أجهزة الدولة وإشرافها، وفق خلفالله الذي ذكر خصوصا الإتفاقات التي تتمّ بين البنوك داخل الجمعية المهنية للبنوك والمؤسسات المالية، وبإشراف من البنك المركزي، والتي كان أكثرها تداولا الإتفاق على توظيف فوائد تأخير موحدة على أقساط القروض التي تم تأجيلها خلال فترة الكوفيد 19، أو ما حصل بعد ترفيع أحد البنوك في نسبة الفوائد على الادخار مما جعل بنوكا أخرى ترفّع من جانبها في نسب الفائدة على الإدخار لديها ما أنتج مُنافسة صبت في مصلحة الحريف، لكن تم وضع حدّ لتلك المُنافسة بعد إجتماع داخل المنظمة المهنية للبنوك والمؤسسات المالية وبحضور البنك المركزي تم خلالها تحديد نسبة فائدة قصوى على الإدخار.

8 أفريل 2025 قرطاج – الرئيس سعيد يلتقي محافظ البنك المركزي فتحي زهير النوري لتسلم القوائم المالية وتقرير مراقبي الحسابات لسنة 2024 مذكرا بدور البنك المركزي في فرض سياسات الدولة على كل المصارف.

يرى محدثنا أن مثل تلك الاتفاقات، على الأسعار بصفة عامة، مُقننة في جانب كبير منها ومُمأسسة ومُتجّذرة في التقاليد الاقتصادية التونسيّة في علاقة الدولة بالفاعلين الخواصّ إلى حدّ التطبيع معها، حيث إستدلّ بدور الدولة وتدخّلها في سوق تنافسي عبر تحديد هامش الربح بصفة مباشرة أو غير مباشرة منذ عشرات السنين.

وينتقد عضو منظمة آلرت المنظومة القانونية والمؤسساتية في تونس التي تُشرّع للإتفاق على الأسعار، سواء عبر تحديد هوامش الربح لحلقات المتداخلين في عديد القطاعات أو الإتفاقات مع الغرف المهنية لقطاعات أخرى، وتقسيم السوق في إستغلال واضح للمستهلك بمباركة الدولة، ما يمثّل السبب الرئيسي لغلاء المعيشة في بلد لا يتجاوز الأجر الأدنى المضمون فيه الـ500 دينار، أي ما يقارب الـ125 أورو.

لا يبدو أن خلفالله قد جانب الصواب، ففي حوار أدلى به وزير التجارة وتنمية الصادرات سمير عبيد بخصوص وضع المُنافسة على موازييك في 13 مارس الماضي، تحدّث عن تحديد الدولة للسعر الأقصى للبيع في عديد القطاعات بأنه يصبّ في مصلحة الوطن والمستهلك، مؤكّدا حرفيّا أنه بـ ”ذلك السعر الأقصى أو التسقيف ضمان للتنافسية ومحاربة الإحتكار في شكله النهائي (…) ويضمن الربح لجميع المتداخلين وكل الحلقات“.

هذه الحلقات التي أشار إليها الوزير والتي تُراكم الأرباح المضمونة أسقطت الحلقة الأضعف أي المواطن المستهلك الذي يدفع تلك الأرباح من جيبه، ويجد نفسه أمام سعر مرتفع وموحّد لمُنتجات أو خدمات ذات جودة رديئة.

وبطبيعة الحال فتلك الأرباح المضمونة لكل حلقات منتج أو خدمة ما، وخاصة الحلقات الوسطى والنهائيّة من الوسطاء والموزعين والباعة، التي يتيحها الاختصاص الحصري للدولة في تحديد هامش الربح، تحيل على إشكالية أخرى وهي فرص الولوج إلى تلك الدائرة باعتبار أن الدولة تضمن لها هامش الربح وتبعد عنها المخاطرة وتحميها من المنافسة الجديدة عبر نظام التراخيص، وهنا يُفتح باب الفساد والمحسوبيّة.

لكن في المقابل لا يبدو تحرير الأسعار وربطها بقاعدة العرض والطلب في السياق التونسي المُعقّد، وتخلّي الدولة عن اختصاصها بتحديد هامش الربح حلّا، حيث سيؤدي ذلك غالبا إلى منافسة غير متكافئة في ظل تراكم الثروة بيد فئة صنعت الدولة ثراءها وأغدقت عليها الامتيازات بسياسات منح الاختصاص الحصري لممارسة النشاط أو توريد السلع لما كان يُعرف بـ”اللزامة“.

