…يأتي رمضان كل عام والأمة بخير، أمة واحدة متراصة الصفوف، تتألم لبعضها، تتعاون فيما بينها، قلبها على رجل واحد، أمة متقدمة أخلاقا وروحا ومادة، تغبطها الأمم على رفاهتها وازدهارها وعلى لحمتها وانتصارها لبعضها، فتنت الناس بسؤددها وتحضرها فأصبحوا يتنافسون على قربها ونيل رضاها والدخول تحت رايتها…!!!

هذه أحلام اليقضة، هذه أمنيات العجز، هذه حقائق الإرادات المدفونة، هذه مثل ونوادر، هذه سقوف عالية لمستها أيد غير أيدينا وتعلقت بها همم أجنبية عنا. يأت رمضان كل عام فيذكرنا بآلامنا، بسقوطنا، بانهيارنا..، هلال السماء وهو في عليائه ينبئنا بضعفنا بذلنا..في أرضنا! هلال أصبح هلالين، ثم ها هو يخطو ليصيح ثلاثا أو أربعا، ومن يزيد! لعل كل بلد، كل قرية، كل حي في بلادنا سيصبح له هلال، لعل كل بيت في حارتنا سيصبح له هلال، والبقية تأتي…

في نفس البلد، ابن الوطن الواحد والهم الواحد والتحدي الواحد والحلم الواحد والأمل الواحد، ابن الوطن يصوم وجاره إلى جانبه يفطر…في العام الماضي سنة لبنان يصومون وشيعته يفطرون! سنة العراق يعلنون بداية الشهر وشيعته يرجؤونه! أمة بعضها يصوم وبعضها يفطر، بعضها يرجأ وبعضها يتجرأ، بعضها ينشد رؤية السماء بالعين المجردة، وإن تلبدت السماء قبل أن تتلبد العقول، والبعض يرى السماء بين الخطوط والزوايا والحساب!

الجميع يعلن فرحته باختلافه، يعلن مرضاته لربه، أصبح الاختلاف مطيتنا إلى الجنة، اصبح عشقنا للخلاف قرباننا إلى الله… لعل البعض سوف يحاول رأب هذا الصدع ومحاولة طمأنة حاله بأن الاختلاف مندوب وهو يعبر على بلداننا حرة مستقلة تفرض رأيها ولا تتبع، فهي مبدعة، أليس طريق الابداع هو طريق الحرية والاختلاف يمر من هنا!

لقد شهدت العقود الأخيرة صورا مفزعة لاختلافنا وتشتتنا، ولم يكن الهلال إلا صورة أخرى من مسلسل الشتات… اليمن كان يمنين، فأنشودة الانفصال لا زالت نجد لها عازفين، والسودان على عتبة سودانين وعلى فوهة بركان، ولبنان كاد أن يصبح لبنانين والصورة لا تزال مضطربة، والعراق أمام أعيننا يكتب كلمات النهاية لمسرحية ضخمة بدايتها تحرير وآخرها تقسيم، نهايتها عراقان أو ثلاث في انتظار المزيد!

هذا الواقع الحزين يفوح منه ولا شك مرارة وإحباط، لكن ما يلطف المأساة ويقلل من هوجائها أنه واقع يسهر على أطرافه ويشد على زمامه سلط وأنظمة وحكام وقادة، فحالة الانقسام والتشتت التي تعم أرجائه وترهن حاضره ومستقبله ترتبط أساسا بحكامه وولاة أموره وتهيمن عليه مصالح أفراد وأسر، ويحمل بصمات القلة، والكثرة منه براء.

