شباب بأجسام مشدودة يتمايلون وهم يراقبون الكاميرا بنظراتٍ متوعّدة، بينما تتدلّى من أعناقهم سلاسل ذهبية ثقيلة، يتباهون بوشومهم وخواتمهم اللافتة وساعاتهم الفاخرة، ملابسهم من علامات تجارية شهيرة، ألماس يرصّع أسنانهم؛ يتبادلون المال مقابل الحشيش والكوكايين مشهرين أسلحتهم، يستعرضون نساء شبه عاريات كأنهن غنائم.
كل لقطة في فيديوهات ”الراب“ و ”الهيب هوب“ و ”التراب“ تبدو وكأنها تمجّد الجريمة، في أجواء اكتسبت صبغة غير واقعية بفضل الإيقاعات البطيئة المتوترة ودقّات الطبول الإلكترونية المتقطعة. إلى جانب الألحان السهلة التي تصنع بواسطة مركّب الصوت، نسمع قوافي متقنة تمزج بين الإيطالية واللهجة المحلية واللغة العامية الأمريكية، تتخللها كلمات بالإسبانية والفرنسية، والأهم من ذلك، بلهجات عربية.

بالك، فلوس، حلال، حرام، حبس، خويا، والله: كلها مصطلحات تزداد شيوعًا في الموجة الجديدة من موسيقى الهيب هوب الإيطالية، إذ أن عددًا لا يستهان به من نجومها ينتمون إلى أصول شمال إفريقية. تتصدر أغانيهم قائمة الأغاني الأكثر استماعًا لأسابيع بتحقيقها ملايين المشاهدات على اليوتيوب، كما تذاع حفلاتهم التي عادةً ما تكون محجوزة بالكامل على الهواء مباشرةً على شاشات التلفزيون.

بعضهم قضى فترات من طفولته وشبابه في السجون أو الملاجئ؛ في كلمات أغانيهم يروون معاناتهم مع الإقصاء والتهميش أثناء نشأتهم في أحياءٍ فقيرة، فكان الاتجار بالمخدرات والعنف السبيلان الوحيدان للهروب. لذا يُستخدم الثراء والرفاهية الاقتصادية كتعبير عن الثأر من التهميش الاجتماعي والقمع الطبقي الذي تمارسه دولة لم تعترف بهم يومًا كأبناء، ولا تزال حتى اليوم تسلبهم الكثير من الحقوق والفرص والحماية اللازمة.

بصفتهم ”مهاجرين من الجيل الثاني“، أي أنهم ولدوا في هذا البلد من أبوين أجنبيين أو وصلوا إليه في سنٍّ صغير، يُعتبر هؤلاء الشباب في نظر المؤسسات ”مواطنين من الدرجة الثانية“، رغم شعورهم بأنهم إيطاليين كغيرهم من حيث اللغة والثقافة وارتباطهم بالمكان. ولعل أول حقٍّ وجدوا أنفسهم محرومين منه هو حق الجنسية، التي تُمنح فقط عبر صلة الدم أو النسب العائلي، في بلدٍ يحكمه مبدأ jus sanguinis (من اللاتينية: ”حق الدم“). وُرِث هذا النموذج القانوني من التشريعات المدنية السابقة على وحدة الدولة، وكان الهدف منه في الأصل الحفاظ على الروابط بين المهاجرين والوطن الأم. وقد تم تثبيته في أول قانون للجنسية عام 1912، ثم تم تشديده بموجب القانون رقم 91 لعام 1992. ولا يزال حق الدم حتى اليوم يفرض على الأشخاص من أصل أجنبي التقدّم بطلب للحصول على الجنسية بعد عشر سنوات من الإقامة المنتظمة والمتواصلة في البلاد، أو عند بلوغهم سن الثامنة عشرة. لكن قلّةً فقط ينجحون في إتمام هذه الإجراءات لشدّة تعقيدها وبطئها وتكاليفها الباهظة.

مغني الراب الإيطالي من أصول مغربية لاما اسلام مع مجموعته في الاحياء الشعبية لمدينة بولونيا – lamaislam isntagram

على مرّ السنين، قُدّمت العديد من مقترحات القوانين الداعمة لمبدأ jus soli (حق الأرض) (مبدأ قانوني تُحدد بموجبه جنسية الشخص بناءً على مكان ولادته)، لكن جميعها باءت بالفشل. حتى اليوم، لا يزال أكثر من مليون شخص يعيشون دون اعترافٍ رسمي من الدولة، ودون تمثيل سياسي أو لغوي أو ثقافي.

