د. فيصل القاسم


لا شك أن الكتاب والإعلاميين والفنانين والنشطاء العرب يشعرون بكثير من الغبطة والسعادة عندما يستوقفهم المعجبون في الشارع أو في الأماكن العامة ليعبروا لهم عن شكرهم وامتنانهم على برنامج تلفزيوني دافعوا فيه عن الشعوب وحقوقها وانتصروا لقضاياها وآلامها، أو مقال فضحوا فيه أنظمة القمع والقهر والاستبداد المتحكمة برقاب الناس، أو مسلسل تلفزيوني تصدى لمظاهر الفساد والنهب المنظم المتفشية في مجتمعاتنا. فكلنا نستمتع بمديح الجمهور وإطرائه على عملنا. لكن المشكلة أن الشارع العربي ليس شاطراً ولا ماهراً إلا في التصفيق للمناضلين من مثقفين وكتاب وصحفيين، هذا إذا لم ينقلب عليهم، كما سنرى، عندما يتغير اتجاه الريح ويشعر بخطر مناصرتهم.

والأخطر والأسخف من ذلك أن الشارع يعتقد أن مهمته النضالية تنحصر وتنتهي في التهليل للذين أخذوا على عاتقهم التصدي للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي البائس والثناء عليهم، وكأنه برأ ذمته تجاه الوطن وأراح ضميره، وما عليه بعد ذلك سوى الخلود للراحة والتفرج على المعركة، أو على أبعد تقدير الاستفسار عن مستقبل الأمور. ولا أبألغ إذا قلت إن شعار الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج هو: “كفا الله الشعوب شر القتال”.

بحكم عملنا في المجال الإعلامي يوقفنا أينما ذهبنا أخوة عرب ويبدأون بالتساؤل والشكوى لنا من الأوضاع المأساوية في بلدانهم:”متى ستتغير الأوضاع؟ متى سيخجل الحكام من أنفسهم ويعطفون على تلك الشعوب المغلوبة على أمرها؟ متى سيحلــّون عن ظهورنا؟ متى سيخطف عزرائيل أرواحهم؟ متى سيصغون إلى مطالب الناس؟ متى سيتوقف الفساد في بلادنا؟ متى سنعيش في ديارنا معزّزين مكرّمين؟متى سيصطلح أمر الأوطان؟ متى سنلحق بركب البلدان المتطورة؟” للأسف الشديد لا تسمع من الشعوب العربية سوى تلك الأسئلة البليدة والممجوجة. وكم أضحك في سري عندما يتجمهر حولنا كأعلاميين بعض المشاهدين في بعض الأماكن ويمطروننا بوابل من التساؤلات ويحثوننا على مواجهة الأنظمة الحاكمة وفضح عوراتها ومواصلة الصراخ في وجهها والتصدي لها صبح مساء، وكأننا فقط المعنيون بمسألة النهوض بالأوطان وإصلاح حالها والنيل من الحكومات الفاسدة وتعريتها، وكما لو أن لدينا عصا سحرية أو قدرات خارقة لوضع البلاد العربية على الصراط المستقيم بكبسة زر وتخليص الشعوب من أزماتها المزمنة.

لا أدري لماذا يعتقد الشارع العربي أن مهمة التغيير والنهوض بالأوطان تقع فقط على عاتق ثلة من الكتاب ولإعلاميين والنشطاء المساكين. متى يعي أنها مهمة الجميع وعلى رأسهم الجماهير؟ لا تغيير حقيقياً من دون جموع الشعب بأطيافه كافة. صحيح أن الطليعة ممثلة بالمثقفين والصحفيين والنخب المختلفة تتحمل مسؤولية القيادة والتوجيه ووضع الاستراتيجيات، لكنها تبقى لا حول ولا قوة لها إلا إذا استندت إلى قواعد شعبية جاهزة للتغيير والتحولات والتضحيات. وقد علــّمنا التاريخ أن الثورات الحقيقية تنجزها الجماهير وليس أصحاب الأقلام والميكروفونات والمنظـّرين، مع الاعتراف بفضلهم ودورهم في التحريك والتحريض واستنهاض الهمم.

ولعل أكثر ما يؤخذ على الشارع العربي أنه متقلب في مواقفه من الذين ييتبنون قضاياه ويعبرون عن آماله وآلامه، لذلك فهو يستكثر على الطليعيين من إعلاميين ومثقفين وصحفيين حتى المديح الذي منحهم إياه ذات يوم، فيسحبه منهم بنفس السهولة والبساطة التي أغدقه عليهم في المقام الأول، مؤكداً بذلك التهم التاريخية التي كان يوجهها الفلاسفة للجماهير بالتقلب والخيانة. وقد لخص الفنان والمثقف العربي الشهير ياسر العظمة تذبذب الإنسان العربي ونفاقه تجاه المناضلين من أجل التغيير والإصلاح في بلادنا العربية في إحدى حلقات مسلسله المعروف “مرايا”.

