في محاولة بحثية تسعى إلى النبش في الهامش الثقافي والاجتماعي والفئات المهمشة، غاص الكاتب التونسي هيكل الحزقي في إصداره الاخير، ”أجواد وأوغاد: قصة الباندي التونسي“[1]،في عالم ”الباندية“ المخضرم الـذي أخذ طابعا تونسيا بعد مروره بعدة محطات ساعدت في تشكله، وصولا إلى خمسينات القرن الماضي، في وقت أخذ فيه ”الباندي“ بعدا بطوليا وأسطوريا لارتباطه بصفة المقاوم ضد المستعمر.
لقد ارتبط مفهوم ”الباندي“ في مخيالنا الجمعي بالقوة والفتوة واعتبره الأفراد في وقت ما حاميا ومدافعا شرسا عن الفضاء الذي يتشاركونه، إلا أن الحزقي، شكك في هذه الذاكرة الشفوية، إذ جرد الباندي من القدسية و”الأسطرة“ التي ارتبطت به وترسخت في مخيالنا الجمعي الذي تغذى من الروايات الشفوية رهينة لسان كل راوي.
أنماط رجولة الباندي
تمثل الرجولة جملة من الصفات والسلوكيات والأدوار التي تحددها المجتمعات للذكور وهي بناء ثقافيا، اجتماعيا وتاريخيا، تشترك في إقامته السّلطة بمختلف مظاهرها: المجتمع، والأسرة، والمدرسة، والأخلاق، والدّين، والدّولة، والقانون[2]. تتمثل رجولة الباندي في الصلابة والقوة والشهامة.. يحتمي به الناس ويكبت عاطفته لأن إظهار المشاعر والبكاء ينسب للضعفاء.
اعتبرت الباحثة في علم الاجتماع الأسترالية رايوين كونيل، أن الرجولة رجولات تخضع إلى هرمية تراتبية تتصدر أعلاها الرجولة المهيمنة أو المعيارية hegemonic masculinity.
تتمثل الذكورة المهيمنة لدى كونيل في الرجل الأبيض المهيمن صاحب السلطة ذو الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية وحارس الحدود الجندرية. ويلي هذا النمط وفق الهرم التراتبي لكونيل، الرجولة المتواطئة complicit masculinity، وهي رجولة لا تحمل نفس امتيازات الرجل الأبيض وتمثل في العادة الفئة الأكثر وجودا في المجتمع. تمارس الذكورة المتواطئة مختلف أشكال الهيمنة الذكورية على النساء رغم عدم وجود مصلحة مباشرة مع ذلك.
وتأتي الرجولة الخاضعة أو المستضعفة subordinate masculinity في مرتبة ما قبل الاخيرة، تمثل أصحاب الهويات اللامعيارية التي لا تتناسب هوياتهم الجندرية مع المعايير الاجتماعية على غرار المثليين والعابرين جنسيا.
أما عن الرجولة المهمشة marginalized masculinity، فهي لا تتناسب مع أي من الأنواع السابقة، وغالبًا ما تكون مرتبطة بالفئات المهمشة اجتماعيًا.
في الحقيقة، لم يشر الكاتب إلى ملامح الرجولة المهيمنة في إصداره البحثي مقابل تمعنه في رجولات الباندي دون أن ينص حرفيا على مصطلح رجولات أو مفهوم أنماط الرجولة.
أردنا أن يكون لقاؤنا مع أحد أهمّ فنّاني المزود في تونس فرصة للحفر في شخصيّة تختزن أفكارا وخلفيّات قد يستغربها البعض ممّن لا يعرفونه عن قرب. صالح الفرزيط هو صعلوك المزود بامتياز، صالح الفرزيط ليس فقط من غنّى ”ارضى علينا يا لمّيمة“ التي دخلت التاريخ بأبعادها السياسيّة، هو قارئ نهم وشاعر بالفطرة، كتب العديد من القصائد بالفصحى. هو أيضا ذلك المحبّ الخجول والذي قال عن حبيبته بأنّها ”جنّة وأطرافها نار“. قضيّنا يومنا مع الفرزيط، أكلنا معه أكلته المفضّلة اللبلابي، وغنيّنا معه في أزّقة المدينة العتيقة. حدّثنا عن فنّ المزود الذي صار مستشرقا وعن حكاياته المنسيّة. وجه آخر لصالح الفرزيط.
