في عرض ”ريفيّات“ لريم العبيدي، كنّ يغنّين للحصاد، للبحر، للحبّ وللوجع الذي يسكن صمتهنّ الطويل. في أصواتهنّ يمتزج الحنين بالصلابة، والفرح بالحزن، كأن كل لحن يروي حكاية قرية لم تزل تقاوم النسيان.
تحملنا مريم طيلة 40 دقيقة تقريبا في رحلة عبر الذاكرة الحيّة حول الموروث الغنائي الريفي الذي لم تنطفئ جذوته رغم العزلة والفقر.
هو تحية إلى نساء جعلْن من الغناء شكلا من أشكال المقاومة، ومن اليومي العابر فنّا يربط الماضي بالحاضر.
بين سباسب الحلفاء وشباك الصيد أهازيج الماشطات، يكتشف المشاهد وطنا آخر ينبض في الأصوات النسائية التي تحافظ على ما تبقّى من روح الريف التونسي… تلك الروح التي تقاوم الاندثار.
كانت مريم العبيدي وهي تعدّ عرض ”ريفيّات“، تنهل من عوالمها الغنيّة التي تجمع بين الغناء والترجمة والتصميم الصوتي، إضافة إلى شغفها باللغات وبثراء اللهجات. فكان وعيها بأنّ الصوت هو مساحة عبور بين ثقافات متعددة، حاضرا في عملها عبر توظيف أصوات النساء لنقل صورة متكاملة عن عوالمهنّ المشبعة بالمعاناة وروح التحدّي والمُثقلة بإرث يعود إلى عقود وقرون.
الماشطات الريفيات: ثلاث حكايات عن مقاومة النسيان
بأهازيج تحمل الكثير من الشجن، تنطلق رحلتنا الأولى مع الماشطات في مدينة بني خيار بالوطن القبلي. تروي ”شلولو“ كيف ولجت إلى هذا العالم من قبيل الصدفة وهي التي لم تكن تفكّر يوما في أن تكون ماشطة، لتجد نفسها عرسا تلو الآخر محطّ أنظار العائلات في بني خيار وصوت أفراح المدينة، بعد أن كانت تخفي طبلتها عن أخيها وهي طفلة كي لا يكسرها وهي تحاول أن تسترق لحظات من الفرح والتسلية في فناء منزل العائلة.
نزولا إلى الساحل التونسي، تنتقل بنا مريم إلى مدينة الوردانين. حيث تستضيف الماشطة ”كُتّة“ مشاهدات ومشاهدي ”ريفيّات“ إلى كواليس مهنتها إن صحّ التعبير. تجمع الصدفة في ولوج عالم الماشطات كُتّة بشلولو. فهي الأخرى لم تتصوّر أنّ تسليتها في طفولتها بالدندنة وهي جالسة على عتبة المنزل ستصبح مصدر رزقها بعد طردها من المصنع الذي كانت تعمل فيه وبوّابة إلى قلوب وبيوت أهالي الوردانين في أعراسهم ومناسباتهم.
لكنّ الصورة تصبح أكثر قساوة في جزيرة قرقنة.

هناك، تعترف هنية بأنّ الطريق إلى مهنة الماشطة كان محفوفا بالوجع والغدر والتعب. بعد خيانة زوجها لها وتطليقها، لم تجد ملاذا سوى ساعديها وصوتها لكسب قوتها. عملت في البداية في الحقول وواجهت الفقر كمن يواجه عاصفة بلا مأوى. شيئا فشيئا، صار صوتها جزءا من عملها؛ فتخرج الأغنية من حنجرتها كما يخرج الضوء من شقّ صغير في الجدار. تغني عن الحبّ الذي رحل، عن الأيام التي سلبها الفقر، عن الوحدة التي تعيشها كل امرأة تحمل العالم وحدها.
صارت أغانيها مرآة لتجربتها، وملجأ لنساء يشبهنها، يسمعنها فيبتسمن رغم الدموع. هنيّة لم تتعلّم الفنّ في المدارس، بل تعلّمته من قسوة الأيام، وجعلت من الغناء خلاصا.
كوثر.. ذاكرة الملح والتراث
قبل أن تغادر مريم جزيرة قرقنة، كان لها لقاء مع امرأة أخرى من عالم آخر غير عالم الماشطات. رحلتها هنا ستكون مع ”الرايسة“ كوثر التي وُلدت في تلك الجزيرة حيث تُقاس الأعمار بعدد مواسم الصيد، وحيث يعرف الناس البحر كما يعرفون وجوههم في المرايا.
الصيد ليس غريبا عن ”الرايسة“، فعائلتها من الصيّادين منذ أجيال، رجال ونساء حملوا الشباك كما تُحمل الذاكرة. كانت أمّها آخر النساء الربّانات قبلها، وحين رحلت تركت لها القارب والبحر ومسؤولية الإرث.
لكنّ كوثر ليست مجرّد صيّادة. هي امرأة تشقّ عباب البحر بصوتها قبل مجدافها. تغنّي وهي ترفع الشباك وتردّد أهازيج جدّاتها وكأنها تستدعي أرواحهنّ من عمق البحر. في صوتها صدى الماضي وفي نغمتها ذاكرة جزيرة تخاف أن تنطفئ.
إنّها تحفظ التراث الغنائي القرقني كما يُحفظ السرّ الثمين. هي ليست مجرّد صيّادة، بل حارسة لذاكرة صوتية مهدّدة بالغياب، فتغني لتذكّر وتغني لتحيا.

