من موقعي كشخص عابر جندريًا، أرى كيف تمارس الدولة عنفًا مضاعفًا لا يكتفي بإنكار وجودي الرمزي، بل يُحيل جسدي إلى ملف إداري يُقاس بمدى مطابقته للنظام الثنائي المغاير. تُحاصرني أوراقي الرسمية قبل أن يحاصرني المجتمع. كلّ وثيقة، كلّ ختم، كلّ خانة في استمارة، تتحوّل إلى تذكير يومي بأنّ انتمائي إلى الوطن مشروط بالمطابقة. لا لأنني أرفض هذا الانتماء، بل لأنّ الدولة لم تتعلّم بعد أن ترى ما لا يُختزل في خانتين.
البيروقراطية كسلاح ضبط: آليات الدولة لإدامة العنف المؤسسي
في تونس، يبدأ العنف من الورق: من بطاقة التعريف، من شهادة الميلاد، من الخانة التي تُحدَّد فيها “الهوية” كما قرّرها موظّف منذ لحظة الولادة. هنا تتجلّى إحدى أكثر أشكال الهيمنة خفاءً واستمرارية، أي الهيمنة البيروقراطية، التي تُخفي العنف خلف لغة إدارية باردة وإجراءات معقّدة وطويلة. فالبيروقراطية ليست محايدة كما يُخيّل للبعض، بل آلية دقيقة لإعادة إنتاج ما تعتبره الدولة “النظام الطبيعي للأشياء”.
في مكاتب الحالة المدنية، يقف الفرد أمام موظّف يحمل ختم الجمهورية، لكنه في الواقع يحمل سلطة تعريف الذات. قد يبتسم أحيانًا، ويتفهّم أحيانًا، أو يتهكّم ويرفض أحيانًا أخرى “لأنّ النظام لا يسمح”. لا يمكن تعديل المؤشر الجندري، ولا اعتماد اسم جديد، ولا تصحيح “الخطأ”، لأنّ “القانون لم يُقرّ ذلك بعد”. غير أنّ هذا الغياب التشريعي ليس فراغًا قانونيًا بريئًا، بل خيارًا سياسيًا واعيًا. فالدولة تُدرك أنّ الاعتراف القانوني بالعابرين والعابرات+ يعني الاعتراف بأنّ الجندر ليس حقيقة بيولوجية ثابتة، بل تجربة إنسانية متغيّرة. هذا الاعتراف من شأنه إرباك منظومة كاملة من السيطرة الرمزية والمؤسسية، وتهديد تماسكها.
الإدارات التونسية، من البلديات إلى المستشفيات ومراكز الأمن، لا تتعامل مع الأجساد الكويرية بوصفها ذواتًا مواطِنة، بل كحالات استثنائية ينبغي تعديلها أو إقصاؤها. كلّ خطوة في هذا المسار الإداري تذكير بأنّ الجسد المنضبط هو وحده المقبول. ولا يحتاج الموظّف إلى رفع صوته أو ممارسة عنف مباشر؛ فالبيروقراطية تقوم بالمهمة بهدوء قاتل، ترفض، تؤجّل، تعيدك في اليوم التالي، وتطلب “وثائق إضافية” أو “تقارير طبية”، لتذكّرك في كلّ مرة بأنّ النظام أقوى من حقيقتك.
هذه البيروقراطية الرّتيبة، والمحايدة ظاهريًا، هي في جوهرها ممارسة للعنف السياسي. فهي الوجه الإداري للعنف الرمزي، حين يُمنع فرد عابر/ة من استخراج وثيقة لأنّ صورته/ـها “لا تطابق الاسم أو المظهر”، فيُعاقَب على جسده/ـا. وحين تُرفض معاملة في مستشفى، أو تُلغى مقابلة عمل لأنّ الهوية القانونية لا تتوافق مع المظهر الجسدي، لا يكون ذلك خطأً فرديًا، بل تجسيدًا لعنف ممنهج. إنها الطريقة الهادئة التي تقول بها الدولة؛ “نراك، لكننا لن نعترف بك”.