الرجولة المهيمنة
عاش الباندي في المدينة عبر مراحل مختلفة (قبل الاستعمار، في فترة الاستعمار وبعدها) وكان في البداية هامشيا (خارج المركز أي خارج المدينة) يعيش في الأرباض المحيطة بالمدينة والأحياء الشعبية، يُنظر إليه بنظرة احتقار وازدراء لأنه نازح واعتبره البلدية ”كتلة طفيلية“ تسببت في مشاكل ارتفاع منسوب الجريمة[3] في المدينة ومثّل اختلاط سكان المدينة وسكان الأرباض ”كارثة“ بالنسبة إليهم.
يظهر جليا من خلال هذه الوقائع التي سردها الكاتب، التفاوت والتقسيم الطبقي بين البلدي و”الزوفري“ و”الزبرطعي“[4] النازح، ما يكشف لنا أحد ملامح الرجولة المهيمنة آنذاك متمثلة في ”البلدي“ و ”ولد البلاد“، فمكانة البلدية تتحدد بهذا الفصل بين الربض والمدينة[5].
كما عزز المستعمر هذه النظرة تجاه النازحين من خلال فرضه في فترة الثلاثينات والأربعينات ”تأشيرات للتنقل نحو المدن وخاصة العاصمة.“ [6].
هذا البلدي هو رجل أبيض [7]، يمكن أن يكون من الأعوان، ميسور الحال، ينتمي إلى طبقة اجتماعية متوسطة، له امتيازات اقتصادية فهو مستثنى من الضرائب لوجوده في المركز، حسب ما جاء في الكتاب، ولديه أدوات سلطة وتحكّم بدرجات متفاوتة.
رجولة مهمشة
أشار الحزقي في إصداره البحثي إلى قدوم هذا ”الزوفري“ ”الزبرطعي“ الهامشي محملا بجل سخطه وغضبه من السلطة التي دفعته إلى النزوح في فترات مختلفة، أولا في منتصف القرن 19تحت ضغط عوامل اقتصادية وانتشار الفقر الأوبئة وخلال فترة الثلاثينات بسبب افتكاك الأراضي الفلاحية.
فكانت رجولة باندي المدينة قبل أن تتحصل على الاعتراف الاجتماعي والبُعد البطولي، مهمشة، هامشية، موصومة ومنبوذة، فهو ذلك الآفاق النازح القادم من الأرياف ”النذل“ و ”الوبش“ والمرتبط بعالم القاع والجريمة[8]. تعرض في البداية إلى عنصرية مقيتة ووصم اجتماعي من ”البلدية“ والأعيان.
حصل الباندي عند وصوله إلى المدينة، على اعتراف كما يصفه موريس ميرلوبونتي، في مؤلفه المرئي واللامرئي، ”مُشوه“، ولامرئية اجتماعية في الفضاء العمومي من ”خلال الوصم الاجتماعي والسلوكيات التي تُعبر عن الاحتقار والتجاهل والازدراء. بالنسبة لميرلوبونتي، الانتقال من اللامرئية إلى المرئية يتم من خلال الاحترام المتبادل لتجاوز أشكال الاحتقار“[9] إلا أن الاحترام المتبادل في حالتنا لم يكن أحد عناصر الاعتراف المرئي للباندي، فهو يستعمل العنف لنيل الاعتراف.