لكن كوثر ليست أسيرة الموج فقط، بل شاهدة على تحوّلاته. تتحدّث بوعيٍ عميق عن البحر الذي يختنق من التلوّث، وعن الأسماك التي هجرت الشواطئ، وعن جزيرتها التي تنزف بصمت. هي تدرك أنّ الصيد لم يعد كما كان، وأنّ الحفاظ على البحر صار معركة أخرى يجب خوضها. كل رحلة لها هي فعل حبّ ومقاومة في آن واحد؛ حبّ للبحر الذي ترعرعت بين أمواجه، ومقاومة للنسيان الذي يهدّد حكايتها وحكاية جزيرتها.
هدى، أغنية الجبل المهيب
في فوسانة، عند سفح جبل سمّامة، تسير هدى كل صباح كأنها تمشي على خيط رفيع بين الحياة والموت. تحمل سلّتها وتمضي نحو الجبل الذي صار اسمه يُقال همسا… بعد أن تحوّل إلى وكر للخوف. لكن هدى تعرف الجبل كما تعرف وجعها، تعرف كل درب فيه، وكل شجرة احتمت تحت ظلّها يوما.
تصعد غير عابئة بالألغام ولا بتحذيرات الجنود، لأنّ ما ينتظرها في الأسفل أقسى من الخطر؛ هو الفقر الذي لا يرحم. بين الحلفاء والإكليل، تُطلق صوتها عاليا، لتنشد أهازيج قصرين القديمة التي حفظتها من سابقاتها. يشقّ صوتها صمت الجبل فيبدّد الوحشة ويعيد للهواء نكهة الحياة ليرتدّ الصدى بين الصخور وكأن الجبل يقاسمها الغناء.
ضحّت هدى سابقا بتعليمها من أجل أخويها، واليوم تخاطر بحياتها كي يتعلّم أبناؤها. هي تعرف أن الحياة لم تنصفها، لكنها لا تنتظر الإنصاف من أحد. فكل أغنية تنشدها هي انتصار صغير وكل نغمة تطلقها هي مقاومة في وجه القسوة.
على سفح سمّامة، لا جمهور ولا تصفيق، فقط الريح تشاركها الغناء. أمّا الجبل، فيصغي إليها في صمت عميق، شاهدا على فرحتها حين تغنّي، ودموعها حين تستذكر وجعها.

تقول ألفة إحدى المتابعات لعرض ريفيات، شدني الإعلان عن هذا العرض قبل أسبوع فأنا ابنة ريف وأدرك مكانة الانشاد النسائي في موسم الحصاد أو تحضير عولة الكسكسي، كنت متشوقة لاكتشاف كيف صورت نواة العالم الذي انحدر منه، كنت أتمنى ان نرى قصصا لنساء أخريات من جبال الشمال الغربي لكن قصة هدى القصرينية لخصت بواقعية كبرى ما تكابده نساء الجبال والعالم الذي تصنعنه للحياة.
وليد الذي التقيناه فور خروجه من مشاهدة العرض لم يخف اعجابه بإلمام العمل الفني للموضوع في مختلف أبعاده ويقول: في الحقيقة جئت اليوم لعرض الموسيقى لكن صديقة نصحتني بمشاهدة عرض ريفيات وحسنا فعلت، العرض لم يقتصر على أفلام وثائقية قصيرة للنساء العاملات بل يجعلك تعيش أجواء جبال القصرين بالأصوات و رزمات الحلفاء، كذلك أجواء غناء الاعراس التقليدية وروائح الحنة والحرقوس وصولا إلى أجواء قرقنة والصيد البحري، اعتقد ان هذا العمل الفني يجب ان يتواصل و يمتد إلى كل ولاية فلكل جهة تقاليدها وأناشيدها وعالمها الخاص.
بأصوات وقصص النساء الكادحات ضمن عرض ”ريفيّات“، جعلتنا مريم العبيدي نجوب الريف التونسي شمالا وجنوبا، أين تنبض الحياة في أصوات النساء اللواتي حملن تراثهنّ على أكتافهنّ. وتحفظن التراث على طريقتهنّ، فتحولّن الألم إلى أغنية، والعمل اليومي إلى صدى للذاكرة الشعبية.
هنّ نساء الريف: حارسات الصوت والذاكرة والتراث ومقاومات الصمت، اللواتي يضمنّ أنّ التراث الغنائي الريفي لن يندثر، وأن حكاياتهنّ وأصواتهنّ ستظلّ تنبض في كل قرية وكل جزيرة وكل جبل، كنبض الأرض نفسها.
iThere are no comments
Add yours