واليوم يحاول مغنيو الراب والتراب الجدد من أبناء المهاجرين إعلاء صوت هذا القطاع المهمّش من الشعب.

الروّاد

وُلِد “لاما إسلام“ في المغرب ونشأ في مدينة بولونيا الايطالية في التسعينيات، هو أول من جمع بين اللغتين العربية والإيطالية في أغانيه لإدانة الممارسات العنصرية البغيضة التي يتعرّض لها يوميًا. يقول: ”أحيانًا يطلب مني الشرطيون إبراز تصريح إقامتي، حتى ولو كان مثبتًا في بطاقة هويتي أنني أحمل الجنسية الإيطالية”. ويضيف:

وكأنهم يفعلون ذلك عمدًا لتذكيرك بأنك مختلف. في البنك وفي المصالح الحكومية لا زالوا يسألونني إن كنت أفهم لغتهم، بالرغم من كونها لغتي أنا أيضًا.

أما أمير عيسى فقد وُلد في حي توربينياتارا متعدد الثقافات بالعاصمة الإيطالية روما، لأب مصري وأم إيطالية. بعد طفولة ذاق فيها الذل والفقر، اكتشف موسيقى الراب التي سرعان ما أصبحت وسيلته لرواية حكايته الشخصية. يتعاون أمير مع العديد من الجمعيات المعنية بالمجال الاجتماعي، ويدير ورشًا موسيقية وورش كتابة داخل سجون القاصرين، ويقود حملات توعية ضد العنصرية. يكرّس عيسى جزءًا كبير من عمله كفنان وناشط للنضال من أجل الاعتراف بجنسية أبناء الجيل الثاني. ففي عام 2012، أطلق عبر منصة Change.org عريضة بعنوان ”عزيزي الرئيس” مصحوبة بفيديو يدعو فيه لتطبيق مبدأ ”حق الأرض”، نجح في جمع آلاف التوقيعات في غضون أيام قليلة. واليوم، يروّج لموسيقى الراب بوصفها أداة تربوية في المدارس والجامعات داخل إيطاليا وخارجها.

أمير عيسى خلال تصوير فيديو كليب عزيزي الرئيس المندد بالعنصرية تجاه المهاجرين في إيطاليا – Amir Issa youtube ofiicial

أيقونات ”التراب“ الجديدة

لكنّ موسيقى التراب، أحد فروع موسيقى الراب، أصبحت بشكل خاص تربة عالمية خصبة لخلق رموز هوياتية جديدة متعددة اللغات والأعراق.


أُسامة العنبي المعروف باسم مارويغو (”المغربي“)، والمولود في مدينة برشيد المغربية عام 1992، كان أول من أدخل هذا النوع إلى إيطاليا. عاش مارويغو في ضواحي ميلانو مع والدته بينما كان والده في السجن، وعانى من النبذ ومن ظروف اجتماعية صعبة. عمل في البداية في محل جزارة قبل أن يحقق شهرة بفضل أغنياته ذات الموسيقى المبتكرة، التي تعد مزيجًا متفجرًا من الراب والإلكترو والأشكال الموسيقية العالمية، من الراي الجزائري إلى التأثيرات الفرنسية.

من بين فناني التراب البارزين في ميلانو أيضًا سامي أبو الحسن، المعروف باسم ”ساكي“، وهو ابن لأم مغربية وأب مصري. في فترة مراهقته، ارتكب بعض الجرائم التي تراوحت عقوبتها بين الأحكام البسيطة والاحتجاز، واكتشف الموسيقى بفضل قسّ التقى به في إحدى جماعات إعادة التأهيل يُدعى دون كلاوديو بورجيو، وهو نفس القس الذي ساعد زكريا موهيب، المعروف باسم ”بيبي غانغ“، على طيّ صفحة الإجرام. أصدر بيبي غانغ ذو الأصول المغربية، بعد سنوات من الانحراف، أولى أغانيه الناجحة، بعضها سُجّل تحت حراسة أمنية. في عام 2021، نشر ألبومه الأول بعنوان Delinquente (المنحرف)، والذي يصف فيه حياة الشارع القاسية التي يعيشها جيل مُهمَّش يفضل الكثيرون غضّ الطرف عنها، فأصبح متحدثا باسمه، بكلماتٍ فجّة وصريحة.

امرأة وسط عالم من الرجال

ولكن في هذا السياق الذي تغلب عليه الذكورية وينضح بالصور النمطية الذكورية، هناك أيضًا من يحاول تحريك الخيال من منظور نسوي، مثل شادية دارناخ رودريغز. وُلدت المغنية في إسبانيا لوالدين مغربيين ونشأت وترعرعت في ضاحية تورين، وقد تعرضت في طفولتها لتجارب قاسية مثل التنمر المدرسي، كما كان عليها مواجهة بعض التدابير القضائية.