كردة فعل وجودية وهوياتية، ضد هذا التهميش، وافتكاك الاعتراف والخروج من الهامش، خلق الباندي آليات جديدة لإثبات وجوده وعرض رجولته على الركح الاجتماعي، لعل أبرزها استعمال العنف في فضاء المدينة كشكل من أشكال المقاومة ضد ”الحقرة“ والتهميش ونظرة استعلاء البلدي. وهو ليس بشيئ جديد عنه، فقد أثبت الحزقي منذ بداية بحثه عن ملامح بداية تشكل الباندي، في الفصول الأولى من الكتاب، وجود أرضية خصبة للعنف (القراش، الملاكمة..) عند الباندي واستعماله كأداة لفرض السلطة ونيل الاعتراف من المجتمع، فالقوة عنصر أساسي من عناصر البقاء[10].
إضافة إلى استعمال العنف، كان هذا ”الزوفري“ يشرف على ألعاب القمار ومنخرط في تجارة الجنس والخمر وممارسة العنف [11]، وهي سلوكيات وممارسات ساهمت في خلق رجولة متوحشة من رماد الإقصاء والتهميش[12] تتغذى من العنف.
تجاوزت رجولة الباندي مجالها الهامشي وراكمت رصيدا هاما من رأس المال الرمزي[13](القوة، الصلابة، الشهامة، البطولة..) الذي ساهم في ”رمنسة“ و”أسطرة“ سيرة الباندي في مخيالنا الجمعي، حققت له مكانة اجتماعية تخرجه من الهامش.
في الحقيقة، هذا النمط الجديد من رجولة الباندي، هو أيضا، نمط متواطئ مع الرجولة المعيارية يدعم الثقافة الحامية لتفوق الرجل[14]، حيث يؤيد قيم الهيمنة الذكورية ويتماهى مع بناءات الذكورة التي تعلي من قيمة الرجال وتظهر في جملة من الصفات، من بينها القوة وعدم إظهار المشاعر واستعمال العنف والصلابة والسلطة. كما يتحوز الباندي على المميزات الذكورية التقليدية منها، توكيد الـذات، التنافس، العدوانية والقوة الجسدية[15].
كما يحافظ الباندي على علاقات الهيمنة الجندرية (مهيمن، مهيمن عليه) وبناءات الرجولة والأنوثة في المجتمع والثنائيات المضادة التي تشكلها (القوة/ اللين، الحكمة/المشاعر، الرقة /القسوة..)
تحاول هذه الرجولة المتواطئة اكتساح الفضاء العام وإثبات نفسها لتصنع من هامشها مركزا تنافس من خلاله أنماط الرجولات الأخرى، تاركة أثرا في التاريخ، وهو ما استرعى إنتباه الكاتب هيكل الحزقي الذي نبش في مختلف مراحل تشكل الرجولات لدى الباندي وصولا إلى فترة الاستعمار من دون إحالة واضحة على ذلك.
رجولة مقاومة للاستعمار وضد السلطة
في الحقيقة نُحت مصطلح الباندي عند فترة المقاومة ضد المستعمر وانتقلت رجولة الباندي من خانة الرجولة المهمشة إلى رجولة مقاومة للاستعمار في صدام ضد السلطة، إذ شارك الباندي في معارك مباشرة ضد الاستعمار من بينها معارك الحركة النقابية، كما تم الاستعانة به في أعمال التخريب والشغب ضد المستعمر في الخمسينات وذلك لفتوته وقوته الجسدية.
برز الباندى في فترة الخمسينات، في الفضاء العام كعنصر فاعل وحول ”سخطه على الظلم والسلطة ورفض المدينة وعنفها إلى عنف مضاد أكسبته الذاكرة الجماعية صفة النبل“ و”تخلص من الوصم الإجرامي ليصبح البطل والحامي“[16].