هذه التفاصيل الصغيرة تُعيد إنتاج الهامش دون الحاجة إلى نصوص قانونية تُجرّم وجود العابرين والعابرات+ بشكل صريح. فالبيروقراطية وحدها كافية لجعل الحياة اليومية معركة مفتوحة. في كلّ معاملة، وفي كلّ مكتب، يُختبر الجسد الكويري بوصفه موضوعًا للريبة والاشتباه. لم يعد الجندر مجرد خانة قانونية، بل تحوّل إلى أداة ضبط اجتماعي تُستخدم لحماية النظام من “الانحراف” الذي يهدّد رمزيته.
اختلاق “العدو الداخلي”: تحويل الأزمة البنيوية إلى معركة أخلاقية
حين يتحدّث رأس الجهاز الحاكم بلغة شيطنة للأشخاص الكوير، فهو لا يعبّر عن رأي شخصي، بل يُرسّخ سياسة دولة تُعيد إنتاج الكراهية كأداة حكم. فالخطاب السياسي الرسمي لا يكتفي بإنكار وجودنا، بل يُحوّلنا إلى خطر رمزي على “الأمة”.
حين تعجز الدولة عن مواجهة أزماتها الاقتصادية والسياسية، تلجأ إلى اختلاق عدوّ تُلهي به الناس. وقد أصبح الجندر والأشخاص الكوير اليوم، بتنوّع هويّاتهم/نّ واختلافها، العدوّ المثالي؛ بلا صوت في البرلمان، وبلا حماية قانونية، وبلا تمثيل إعلامي منصف. بهذا الخطاب، تُحوَّل الأزمة البنيوية إلى معركة أخلاقية، وتُجعل أجسادنا مسرحًا لصراع “رمزي” حول الهوية الوطنية.
في لحظة انهيار الثقة بالمؤسسات، يُستدعى خطاب “القيم” و”الثوابت” كسلاح دفاعي، ويُقدَّم المختلف بوصفه تهديدًا للنسيج الاجتماعي. كلّ من يتحدّث عن العدالة الجندرية أو الحقوق الكويرية يُوسَم بأنه “عميل” أو “غريب عن الثقافة التونسية”. وتُعاد إنتاج المفردات ذاتها التي استُخدمت سابقًا ضد النساء، والمثليّين/ات، والمعارضين/ات السياسيين/ات؛ “الأخلاق”، “الفطرة”، “التقاليد”، “المواطنة”.
لكن ما يُخيف السلطة فعليًا ليس الجندر كفكرة، بل ما يكشفه من تناقضات داخل بنيتها. فالجندر يفضح هشاشة السلطة، لأنها لا تعرف كيف تتعامل مع ما لا يمكن ضبطه أو تصنيفه. السلطة تحتاج حدودًا واضحة.. رجل/امرأة، طبيعي/منحرف، مواطن صالح/عدو داخلي. والأفراد الكوير، في وجودهم.ن ذاته، يُربكون هذه الحدود ويُفكّكونها.
لذلك، حين يصدر خطاب شبه تحريضي من أعلى هرم السلطة، لا يكون الأمر زلّة لغوية، بل استراتيجية سياسيّة تهدف إلى تعبئة الخوف وإعادة تثبيت السيطرة على الجسد. ولا يقف هذا الخطاب عند أسوار القصر، بل يتسرّب إلى الإعلام، وإلى الشارع، وإلى الإدارات التي تُقصينا باسم “الانضباط” أو “المعيارية النمطية”. وحين تُكرّس مؤسسات الدولة هذا الخطاب، يتحوّل العنف المجتمعي إلى امتداد مباشر للعنف السياسي، وتغدو الإهانات اليومية، والوصم، والإقصاء من التعليم والعمل، جزءًا من سياسة غير معلنة تُغذّيها السلطة وتُغلّفها بخطاب وطني وأخلاقي متصلّب ومتخثّر.