الإتفاقات داخل الهياكل المهنية

مخالفة مبادئ المُنافسة خاصة عبر الإتفاق على الأسعار أو الترفيع الموحّد فيها بين متنافسين مُفترضين، عادة ما تتمّ داخل المنظمات المهنية، وفي بعض الحالات يتم تجريمها من طرف مجلس المُنافسة بسبب ما يُرجعه إلى الترفيع الأحادي الجانب، وفي حالات أخرى دون توضيح دقيق خاصة أن الاتفاق على الأسعار في ذلك القطاع ليس الأوّل ومُعتاد ويتيحه القانون، كما هو الحال مع قراره في 14 مارس 2024 بإيقاف قرار هيئة المحامين بضبط قيمة الأتعاب الدنيا للمحامي.

عادة ما يتكفّل مجلس المنافسة بالتحقيق في إخلالات بمبادئ المُنافسة، وعلى رأسها الاتفاق على الأسعار، بناء على شكاية أو تعهّد تلقائي كما يتيح له القانون المتعلق بإعادة تنظيم المُنافسة والأسعار لسنة 2015، والذي يقرّ عقوبات مُختلفة بداية من طلب الكفّ عن ممارسة مخلة بالمنافسة وصولا إلى قرار إغلاق المؤسسة أو تسليط خطايا تبلغ نسبة 10 بالمائة من رقم معاملات الجهة المعنية بالعقوبات.

وكأمثلة على قرارات مجلس المُنافسة ضدّ الإتفاقات المخلة بالمنافسة، قرّر المجلس في 29 ماي 2024 تسليط خطية مالية بأكثر من 142 مليون دينار على عدد من المؤسسات البنكية، وذلك لارتكابها ممارسات مخلة بالمنافسة تمثلت في الاتفاق على توظيف فوائض على القروض المؤجلة أثناء جائحة الكوفيد، ولكن يبقى ذلك الحكم، كما كلّ أحكام مجلس المنافسة، ابتدائيا قابلا للطعن لدى المحكمة الإدارية، في مرحلتي الاستئناف والتعقيب.

وفي مثال آخر يبدو أوضح على تورّط الهياكل المهنية، قرر مجلس المُنافسة في 21 أكتوبر 2021 تسليط خطية بأكثر من 10 مليون دينار على 4 نقابات مهنية و22 مصحة خاصة بعد ثبوت قيام إتفاق بينها للترفيع في تعريفات التدخلات الطبية وعمليات القلب والشرايين المجراة على المضمونين الاجتماعيين بالمصحات الخاصة، بعد إلزامها في 25 أكتوبر 2018 بإيقاف العمل بالزيادة في التعريفات.

وفي حالة أخرى مشابهة، وهي الأحدث، للإخلال بمبادئ المنافسة والترفيع الموحد في الأسعار بإشراف هيكل مهني قانوني، أعلن مجلس المنافسة في 17 جانفي 2025 أنه قرّر اتخاذ وسيلة تحفظية وقتية بشأن القرار الصادر عن عمادة الأطباء بعد نشرها في 6 جانفي الترفيع في أسعار العيادات والتدخلات الطبية، وألزم مجلس العمادة بتعليق العمل وقتيّا بالتعريفة الجديدة، إلى حين البت في أصل النزاع.

كما شملت قرارات الإدانة لمجلس المنافسة التي أقرتها المحكمة الإدارية، الغرفة الوطنية للمصبّرات الغذائيّة، التي يترأسها رئيس منظمة الأعراف سمير ماجول، بعد ثبوت الاتفاق داخلها سنة 2014 على الترفيع المتزامن في أسعار 24 ماركة من الطماطم المعلّبة من طرف المنتجين، بعد تحرير أسعارها من طرف الدولة.

17 مارس 2025 تونس – عمادة الأطباء تلتقي وزير الصحة للتباحث في قانون جديد ينظم ممارسة الطب في القطاع الخاص ومراجعة مشروع مجلة اخلاقيات المهنة – وزارة الصحة.

في تعليقه على تلك القرارات يرى عضو منظمة آلرت أن مجلس المنافسة، أصبح بعامل التراكمات والخبرة يحمل فهما أعمقا للأساليب الملتوية التي يستعملها أصحاب المؤسسات الإقتصادية في تونس بصفة عامة لتقسيم السوق والاتفاق على الأسعار وخرج من دائرة السذاجة التي كان يحلّل بها السوق في تونس.