كما تسيد الباندي، في فترة الاستعمار وما بعدها، حيه والمجموعات التي ينتمي إليها وكان الحامي والمتصدي لكل غريب على غرار السلطات الاستعمارية أو شخص من حي آخر يمثل مصدر خطر على حيه.
أصبح لهذا ”الزوفري“ سلطة داخل المجموعة ورُفع إلى مرتبة ”الأمير الفتي“[17] و”البطل المحلي“ [18]، وصارت أحياء المدينة مجالا سياديا للباندي يصل إلى مرحلة أن يطلق على بعض الأحياء أسماء تعود لباندية.
في الحقيقة، وجد الباندي فضاء ينتمي إليه ويكون فيه فاعلا لا مفعول به وأصبح ”التبنديد“ صفة نبيلة وشكلا من أشكال الدفاع عن المجموعة و”حماية مستضعفيها ونسائها ورجالها“[19]، وذلك لحاجة المجموعة لصناعة بطل سيغذي فيما بعد الذاكرة الشفوية التي ستطنب في تمجيد وأسطرة ورمنسة الباندي المنتقل من خانة ”الشغب والخروج عن القانون إلى مربع المقاومة ضد المستعمر وضد السلطة[20]، لامتلاكه جملة من الصفات الرمزية والجسدية.

جسد الباندي مؤسطر لا يقهر
حولّت السرديات الشفوية جسد الباندي إلى جسد مؤله يتجاوز قوانين الطبيعة يعيد التفاوض على أشكال السلطة من خلال الأفعال والممارسات المختلفة.[21]لا يأبى التطويع والتقويم وترويض سلوكه [22].
جسد قوي البنية، يؤسس لمركزيته في تأثيث سيرة الباندي[23] ، يعيد الباندي بناء جسده وبنيته من جديد بعد الخروج من السجن، (الهادي الشنوفي مثالا وهو أحد الباندية التاريخيين لحي باب الخضراء بالعاصمة) في دلالة على جبروته وعدم قدرة السلطة على ”تكسيره“ وإخضاعه.
تُنسب إلى الباندي كنية ظريفة التسمية، توحي بالفحولة والقوة (وحش المدينة، العيرود، مطرقة، تاباميا)، يسجل بها الباندي ( في المجتمع البحاري أو الأحياء الشعبية أو المدينة) حضوره في الفضاء المشترك لمقاومة التهميش والاغتراب[24]، محاولا الاعتراف به وصناعة هوية جديدة ولدت من رحم التهميش والاحتقار.
من الرموز الأخرى التي رصعت جسد الباندي، نجد أوشاما تضفي نوعا من الهيبة وتوثق مسارات حياته الصاخبة وتاريخه السجني وحب ”لُمّيمة“ (الأم باللهجة الدارجة) أحد ركائز رجولة الباندي، فالتعلق بالأم وتقديسها، أحد طقوس العبور من ذكر إلى رجل في مجتمع ذكوري يعلي من شأن الأم الراعية والمضحية والصبورة ويزدري المرأة باعتبارها مصدر الخطيئة والدنس والعار. كما تزاحم أم الباندي رمزيا ”مرتبة العلامات الصوفية التي يتبرك بها ويستجديها طلبا للسكينة والقوة“[25].
في محاولة لتأبيد فكرة فحولته وقوته التي تضاهي قوة الحيوانات الشرسة، يُوسم الباندي جسده برسوم لأشكال حيوانية تزيد من وقاره وهيبته.
في حديثنا دائما عن جسد الباندي، لا يمكننا أن نمر دون أن نتطرق إلى ”دمق“ غداء الباندي الذي يزيد من قوته وحجم عضلاته وقبضته الحديدية. تقدس المجتمعات الذكورية بطون الرجال على حساب بطون النساء، فالرجال يحتاجون وفقا للعقليات السائدة، إلى الغذاء أكثر من النساء باعتبارهم القائمين على الأعمال الشاقة إضافة إلى بنيتهم الجسدية التي تحتاج إلى الطاقة.