كيف لهذه الأنظمة أن تحمل مشاريع توحد ووحدة وهي عاجزة أن ترى الهلال بعين واحدة؟، كيف لها أن تحمل آمال شعوب وأفراد وترسم لهم بشائر التقدم والازدهار، وهي عاجزة أن تزف لهم مجتمعة بروز هلال أو اختفائه؟

ملوك الطوائف حكموا الأندلس صباح يوم لم يكملوا نهاره، فسقط عليهم الليل وأضلتهم غشاوة الجهل والكبرياء والطمع والجنون… سنة كونية غابت فيها الأندلس وظهرت إسبانيا، غاب فيها أمراء المؤمنين وظهر ملوك الإفرنجة! كان التشتت والاختلاف رمز مرحلة الاحتضار، كان فيها الأندلس أندلسات وأصبحت كل قرية فيها لها حدودها وملكها وخدمها ولعله هلالها وشمسها! غابت وحدة الكلمة ووحدة المصير فانهار البناء وعجز ولاة الأمور عن حماية مشروع وجمهور. لم تحدثنا الكتب عن رأي الجماهير وهي ترى حاضرها ينهار ومستقبلها عدم، لم نعرف غير دموع التماسيح التي ملأت بعض الكتب الصفراء وهي تروي لنا مأساة الفرار أو التنصير أو الموت.

هلال رمضان جاء يذكرنا كل عام وخاصة هذا العام، أن أيام الأندلس المحتضرة قد تلوح مجددا، جاءت من هلال وغابت في الظلام، كانت أندلس الأمس آتية من علياء بعد سؤدد، وفي أيامنا الحاضرة لم نر علياء و لا سماء ولكن ظلمات بعضها فوق بعض، خرجنا من ظلمة لندخل ظلمة أوسع منها وأعتم، وملوك الطوائف يتقدمون القوم من جديد!

الأمل الذي يبقى يراودنا والذي يلطف علينا ضحكات الشامتين وصفعات الجائرين واستغراب المندهشين هو هذه الشعوب التي تسعى جاهدة إلى رؤية لون واحد يجمعها ليس فيه دخن الجغرافيا وحدودها، ولكنها تستنهض التاريخ وتستسقي منه وجودها ولحمتها دون أن تعطي بظهرها لحاضرها، هذه الشعوب التي لن تقبل أبدا أن يكون هلال مكة المكرمة مختلفا عن هلال النجف الأشرف ولا عن هلال القدس الشريف! هذه الجماهير التي تبقى رغم العواصف والرعود، رغم مكر الجيران، رغم استبداد ابن البلد، تحمل داخلها أمل اللقاء من جديد مع من حمل معها نفس الهوية، نفس الثقافة، نفس القيم ونفس المصير.

لا شك أن نومة شعوبنا قد طالت ولم تغادر هذه الجماهير صحراء التيه حتى في حالة ارتعاشها، أربعون سنة كانت كافية لقوم موسى لمغادرة الظلمة والدخول في شهود حضاري جديد، وشعوبنا وإن لم تزل تبحث عن ضالتها فإن بوادر نهاية عصر التيه والاستخفاف قد بدأت تلوح وإن اشتدت الأزمة على الأطراف. وكما حمل قوم موسى مشروعهم من جديد بعدما انقضى جيل الرفض والمكابرة والضعف والاستسلام، وخلفه جيل التحدي والبناء، فإن خيرية شعوبنا تلوح مجددا وإن غابت تحت السياط ومن وراء القضبان، وملامح التغيير بدأت تكتب ولو ببطء أحيانا أو على دخن في بعض الأحيان، غير أن لحظة الصفر الحضارية قد تحددت معالمها وعُرف أناسها وكُتب عنوانها وارتفعت رايتها، ولم يبق غير الزمن لتحقيقها في ظل اصطحاب نقل واستئناس عقل وتعارف وسلام.

*رئيس اللقاء الإصلاحي الديمقراطي(تونس)
صحيفة السياسة الكويتية الصادرة يوم الجمعة 22 سبتمبر 2006
يمكن مراجعة كتابات خالد الطراولي على موقع اللقاء الاصلاحي الديمقراطي
www.liqaa.net
.