المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

لقد شهدت الفترة الأخيرة تطوّرا لافتا في مواقف عدد من القوى الديمقراطية والمدنية ترافق مع تقارب ميداني لم يكن من الممكن تصوّر حدوثه قبل أشهر قليلة، تقارب استبشر به طيف واسع من الديمقراطيين بينما أثار حفيظة جزء آخر منهم.

هدف هذا المقال ليس الاصطفاف ولا العداء، بل تقديم توصيف وتحليل هادئ لخطاب الرافضين لهذا التقارب استنادا إلى الوقائع والسياقات التاريخية والسياسية.

قبل الدخول في تفاصيل الجدل حول التقارب داخل المشهد المناهض للاستبداد من الضروري التأكيد أن الدفاع عن المظلومين ليس مجرد موقف ظرفي أو رد فعل سياسي عابر، بل هو مسألة مبدئية وجوهرية تتصل بالحق الأساسي لكل مواطن في التعبير عن رأي أو موقف مختلف أو معارض. 

إن هذا الدفاع يعكس التزاما بالقيم الديمقراطية والعدالة ويؤكد أن الحق في المعارضة لا يقتصر على مجرد اختلاف الرأي بل يشمل الوقوف بحزم ضد كل مظلمة وظلم مهما علا صوت السلطة أو حاولت إسكات الأصوات الحرة.

في هذا السياق يصبح فهم تحركات القوى الديمقراطية والمدنية في مواجهة الاستبداد مرتبطا بهذا المبدأ: أي تحليل لتقارب أو رفض تقارب في المشهد السياسي لا يمكن فصله عن الالتزام الأخلاقي والسياسي بالدفاع عن الحقوق والحريات، فالحق في المعارضة هو الذي يمنح أي موقف من المواقف السياسية صبغته الأخلاقية ويحوّله من مجرد مناورة تكتيكية إلى ممارسة مسؤولية تاريخية تجاه الوطن والمجتمع.

1- التقارب الجديد: ضرورة أم مغامرة؟

مع اشتداد القمع واستمرار منظومة الحكم في تجريف المشهد السياسي واستهداف القيادات الحزبية والمدنية أصبح من الضروري إعادة تقييم المواقف والمواقع السابقة، فقد دفعت الاعتقالات والمحاكمات وحصار الفضاءات السياسية والمدنية العديد من الفاعلين إلى تجاوز الخلافات الأيديولوجية والحزبية والبحث عن سبل للتعاون الميداني في مواجهة الخطر المشترك، كما لعب ضغط النشطاء المستقلين دورا مهما في دفع الأطراف المختلفة نحو تقارب تكتيكي، مؤكدين أن الأولوية اليوم هي الدفاع عن الحريات واستعادة المساحات الديمقراطية بما يخلق ما يمكن تسميته بـ”وحدة الساحات“ كاستجابة عملية لاحتياجات المرحلة، مع تأجيل الاختلافات دون نفيها.

وبالتالي بدأت مسيرات ومبادرات ميدانية تجمع لأول مرّة منذ سنوات طيفا واسعا من الفاعلين: شباب، ديمقراطيون، يساريون، دساترة، إسلاميون، مثقفون، حقوقيون، نقابيون… وهو مشهد أربك قوى أخرى ورفع أصواتا تندّد وتستنكر وتدين.

2- الموقف الرافض: بين العنوان الفكري والتوظيف السياسي

قد يبدو للوهلة الأولى أن الرفض لهذا التقارب ينبع من اختلاف فكري أو عقائدي، إلا أن التدقيق في الخلفيات يكشف عن محورين أساسيين، الأول مرتبط بالمصالح السياسية المباشرة، والثاني ينبع من مخاوف تكتيكية واستراتيجية.

مجموعات طبّعت صراحة أو ضمنيا مع الاستبداد وساندت السلطة في ”السرّاء والضرّاء“، هذه القوى توظّف الخطاب الأخلاقي أو الأيديولوجي لتبرير اصطفافها بينما تغض الطرف عن الاعتقالات والانتهاكات والتنكيل، لأن معركة الحريات بالنسبة لها ”معركة برجوازية صغرى“ كما تعتبر، ولأن خصومها السياسيين ”أعداء طبقيون“، لا تبذل من أجلهم أي كلفة، وهنا تكمن القراءة المغلوطة للنظريات.

إذا أخذنا مثال المنجي الرحوي ومجموعات ”الأوطاد“، نجد المفارقة واضحة: رفض مطلق لأي تقاطع مع الإسلاميين في سياق مناهضة الاستبداد، مقابل حضور وقبول كامل بالتقاطع معهم في ”قافلة الصمود“ وأسطول الصمود، فمثلا عند وصول القافلة البرية لمدينة بنقردان لم يجد منجي الرحوي حرجا عند خطابه أمام جمهور كان أغلبه، أو جزء مهم منه من الإسلاميين الذين قاطعوا كلمته في أكثر من مرة بالتكبير، لم نر أي اعتراض أو ”شيطنة“ للتقاطع وقتها، ما يثبت أن المبدأ ليس ثابتا، بل يخضع للحسابات والغايات.