التفاهمات والإتفاقات المُجرمة

القاضي الإداري والنائب السابق لرئيس مجلس المنافسة محمد العيادي يعتبر في حديث مع ”نواة“ أن التفاهم على الأسعار يكتسي خطورة كبيرة على المستهلك وعلى النظام العام الاقتصادي، لذلك فإنّ المشرّع التونسي منع بالفصل 5 من القانون عدد 36 لسنة 2015 الأعمال المتّفق عليها والتّحالفات والاتّفاقات الصريحة أو الضمنية التي تخلّ بالمنافسة، وهو ما يجب على مجلس المنافسة إثبات حصوله، أي الإخلال بالمُنافسة، في حالات الإدانة. حيث قال:

لا مناص لهيئة المنافسة من انتهاج تحليل اقتصادي تثبت بواسطته أنّ موضوع الإتفاق من شأنه أن يؤدّي إلى نتائج تخلّ بحريّة المنافسة، وبالتالي فإنّه لا يجوز لفقه القضاء الاقتصار على قراءة قانونيّة بحتة لإدانة المؤسّسة المعنيّة،

مشيرا إلى أن الاتّفاقات المحظورة من وجهة نظر قانون المنافسة هي كلّ أنواع المفاهمات والتّحالفات وكلّ أشكال التواطؤ الصريحة أو الضمنية والتي يكون موضوعها أو أثرها مخلّا بالمنافسة.

ولإثبات عملية الإتفاق، أو الدخول في حالات الإتفاق التي يمنعها القانون وعلى رأسها الإتفاق على الأسعار، يجب توفّر عدد من العناصر كربط الاتّفاق بتوافق إرادتين أو أكثر بين أطراف مختلفة، وهو ما يجعل الأعمال أحادية الجانب التي تأتيها إحدى المؤسّسات كالسعر المفروض على الموزّعين لا تعتبر عمليّة اتفاق أو تفاهم.

كما ربط القانون مؤاخذة مؤسّسة اقتصادية من أجل إبرام اتّفاق مخلّ بالمنافسة بعرقلة السّير العادي للسّوق، أي أنّ حظر هذه الإتّفاقات يبقى رهين شرط التأثير بصفة جدّية على حرّية المنافسة، وبالتالي فإنّ الإتّفاقات التي تبرمها المؤسّسات الصغرى التي لها مكانة بسيطة في السّوق والتي لا يسمح لها حجمها بالمساس بآلياته، لا يمكن اعتبارها ممارسات مخلّة بالمنافسة وبالقانون.

عُنصر آخر ربط قانون المُنافسة توفره لجعل الاتفاق مُجرّما، بـ”الارادة الحرة“، مما يعني أن الإتّفاق الذي حتّمته ظروف استثنائية أو ذلك الذي تفرضه الدّولة، كما أنّ فروع المؤسّسات التي تخضع كلّيا إلى إرادة المؤسّسة الأمّ ولا تملك حقّ المبادرة ولا حرّية التصرف، لا يمكن اعتبارها طرفا في الاتّفاق، بل أنّ تلك المسؤولية تقع على كاهل المؤسّسة الأمّ.

كما يرى العيادي، الذي أصدر والقاضي الإداري غازي الجريبي كتابا بعنوان ”قانون المنافسة من خلال التشريع وفقه القضاء“، أن الإنخراط في التّفاهم أو الإتّفاق يكون عبر مجرّد حضور مؤسّسة معيّنة أو تمثيلها في الإجتماعات المنظّمة تحت لواء منظّمة مهنية مثلا، للتداول حول مواضيع ذات صلة بالسّياسة التّجارية المزمع اتّباعها في زمن وظرف معيّنين، حتى إن أثبتت أنّها لم تطبّق السّياسة التّجارية المعتمدة من قبل المؤسّسات الأخرى.

ثغرات قانونية مُتعمّدة

نظريّا، يبدو مجلس المنافسة كمراقب وحكم بصلاحيات قانونيّة زجريّة لضمان التزام الفاعلين في السوق بمبادئ المنافسة، لكن عمليّا فإن إقرار وتسليط عقوبات على المخالفين دون آليات لتنفيذها يُفرغ الهيكل أو القانون من معناه ويجعل تأثيرهما صوريّا لا يخدم الهدف الذي أُحدثا وسُنا من أجله، وتقريبا يُمكن القول أن هي تلك حالة مجلس أو هيئة المُنافسة والقانون عدد 35 لسنة 2015 المتعلق بإعادة ضبط المنافسة والأسعار الصادر في 15 سبتمبر 2015، حيث يمثّل عدم تنفيذ قراراته القاعدة، وخاصة تلك المتعلقة بالخطايا الماليّة.