وأشار الحزقي في هـذا العمل البحثي، إلى القصص التي تُؤسطر مائدة الباندي، حيث يُروى أن كميات هائلة من الأكل والشرب يستهلكها الباندي لتلبية احتياجاته الغذائية وكأنه من وحوش البرية. لكنه يأكل بحكمة، إذ يختار ما يزيد من قوته، فتلتقي الحكمة والمعرفة بالقوة لتصقل جسد الباندي.
الباندي متمكن من فن القوالة والكلام بحكمة تعكس دهاءه الاجتماعي، فاللغة أداة لفرض السلطة والنفوذ. كما يستعمل الباندي لغة ”القجمي“ المشفرة (لغة انتشرت في السجون والأحياء وارتبطت بأساليب التورية والحيلة)، التي تكسب الهامشيين سلطة اللغة المشفرة فضلا عن التمويه وإخفاء أسرار الفجور والجريمة[26].
أما لباس الباندي فلا يمكن أن يكون اعتباطيا، بل هو نتاج أفكار وتراكمات من مخزون ثقافي وأبعاد رمزية[27]، يسجل الباندي من خلاله حضوره في الفضاء العام ويعبر به عن شخصيته[28].
يعكس لباس الباندي في فترة الاستعمار وما بعدها، ارتدائه للزنار والدنقري، الى الهوية البحرية ”للدوكورات“ وفضاء الموانئ الذي تشكلت فيه مبكرا ملامح الباندي قبل أن يُعتمد على هذا اللفظ حرفيا ورسميا في فترة الاستعمار.
يقول الحزقي أن الدنقري يرمز إلى ”الجسد العامل ويرمز إلى الفحولة الزوافرية ويكشف مريول بحرية عن الجسد المفتول للباندي ويعزز هويته البصرية“.[29]
هو لباس يحاول من خلاله الباندي في فضاء الحي والمدينة، بناء هوية رجولية أنيقة، ذات ريشة وفيانة(وضع المشموم على الأذن)، وقوية في نفس الوقت تسترعي انتباه الآخر وتتحصل على نوع من الاعتراف.

يحاول الباندي أيضا فرض هيبته باستعمال توقيع صوتي من خلال ارتداء قبقاب أو وضع أجراس وجلاجل في حذائه لإحداث جلبة صوتية.
يرتقي الباندي إلى مرتبة الولي أو كما يسميهم الحزقي بالـ ”الباندية الطُرقية“، بما انه كان حامي المدينة، المستنجد به، ليبلغ مرحلة القدسية ووليا صالحا دون قبة.
يمتلك الباندي مخزنا (قبته الرمزية) يحتوي فيه المستضعفين والمهمشين من بطش السلطة. يمارس في فضائه الخاص ما يزيد من فتوته وفحولته من خلال تربية كباش النطيح والنزال بهم، كإعادة إنتاج للعنف في صورة يكون فيها الأكباش هم الباندية.
إلا أن هذه الرجولة رغم ما تتميز به من قوة وصلابة، تتماهى أحيانا مع نزعة تصفها بالأنثوية -حسب المعايير الجندرية لتمثلات الأنوثة والذكورة-، إذ يربي الباندي العصافير ويستسلم إلى سحرها وبالخصوص منها طائر المقنين، ذلك الطائر الوديع والجذاب، يستلهم منه ريشته وطرقته الكلامية[30]، فينزع عن نفسه ملامح الرجولة الخشنة العنيفة المتغولة والحيوانية الشرسة.
كما نجد أحيانا الباندي في موقع المقهور لا القاهر، في سرديات الوجع عند غناء الزندالي في السجن، إذ يتغنى بوجع الأم والحبيبة ويظهر ضعفه دون ورع أو خجل[31].