شادية رودريغاز في فيديو كليب جميلة كما هي المندد بالتنمر من أجساد الآخرين – Bella Cosi official clip

 في عام 2018، أصبحت أول فنانة راب تتصدر غلاف قائمة تشغيل أغاني راب على منصة سبوتيفاي، واليوم هي أحد فناني شركة سوني ميوزيك. بيعت 25 ألف نسخة من أغنيتها الثانية Fumo bianco  في أول ألبوم قصير لها Avere 20 anni (في عمر العشرين، 2018)، أما أغنيتها Bella così  (جميلة كما هي، 2020) المناهضة لظاهرة السخرية من أجساد الآخرين (body shaming)، فقد حصلت على جائزة القرص الذهبي. حيث قدّم الفيديو كليب، الذي تم تصويره بالتعاون مع المغنية فيديريكا كارتا، 21 امرأة من أعمار مختلفة، وتم بثه على وسائل التواصل الاجتماعي مرفقًا بمقاطع فيديو توثّق شهادات ضحايا العنف الجسدي والنفسي.

حالة غالي

جويلة 2025 غالي العمدوني وسط جماهيره الغفيرةGhali official FB

لكن حالة غالي العمدوني، الشاب الميلاني من أصل تونسي، تستحق فصلاً خاصًا. هذا الشاب الثلاثيني الذي يبلغ طوله قرابة المترين يدعو للإعجاب بأسلوبه الهادئ، وبملابسه الغريبة التي تبتعد عن الرموز الذكورية المعتادة في موسيقى التراب، وفوق كل ذلك بانخراطه في الشأن المجتمعي. عاش غالي مع والدته التي كانت تكافح لتأمين مأوى لائق له بينما كان والده في السجن، وبعد سنواتٍ من المعاناة، حصلا على سكن اجتماعي في باجيو، وهو حي نابض بالموسيقى تكثر فيه جلسات الموسيقى الارتجالية والفري ستايل. اكتشف غالي موسيقى الراب من خلال فيلم إيمينيم 8 Mile  وعن طريق صديق تونسي عرّفه على أغاني جو كاسانو(1973-1999)، أحد نجوم الهيب هوب بمدينة بولونيا، إلى جانب عدد من فناني الراب الإيطاليين. كانت لحظة سماعه لتلك الموسيقى الإيقاعية بلغته الأم بمثابة اكتشافٍ عظيم. بدأ بتسجيل أولى تجاربه على أقراص مدمجة وزعها على أصدقائه في الحديقة الصغيرة أسفل منزله. قال لصحيفة نيويورك تايمز:

وقعت في حب الراب الإيطالي، لكنني لم أجد نفسي فيه؛ لم يكونوا يتحدثون عني تحديدًا، وكنت أعلم أن أبناء المهاجرين بدأوا يتواجدون في إيطاليا، لكن لا أحد يروي قصتهم.

وفي الأغنية التي صنعت نجوميته، كان هو الصوت الذي يعكس معاناتهم: ”أحبك يا عزيزتي إيطاليا، أنتِ نصفي الحلو | عندما يقول لي أحدهم: عُد إلى بلدك، أجيب: أنا في بلدي بالفعل | أحبك، يا عزيزتي إيطاليا“، راسمًا بذلك صورة تعكس واقعًا بائسًا للحالة الثقافية والسياسية التي يعيشها بلد عالق بين فكّي الشعبوية والخطاب العنيف المعادي للهجرة.

أما أغنية Ninna Nanna فقد أهداها إلى والدته، التي يرتبط بها ارتباطًا عميقًا ويكنّ لها امتنانًا هائلاً. لسنوات، عاشا وحدهما في مواجهة العالم، فكانا يفترشان الأرض، ويطهوان الطعام على موقد تخييم، ثم صارا يتقاسمان الفراش حتى أصبح نجمًا مشهورًا واستطاع أخيرًا أن يشتري منزلاً. خلال حفل لا يُنسى في عام 2018، دعاها إلى صعود خشبة المسرح وهو يرفع العلم الإيطالي، مما أثار مشاعر آلاف المعجبين، ولمس قلوب من تابعوه من بيوتهم في بثٍّ حي.