من خانة الوثيقة إلى سيادة الجسد: إعادة تعريف المواطنة والنضال الكويري
في هذا السياق، يغدو الحديث عن “مواطنة شاملة” ضربًا من الوهم، ما دامت الدولة تُقصي مواطنيها على أساس الهوية الجندرية أو مظهر الجسد أو أسلوب العيش. فالمواطنة في تونس لا تُمارَس بوصفها عقدًا اجتماعيًا يضمن الحقوق، بل نظام ولاء وطاعة يُمنح لمن يُطابق، ويُسحب ممن يخرج عن القاعدة. بطاقة التعريف لم تعد مجرّد وثيقة هوية، بل شهادة ولاء، ومن لا يتطابق فيها اسمًا وجسدًا يُعامل كخطر إداري وتهديد ضمني للنظام.
الجسد الذي يُرفَض إداريًا يتحوّل إلى وثيقة مقاومة، وإلى أرشيف حيّ للعنف الممنهج الذي تمارسه الدولة. ففي كلّ مرة نُصرّ على الظهور بهويّاتنا الحقيقية وأسمائنا المختارة والمعلَنة، وفي كلّ مرة نطالب بتعديل التصنيف الجندري، نمارس فعلًا سياسيًا جذريًا نعيد من خلاله تعريف معنى المواطنة. لسنا رعايا نلتمس عطف الدولة، بل أفرادًا نطالب بالاعتراف بنا جزءًا أصيلًا من هذا الوطن، حتى وإن لم تضعنا قوانينه بعد ضمن خاناتها المريحة.
النضال الكويري لا يختزل في الرفض، بل يقترح تصوّرًا بديلًا للعدالة، عدالة تُقاس بالكرامة لا بالمطابقة. وفي مواجهة الخطاب القومي الرسمي القمعي للدولة، تُقدّم الكويرية سردية الحرية الفردية كقيمة سياسية سامية، وتشكّل فعل مقاومة يزعزع تعريف “المواطن الصالح”. فأن تكون ما أنت عليه ليس تهديدًا للمجتمع، بل فعلا سياسيًّا يفتح أفقًا لمجتمع أكثر صدقًا مع ذاته، ومساءلة جذرية لدولة تربط الانتماء بالطاعة، والهوية بالامتثال..
ولهذا تحديدًا تخاف السلطة من الجندر، لأنه يعرّيها، ويُجبرها على مواجهة سؤال مؤجّل منذ نشأتها؛ لمن تنتمي الأجساد في تونس؟ للدولة؟ للدين؟ للعائلة؟.. أم لأصحابها؟ حين نطالب بفصل الدولة عن الجسد، لا نطالب بشيء “مستورَد” أو “غربي”، بل بحقّ أصيل في السيادة على الذات. وحين نرفض الخطاب الذي يُنكرنا، لا نبحث عن صدام، بل عن حياة ممكنة وكريمة.
الجندر ليس مؤامرة كما يُروَّج له، بل مرآة تكشف حدود الدولة ذاتها. والحرب على الجندر ليست سوى حرب على إمكانية العيش خارج ما ترسمه المنظومة من حدود. لكن الأجساد التي قاومت، ونجت، وواصلت تكتب وستواصل كتابة تاريخ آخر لتونس؛ تاريخ لا تحدّده الخانات، بل تصنعه التجارب، بالعرق، بالدموع، بالدم، وبالإصرار الذي لا ينكسر.
وحين نقول إننا نحن من نملك أجسادنا، فنحن لا نردّ فقط على السلطة، بل نعيد تعريف السياسة ذاتها؛ سياسة تبدأ من الجسد لا من هياكل الدولة، ومن السرديات الحيّة لا من خطابات النظام. ولعلّ هذا بالضبط ما تخشاه السلطة.. أن يتحوّل الجندر من “مؤامرة” إلى وعي، ومن وعي إلى حركة، ومن حركة إلى تحرّر.




iThere are no comments
Add yours