تصور الحلقة قصة إعلامي عربي يقدم برنامجاً تلفزيونياً في قناة عربية، فيسخـّر برنامجه لتناول هموم الناس وقضاياهم والدفاع عن حقوقهم وكشف عيوب المجتمع وفضح الفاسدين وضرورة الإصلاح والتطوير ومعالجة الملفات الساخنة التي تهم المشاهدين. وكان ذلك المقدم التلفزيوني يتلقى التهاني والتحيات والشكر الجزيل والتشجييع الوفير والثناء والإطراء من المشاهدين في كل مرة يقدم فيها حلقة تتناول قضية حامية. وظل المشاهدون يهللون ويطبلون ويزمرون لذلك المذيع حتى اختفى عن الشاشة ذات يوم بعد أن اقتادته السلطات إلى السجن بتهمة التطاول على الحكومة والتحريض على الفوضى والشغب وإقلاق راحة الدولة. هل تعلمون ماذا كان رد المعجبين والمشجعين القدامى؟ لم ينبر أحد لمجرد السؤال عن ذلك المذيع المسكين، فالتزم الجميع الصمت في البداية، كما تصورهم حلقة ياسر العظمة. وليتهم ظلوا صامتين، فعلى الأقل لعذرناهم بسبب خوفهم من بطش السلطة وسياطها وعصيّها الغليظة. لكنهم بدلاً من ذلك راحوا يتشفون بالمذيع السجين، منقلبين على كل مديحهم وثنائهم القديمين عليه.”فعلاً كان لسانه طويلاً”، يصيح أحد الاشخاص في الحلقة المذكورة مهاجماً المذيع المعتقل. ” لقد تجاوز كل الحدود ويستحق العقاب، لقد تطاول كثيراً على الحكومة ولا بد أن يقف عند حده، كان حرياً به أن يعلم أن السلطة حق وأنها لا تسمح لأمثاله بأن يقلقوا راحة الناس وينغصوا عليهم عيشتهم ويهددوا الأمن العام، من يظن نفسه ذلك الأهبل؟، لقد صبروا عليه كثيراً وكنا نحذره، لكنه ظل ماضياً في حماقته، من فوّضه بإثارة مواضيع خطيرة في برنامجه؟، ألم يكن من الأفضل له أن يخرس ويريحنا من بطولاته وعنترياته الفارغة؟ هل يعتقد أنه المهدي المنتظر؟، السجن هو المكان الأمثل لأؤلئك الشاذين”. تلك هي ردود فعل الناس في حلقة “مرايا” آنفة الذكر على سجن ذلك المذيع المقدام والشجاع الذي توسموا فيه خيراً في يوم من الأيام وصفقوا له طويلاً لجرأته وتحديه للسلطة.

هذا هو موقف الجماهير ممن يحاول أن يتكلم باسمها ويعبر عن همومها وعذاباتها. ولا أعتقد أن ياسر العظمة بالغ في تصوير الموقف الشعبي من ذلك المذيع في الحلقة، لا بل إنه وضع يده على الجرح ببراعة فائقة. فبدلاً من أن يكون المذيع إياه نبراساً يضيء الطريق للجماهير المسحوقة كي تكمل المشوار من بعده، وتخرج من ربقة الظلم، أصبح مختلاً، في نظرها، جديراً بالسجن والسحل. ولو كان هناك شعوب تحترم نفسها وتريد الانعتاق من الاستبداد لما تذبذبت بذلك الشكل السخيف والمخزي في موقفها من الذين يتصدرون صفوف الدفاع عن قضاياها، ولرفعت صوتها عالياً دفاعاً عن كل الذين سقطوا في غياهب السجون والزنازين، من المحيط إلى الخليج، بسبب نضالهم من أجل حياة أفضل للجميع.

وقد عرفت في يوم من الأيام إعلامياًً عربياً وقع في مشكلة مشابهة للمشكلة التي وقع فيها بطل تمثيلية ياسر العظمة، فقد كان مهاجماًً شرساً للحكومات العربية وناقداً حاداً لسياساتها وفاضحاً لفسادها في كتاباته وبرامجه. وذات يوم انتقمت منه إحدى الحكومات على طريقتها السخيفة، لكنه لم يجد أي تأييد أو مؤازرة تـُذكر من قرائه ومشاهديه فأصيب بخيبة أمل كبرى، خاصة وأنه كان يظن(وبعض الظن أثم في هذه الحالة تحديداً) أن الجميع سينبري للدفاع عنه وإمطاره برسائل المناصرة، كونه يعبر عن همومهم ويدافع عن حقوقهم وقضاياهم المهضومة، ويضع نفسه في بوز المدفع. لكن هيهات، فحسبه أن ينجو من ألسنتهم الحادة المستعدة أن تنقلب مئة وثمانين درجة، كما صورها الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه الشهير “سيكولوجية الجماهير”.

ليت الجماهير تعلم كم يحتاج المناضلون من أجل الإصلاح والنهوض بالأوطان لأصواتها وتشجييعها في السراء والضراء. لقد أثبتت التجارب والدراسات أن فريق كرة القدم الذي يخوض مباراة كأس العالم على أرضه لديه فرصة أكبر بكثير من بقية الفرق لنيل الكأس، لا لشيء إلا لأنه يلعب في بلده وأمام جمهوره ويحظى بتأييده ومؤازرته.

وطالما بقيت الشعوب العربية تعمل بمبدأ “إذا سقط المناضلون فشارك في رجمهم”، فإنها ستظل تحت النعال ولن يذرف أحد دمعة على مأساتها، لأنها لا تستحق حتى الدموع. هل، بربكم،يستحق ذلك النوع من الشعوب الدفاع عنه ومناصرة قضاياه والصراخ من أجل نيل حقوقه، إذا كان ليس مستعداً حتى لكف لسانه عن الذين رفعوا صوتهم عالياً ذات يوم لتحريره من سياط القمع والقهر والاستبداد، فما بالك أن يدافع عنهم بحناجره، ناهيك أن يحميهم بسواعده عندما يسقطون في براثن الطغيان والاستبداد؟ “يا مأمّن للشعوب، يا مأمّن الميه في سطل مثقوب”!

Shabiba.com