الرجولة المستضعفة
تعرض الحزقي باقتضاب إلى الرجولة المستضعفة التي تمثل أشخاصا غير مرغوب فيهم في المجتمع، لأنهم لا ينصاعون إلى معايير الرجولة المهيمنة ولا يجسدون قيم الرجولة والفحولة. وتشمل الرجولة المستضعفة المثليين والأشخاص اللامعياريين (طريقة اللباس، الكلام، السلوك..) كمثال سمير ”الكاريوكا“، الذي كسر السردية الكلاسيكة للباندي الفحل،[32]واستطاع أن يفرض سلطته في الماخور وتسيد أجزاء من الفضاء العام في مدينته من دون أن ”يستبندى“ أو يستعمل القوة الجسدية.
الفتوة النسائية
يقدم هذا الإصدار مادة ثرية للباحثين في الدراسات الجندرية، فقد مكننا الباحث هيكل الحزقي من تحليل وتفكيك رجولات الباندي التونسي، ولم يغفل أيضا عن تسليط الضوء عن الفتوة النسائية في الفصل الأخير من الكتاب.
تظهر الفتوة النسائية أولا، عند أم ”الباندي“، ف”أم الباندي هي باندية بالأساس“ [33]، تمتلك رأس مال رمزي يمكنها من فرض السلطة والفتوة ولو بصفة محدودة لأنها ”صانعة الرجال“. وهي عادة ما تظهر في صورة ”الأم الحامية“ للباندي والتي يتبرك بها وتُكسبه نوعا من الشرعية والأخلقة لأفعاله الإجرامية.
يبرز الكاتب أن الفحولة النسائية ليست ”مضاربية بالأساس“ أي أنها لا تستعمل العنف وتركز حضورها الرمزي بفضل حكمتها وصيتها بين الأهالي وفضها لنزاعات الحي [34].
وتبقى هذه الفتوة النسائية تبعية، مرتبطة بحضور الرجل، فهي مكملة لسرديته، وتستقوى به، ذكر الحزقي على سبيل المثال ”سيرة زنقويته التي كانت رفيقة لأحد الباندية المعروفين في بنزرت وفرضت هيبتها من خلال إقدامها على ”تشليط“ المارين مستقوية بحبيبها الباندي، وفقدت هذه القوة المعنوية والجسدية عند هجر حبيبها لها إلى خارج الحدود“[35].
كما تعرض الكاتب في هذا العمل البحثي إلى فتوة النساء الصالحات على غرار عائشة المنوبية وأعمالهن البطولية والخيالية. اختارت هؤلاء الصالحات ”تأسيس السلطة وفرض الكاريزما الطرقية عبر سلوك غير مألوف مثل البطولة والفروسية والفتونة، أو التزين بملابس الرجال والتشبه بسلوكاتهم وممارساتهم“[36].
يؤكد الحزقي أن الفتوة النسائية لا تتحقق إلا بوجود الرجل، إما أن تكون في علاقة مباشرة به أو تتشبه بهويته الجندرية وسلوكاته.
ويبدو أن الذاكرة الشفوية أطنبت في ذكر النساء الصالحات وأم الباندي، حفاظا على المعايير الاجتماعية فضلا عن إكساب الرجل الباندي مزيدا من الشرعية، فالباندي يحتمي بأمه ”ليكسب ضربا من الأنسنة لمواجهة التأثيم“[37].
يكشف لنا هذا العمل أنماطا مختلفة من الرجولات ساهمت في صقل هوية الباندي التونسي الذي أخذ مكانة هامة في مخيالنا الشعبي وذاكرتنا الشفوية. فلا يمكن أن نحصر الباندي في نمط رجولي واحد، وهو أنموذج يؤخذ بعين الاعتبار في البحث والتمحيص عن رجولات وهويات جندرية أخرى.
يفتح لنا الحزقي أيضا الباب للحديث عن الفتوة النسائية، راجيا من الباحثين والباحثات الخوض في تجربة جديدة تضع هذه المرة أشكال ”التسبنديد النسائي“ تحت المجهر.