وعلى عكس العديد من فناني التراب الآخرين، لا يسعى غالي، الذي يعتبره الكاتب روبرتو سافيانو ”واحدًا من أعظم شعراء اللغة الإيطالية“، إلى إثارة الجدل أو الانقسام، بل يسعى إلى رفع وعي الرأي العام بقضايا اجتماعية بالغة الأهمية والإلحاح. في أغنية In Primis  يتناول موضوع الهجرة، وفي Wily Wily يدين الصور النمطية عن الأجانب، بينما يروي في أغنية Mamma  قصة شاب تونسي يتخيل ليلاً عبوره البحر مرتديًا قميص المنتخب الوطني الإيطالي.

6 جويلية 2025 غالي ينشر على صفحته الرسمية صورة للصف الأول من جماهيره بالعلم التونسي-Ghali official FB

لكن غالي يعمل أيضًا بعيدًا عن الأضواء، ففي عام 2022، تبرع بقارب مطاطي لمنظمة Mediterranea Saving Humans لإنقاذ المهاجرين من الغرق، واصفًا هذه المبادرة بأنها «أكثر تصرف يُجسد روح الراب». ثم أطلق حملة تمويل جماعي لشراء قارب آخر، لم يشارك فيها تقريبًا سوى أبناء المهاجرين أمثاله. بعدها بفترة وجيزة علق على وسائل التواصل الاجتماعي قائلاً: ”هل يجب أن تختبر تلك المعاناة بنفسك لكي تستطيع أن تراها؟“. في مهرجان سانريمو عام 2024، وهو الحدث التلفزيوني الغنائي الأهم في إيطاليا، غنّى غالي أغنية عن الحرب في غزة، ثم صاح قائلاً: «أوقفوا الإبادة الجماعية»، مما أثار استياء بعض المسؤولين السياسيين وممثلي الجالية اليهودية[1].

نحو إيطاليا جديدة؟

بعد انتهاء دورة الألعاب الأولمبية في باريس، والتي أظهرت للعالم بلدًا متعدد الأعراق في حالة تغيّر مستمر، أُطلِقت في إيطاليا حملة جمع توقيعات لإجراء استفتاء شعبي يهدف إلى خفض مدة الإقامة المطلوبة للنظر في طلبات التجنيس من الأشخاص البالغين من خارج الاتحاد الأوروبي إلى النصف. في غضون أسابيع قليلة، تم جمع 637,487 توقيعًا، وفي آخر شهر جانفي، اعتبرت المحكمة الدستورية المقترح مقبولاً. وقد طُرحت تلك القضية إلى جانب أربع قضايا أخرى تتعلق بحقوق العمال للاستفتاء الذي أجري في 8 و9 جوان، لكن نسبة الامتناع عن التصويت المرتفعة – والذي دعت إليه الحكومة اليمينية المتطرفة بصورةٍ مخزية – حالت دون بلوغ النصاب القانوني[2] اللازم مما أدى إلى فشل الاستفتاء. هكذا أصبحت صناديق الاقتراع الفارغة رمزًا لديمقراطية تشهد أزمةً عميقة، وتواجه خطر الانهيار تحت وطأة خطابٍ شعبوي يزداد عدوانيةً وانعدامًا للضمير يومًا بعد يوم.

يقول غالي في أغنيته باينة Bayna: “أنت تحلم بأميركا، أما أنا فأحلم بإيطاليا. إيطاليا الجديدة”.

ونحن نشاركه الحلم.


[1] جاءت الانتقادات الموجهة إلى غالي بشكل خاص من رئيس الجالية اليهودية في ميلانو، ووكر ميغناغي، ومن سفير إسرائيل في إيطاليا، ألون بار، الذي كتب على منصة X:”أرى أنه من المخزي أن يتم استغلال منصة مهرجان سانريمو لنشر الكراهية والتحريض بأسلوب سطحي وغير مسؤول“.

[2] يشير مصطلح ”النصاب القانوني (والمعروف بـ quorum باللاتينية، والذي يعني حرفيًا ”من بينهم“)، إلى الحد الأدنى المطلوب من عدد الأصوات أو الناخبين، محسوبًا عدديًا أو كنسبة مئوية، لكي تُعتبر أي اجتماعات للمداولة أو انتخابات أو استفتاءات صحيحة وقانونية. وفي الاستفتاءات الشعبية، يجب أن يتوجه نصف عدد الناخبين الذين يحق لهم التصويت زائد واحد إلى صناديق الاقتراع ليكون الاستفتاء صالحًا.


انجز هذا المقال كجزء من نشاط ”شبكة المواقع الاعلامية المستقلة بخصوص العالم العربي“، وهي إطار تعاون إقليمي تشارك فيه ”السفير العربي“، و”مدى مصر“، و”مغرب اميرجان“، و ”بابل ماد“ و ”ماشا الله نيوز“، و”نواة“، و”حبر“ و”أوريانXXI“.