كانت حكومة إلياس الفخفاخ تقريبا هي الحكومة الوحيدة التي وضعت في أولويات عملها تجاوز القصور في اضطلاع مجلس المنافسة بدوره وتجاوز التعطيلات في تنفيذ قراراته، والتي ذكرها الفخفاخ في 14 جوان 2020، خلال حوار تحدّث خلاله عن الدور المهم لمجلس المُنافسة والثغرات في قانون المنافسة والأسعار.

 بلغ عدد قرارات الإدانة الصادرة عن مجلس المنافسة، خلال الفترة الممتدة من سنة 1991 إلى حدود سنة 2019، ما يُقارب 111 قرارا تضمّنت تسليط خطايا مالية تقارب 35 مليون دينار، وقد تم إستخلاص مبالغ في حدود 4.5 مليون دينار فقط من مجموع المبالغ المحكوم بها، وذلك وفقا للمعطيات المقدمة من الإدارة العامة للمنافسة والأبحاث الإقتصادية التي كشفها نائب رئيس مجلس المُنافسة السابق محمد العيادي بعد يوم من حوار الفخفاخ.

يتبادر للأذهان للوهلة الأولى أن المؤسسات الإقتصادية المخالفة هي المتهم الأول في عدم تنفيذ قرارات مجلس المنافسة ضدّها، ولكن المسألة أعقد من مجرّد الإمتناع عن الإمتثال لقرارات مجلس المنافسة، حيث تتّصل بطبيعة قانون المنافسة والأسعار، وما تضمّنه من موانع وثغرات تؤدي ضرورة إلى شلل في تنفيذ القرارات الصادرة عن مجلس المنافسة وعلى رأسها إستخلاص الخطايا.

24 مارس 2025 تونس – وزير التجارة سمير عبيد يستقبل رئيس مجلس المنافسة حسان القيزاني للحديث حول الإصلاحات التشريعية في قوانين المنافسة – وزارة التجارة

فالقانون الذي عوّض قانون تنظيم المنافسة والأسعار لسنة 1991 لم يكن وليد وعي بنقائص تشريعية أو محاولة دعم إضطلاع مجلس المنافسة بدوره، بل تمت صياغته والمصادقة عليه بعد ضغط من الإتحاد الأوروبي لتتماهى قوانين السوق التونسية مع القوانين الأوروبية ومعاييرها، ما يُساعد في فهم أسباب تضمّنه ثغرات عديدة ونقائص بديهية، لا يُمكن بأي حال من الأحوال ان تكون قد أغفلت عن حسن نيّة من طرف البرلمان الذي كانت تسيطر عليه آنذاك حركتي نداء تونس والنهضة.

 أبرز هذه  الثغرات التي تحول دون تنفيذ الأحكام الصادرة عن مجلس المنافسة، هي غياب جهة واضحة يحيل لها القانون تنفيذ القرارات، فوفق ما أوضحه القاضي الإداري ونائب الرئيس السابق لمجلس المنافسة محمد العيادي في حديث مع ”نواة“، يخصّ الفصل 44 من قانون المنافسة، وزير التجارة فقط، وبالتعاون مع الجهات المختصةّ، اتخاذ الاجراءات الضرورية لمتابعة تنفيذ قرارات مجلس المنافسة (…) أي أن وزارة التجارة، كسلطة إشراف، مكلفة قانونا بمتابعة التنفيذ فقط، دون مباشرة تنفيذ قرارات مجلس المنافسة الذي يقرّ باقتصار دوره على اصدار القرارات دون صلاحيّة مباشرة لتنفيذها، وهو ما تتعلّل به مصالح وزارة التجارة لعدم العمل على تنفيذ العقوبات.

فمسؤولية تنفيذ قرارات مجلس المنافسة لم يوردها الفصل 44 من قانون المنافسة مضبوطة بالدقة التي تؤدي إلى النجاعة في تنفيذها ولم يسندها بصفة واضحة لجهة معيّنة، مما أنتج قصورا في التنفيذ خاصة في علاقة بأحكام مجلس المُنافسة التي يقع الذهاب بها إلى طوري الاستئناف والتعقيب لدى المحكمة الإدارية التي لا علاقة لها مثلا بوزارة التجارة، حيث يمثل استئناف أحكام مجلس المنافسة أمام المحكمة طريقة للتهرب من أحكامه الإبتدائية.