[1] إصدار بحثي للكاتب التونسي هيكل الحزقي صدر سنة 2024، نشرته جمعية نشاز بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون ويتوزع إلى 232 صفحة
[2]السنوسي نسرين،أنماط الرّجولة: هشاشة الرّجولة ورعب الخصاء، جريدة المغرب، نُشر بتاريخ 24 أفريل 2023، أطلع عليه في 10 ماي 2025
[3] الحزقي هيكل، ص 102
[4] من الألفاظ التي كان يتم استعمالها للإشارة إلى الهامشيين في المدينة والآفاقيين، حسب الكاتب
[5]فتحية عمامو، دور الطبقات الاجتماعية الدنيا في عالم الجنايات بالحاضرة من خلال الوثائق السجنية لمجلس الضبطية (1861-1864) شهادة لكفاءة في البحث تحت إشراف عبد الحميد هنية، سبتمبر 1992، صفحات 121-122-123
[6]الحزقي هيكل، ص 108
[7] يتجاوز مفهوم الرجل الأبيض، الشكل والبشرة البيضاء ويقصد باستعماله تمتع الرجال البيض الذين يتجسدون في فكرة المستعمر والرجل المهيمن بامتيازات اجتماعية واقتصادية إضافة إلى امتلاكه أدوات السلطة والتحكم
[8]الحزقي هيكل، ص 114
[9]العياري محمد العربي، الفضاء العمومي وسؤال الحرية جدل هابرماس وهونيث وفريزر، تباين المجلد 11 ، العدد 44، 2023,ص 35 إلى 65
[10] عبداوي خالد،أنماط الرجولة وتجلياتها في شعر الصعاليك، مؤلف جماعي: أنماط الرجولة، الرافدين، 2022، بغداد، ص 17 إلى ص 50
[11] الحزقي هيكل ، ص 131
[12] عبداوي خالد، ص 20
[13] يتمثل رأس المال الرمزي بالنسبة لبيار بورديو في القيمة الاجتماعية أو الاعتبار أو المكانة التي يكتسبها الأفراد أو الجماعات نتيجة امتلاكهم لرموز أو صفات معترف بها اجتماعا
[14]السنوسي نسرين،أنماط الرّجولة: هشاشة الرّجولة ورعب الخصاء، جريدة المغرب، نُشر بتاريخ 24 أفريل 2023، أطلع عليه في 10 ماي 2025
[15]بيضون عزة شرارة، الرجولة وتغير أحوال النساء، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، 2007، ص52.
[16] الحزقي هيكل ص 120
[17]الحزقي هيكل ص 132
[18] الحزقي هيكل، ص 133
[19] الحزقي هيكل ، ص 123
[20] الحزقي هيكل، ص 115
[21] أحد نظريات عالم الاجتماع الفرنسي ميشال فوكو
[22]Mathieu Pottebonneville, le corps de Michel foucault, cairn info, cahiers philosophiques, 2012, n130,pages 72 à 94,
[23]الحزقي هيكل ، 165
[24] الحزقي هيكل ، ص170
[25] الحزقي هيكل ،ص 207
[26]الحزقي هيكل، ص 179
[27]السويسي صابر ، رمزية اللباس في التجرية الصوفية،،مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث،
[28] Nairi Aich , la création vestimentaire comme théorie de traduction de l’identité culturelle,مجلة أنثروبولوجيا، مجلد6 ,عدد 1، 2020
[29] الحزقي هيكل، ص 180
[30]الحزقي هيكل، ص 157
[31]الحزقي هيكل، ص 207
[32]الحزقي هيكل، ص 210
[33]،الحزقي هيكل ص 208
[34]الحزقي هيكل ص 208
[35]الحزقي هيكل ص209
[36]الحزقي هيكل ص 213
[37] الحزقي هيكل ، ص 216
iThere are no comments
Add yours