وخلال مختلف مراحل القافلة البرية أو الأسطول لم يسجّل للرحوي ولا لرفاقه من نفس الخط الفكري والسياسي أي موقف معارض للالتقاء مع الإسلاميين، بل إنّ الوقائع الميدانية، وأقول هذا باعتباري مشاركا في مختلف أطوار القافلة والأسطول، تكشف أنّ التنسيق شمل حتى دعوة قواعد الإسلاميين للمشاركة في التحركات المصاحبة للقافلة والأسطول. وهذه المعطيات لا أذكرها من باب التشهير أو فتح الدفاتر بل توثيقا للحقيقة، ولن أضيف أكثر كي لا يستغلها من يتعمّدون تشويه قافلة وأسطول الصمود.

المفارقة أنّ الأطراف نفسها التي قبلت بالتقاطع الميداني مع الإسلاميين في سياق القضية الفلسطينية تبنّت لاحقا خطابا تصعيديا وضغطا سياسيا على كل من اختار التقاطع معهم ومع غيرهم من المكونات الديمقراطية والمدنية في المواجهة الميدانية للقمع والتنكيل.

هذا يجعلنا نستنتج أنّ هذا الخط السياسي لا يرفض التقارب من منطلقات فكرية صلبة، بقدر ما يخضع النظري لمعادلات المصلحة والغاية. فالموقف الذي يجرَم اليوم قد يبرّر غدا وفقا للظرفية دون أيّ حرج أو مراجعة. وفي هذا السياق لا يبدو الاعتقال أو التضييق على هذا أو ذاك عنصرا مؤثرا في صياغة الموقف ما دامت المعركة تقرأ لديهم خارج إطار الحريات وداخل منطق التموقعات و”الأولويات الطبقية“.

وعلى نحو مماثل فإن عبيد البريكي سبق أن كان وزيرا في حكومة تضمّ إسلاميين قبل الانقلاب، ما يعكس تذبذبا بين المبدأ والمصلحة ويؤكد أنّ مواقف بعض القوى لا تحكم فقط بالاعتبارات الفكرية، بل بالظرفية السياسية والمصالح التكتيكية.

قوى أخرى ترفض التقارب بدافع الحذر الحزبي والخوف من ”النيران الصديقة“، معتبرة أنّ الأولوية هي لإعادة ترتيب البيت الداخلي وإعادة بناء تموقعاتها في المشهد، وهو موقف مفهوم نظريا لكن عمليا قد يتحوّل من حيث لا تريد إلى عنصر يطيل عمر الاستبداد ويعطّل كل إمكانية لبلورة مواجهة جدّية. وما يلفت الانتباه هنا أنّ هذا الحذر لا ينسحب دائما على كل السياقات، فقد سبق للصديق حمّة الهمّامي في محطة 2014 أن قبل تزكيات نوّاب من حركة النهضة للترشح للانتخابات الرئاسية، في خطوة أبرزت آنذاك أنّ التعاطي البراغماتي مع موازين القوى ممكن حين تستدعيه اللحظة السياسية.

3- ما بين الفكرة والواقع: حكمة اللحظة

ليس مطلوبا من أي فاعل سياسي التخلي عن مبادئه أو هويته الفكرية، لكن من الخطر أن تتحوّل النظرية إلى حاجز يحجب رؤية الواقع الوطني والإقليمي والدولي. التاريخ يقدّم أمثلة واضحة على أن المرونة التكتيكية في أوقات الخطر لا تعني التنازل عن المبادئ، بل حمايتها.

ففي إسبانيا أثناء الحرب الأهلية (1936-1939)، تعاونت قوى يسارية وقوى يمينية مؤقتا لمواجهة الفاشية رغم اختلافاتها العميقة، لأن عدم التحالف كان يعني سقوط الجمهورية لصالح ديكتاتورية وفاشية فرنكو. كذلك في القرن العشرين شكّلت التحالفات العابرة للأيديولوجيات في بعض بلدان أوروبا الشرقية نموذجا على أن التعاون الدفاعي في أوقات الأزمات الكبرى يحمي المبادئ الأساسية بدل أن يقوّضها.

اليوم السؤال الأهم ليس مع من نتحالف بل كيف يمكن الحفاظ على الحرية والكرامة ومنع الانزلاق نحو استبداد طويل الأمد، فالاصطفافات الفوقية الضيقة والنزاع على النقاء النظري قد تمنعنا من التصدي لتحديات اللحظة، بينما شجاعة بناء الجسور وتحمل كلفة اللحظة التاريخية تمكّن من حماية القيم الأساسية للبلاد والمجتمع.

ومن هنا نؤكد صمودنا إلى أن تتشكل قوة ميدانية جامعة تنطلق من المركز (قلب تونس العاصمة) لتشمل أطراف وأعماق البلاد، حاملة إرادتنا وعزيمتنا في كل شبر من أرض تونس لحين الانعتاق والتحرر من قبضة الاستبداد والانتهازية.