ولا تقتصر الثغرات القانونية على غياب الجهة التي تنفذ قرارات مجلس المُنافسة فهي تعود كذلك إلى ضبابية طبيعة مجلس المُنافسة وعدم تحديدها صراحة، إن كانت جهة قضائية أم مجلس أو هيئة رقابة، خاصة أن قراراتها من حيث الشكل تُفتتح كالقرارات القضائية بعبارة باسم الشعب التونسي لكن دون شعار الجمهورية.

كما لا يقرّ القانون أي عقوبات لعدم تنفيذ قرارات مجلس المُنافسة التي يقع إستئنافها أمام القضاء الإداري أو الطعن فيها، والتي يقع فيها تثبيت قرارات مجلس المنافسة، باعتبار أن المحكمة الإدارية تنظر في الشكل وليس لها غالبا الأهلية أو الاختصاص للنظر في مضمون قضية الإخلال بالمنافسة الموكولة لمجلس المنافسة. ثغرات يقرّ أهل الاختصاص أنها متعمدة لإفراغ القانون ومجلس المنافسة من محتواه، وتكريس الإفلات من العقاب في كل ما يتعلق بمخالفة تكريس مبادئ المنافسة في السوق.

مقترح تنقيح لا يُعالج أصل الإشكال

في 6 فيفري 2025 تقدم عدد من النواب في البرلمان الحالي، أغلبهم من غير المنتمين للكتل، بمقترح لتنقيح القانون المتعلق بتنظيم المنافسة والأسعار لسنة 2015، ووفق المعطيات المتوفرة فمقترح القانون يحظى بدعم وزارة التجارة ومجلس المنافسة اللذان أعلنا في بلاغات مشتركة أنهما يعملان على دعم الأرضية التشريعية لحماية المستهلك من كل الممارسات المخلة بالمنافسة من احتكار وهيمنة على السوق واتفاق على الأسعار.

وقد أحال مكتب البرلمان مقترح القانون ذاك، خلال اجتماعه في 20 فيفري 2025، إلى اللجان المختصّة وهما، لجنة الصناعة والتجارة والثروات الطبيعية والطاقة والبيئة وكذلك لجنة الفلاحة والأمن الغذائي والمائي والصيد البحري.

ولكن، وفق النسخة الأولية لمقترح القانون، لم تقع معالجة الأسباب الرئيسية للقصور في تنفيذ قرارات مجلس المُنافسة والعقوبات التي يسلّطها على المخالفين، بل فقط تم اقتراح تنقيح الفصول المتعلقة بالعقوبات عبر التشديد فيها بمضاعفة الخطايا أو السجن.

⬇︎ PDF

بذلك لم يعالج مقترح التنقيح المطروح الثغرات القانونية، والتي عدّد هذا المقال جزء يسيرا منها، حيث يُحافظ مقترح القانون على نفس روح إقرار العقوبات دون تحديد صريح للجهة التي تختص بتنفيذها أو تسليط خطايا دون تحميل مسؤولية إستخلاصها لجهة معيّنة، رغم علم مصالح وزارة التجارة ومجلس المنافسة بذلك الإشكال.

يعتبر القاضي الإداري محمد العيادي في تصريح لـ”نواة“ أن أهم الحلول لتكريس احترام مبادئ المنافسة وتفادي الأفعال المخلة بها، وعلى رأسها الاتفاق على الأسعار، يتمثل في إعادة صياغة الفصل 44 من القانون عبر تحديد واضح للجهة المكلفة بتنفيذ قرارات مجلس المنافسة.

كما يجب أن تتجه المراجعة التشريعية، نحو تكريس استقلالية حقيقية لمجلس المنافسة عن السلطة التنفيذية على مستوى التعيين والإقالة لأعضائه وضبط حاجيات ميزانيته وتنفيذها، مع تحديد دقيق لصبغته ودعم صلاحياته لتبلغ تمكينه من قرار الإعفاء من تطبيق قواعد المنافسة، التي يختص بها وزير التجارة حاليّا.

كما يرى العيادي أن تنقيح القانون يجب أن يكون في إتجاه إحداث دوائر قضائية استئنافية داخل مجلس المُنافسة، مع جعل قرارات المجلس الإبتدائية نافذة ولا يوقفها اللجوء للطعن والإستئناف مع إلزام المستأنف دفع جزء من الخطية المسلطة عليه، وهو مقترح يشترك فيه العيادي مع عضو منظمة آلرت ضياء خلفالله.