بقلم شكري الحمروني و عماد الدائمي

تعيش فرنسا هذه الأيام على وقع حملة انتخابية صاخبة بين المترشحين الفائزين في دور أول من الانتخابات حفته كل أنواع المخاوف . ويحبس الفرنسيون أنفاسهم في انتظار اليوم الفصل الذي ستتجسد فيه إرادتهم ويحسمون فيه الصراع على قيادتهم.

ويشتد التنافس، في ظل تقارب الحظوظ في الفوز بين نيكولا ساركوزي (اليمين) وسيغولان رويال (اليسار)، على كسب أصوات المترددين ونيل ثقة المنسحبين من الدور الأول، خاصة من قيادات تيار الوسط (برئاسة فرانسوا بايرو) وأنصاره.

والأكيد أن الغالبية العظمى للناخبين قد حددوا خيارهم. بل أن جلهم قد اختاروا منذ البداية تجاوز شكلية الدور الأول معتبرين إياه غير مجدي وانخرطوا مباشرة في جو الدور الثاني باعتمادهم “التصويت المفيد) “التصويت للمترشح الأقل سوء ا والأقرب للفوز). وذلك لتجنب الوقوع في وضع شبيه بسيناريو 21 أبريل 2002 الكارثي، عندما اضطروا للعودة في الدور الثاني لإصلاح خياراتهم الانتخابية “غير المفيدة” التي سمحت لممثل أقصى اليمين (جان ماري لوبان) بالوصول إلى الحلبة الأخيرة.

وبعد تردد الناخبين، الذي يبدو أنه ترك مكانه لوضوح وانسجام، ها نحن نشهد ترددا واضحا للمترشحين للجولة الأخيرة. حيث أصبحا يبدوان في حيرة من أمرهما، لا يعرفان على أي رجل يرقصان، وفي أي إتجاه يسيران لتجميع أصوات مبعثرة ومتخاصمة.

فرانسوا بايرو .. حتى النهاية

في الوقت الذي بدا فيه الكثيرون مسرورين بعودة الصراع الأبدي بين اليمين واليسار، وبعودة التنافس بين مشروعين مجتمعيين متضادين تماما، جاءت النتيجة الباهرة التي حققها فرانسوا بايرو 7) ملايين ناخب صوتوا له) لتمنع هذا الصراع من البروز بحدة في الخطاب السياسي لكلا المترشحين، الذين وجدا نفسيهما مضطرين لإعادة النظر في برنامج حملتيهما للدور الثاني من أجل الفوز بود وسط يسعى للإحتفاظ لآخر لحظة بدور حاسم.
لا سيما وأن ساركوزي مثله مثل رويال قد استنفذ كلاهما مخزون الأصوات على تخوم معسكره في أعقاب الدور الأول الذي بدا أشبه بانتخابات أولية داخل العائلتين الإيديولوجيتين الكبريين انتهت باندحار “صغار المترشحين” وحماية “الكبار ” من أي آثار سلبية قد تهدد “مصيرهم الوطني”.

إن فرانسوا بايرو ، رغم سقوطه من السباق ، هو بصدد بيع الهزيمة الانتخابية الأغلى ثمنا، حيث أصبح قبلة الطرفين المتنازعين وهدف إغراءاتهما بفضل موقعه الذي يؤهله لحسم الصراع الرئاسي.

إن الفوز في هذا الدور سوف يمر، صراحة أو ضمنا، إما عبر التحالف مع الوسط أو الاقتراب منه على الأقل. لذلك فمن المنتظر أن تكون تنازلات الطرفين لهذا الخاسرـ الرابح بحجم التحديات والآمال المعلقة. وهكذا ستكون الأفكار الوسطية الرابح الأكبر في هذه الإنتخابات بتخطيها للحدود الحزبية.

أما بايرو فإنه، وإن عجز عن استلام السلطة هذه المرة، فقد أعد نفسه جيدا وأعد الأرضية الخصبة للمحطات الانتخابية القادمة.

ساركوزي رئيسا … للدور الأول

ما كادت نتائج الدور الأول تعلن حتى تعالت تهليلات بعض المحللين المستعجلين لمنح فوز ساركوزي حجما قياسيا بتحول ميزان القوى بين اليسار واليمين لمصلحة التيار الأخير، مسارعين إلى مقارنة جملي الأصوات المحصلة من أحزاب اليمين مجتمعة) الجمهورية منها والوطنية) مع أصوات كل أطياف اليسار. غير أن هؤلاء المحللين تناسوا أن تلك الأرقام تعكس تراجعا للحجم الإجمالي للتصويت اليميني مقارنة مع الانتخابات السابقة ( 59,16% في سنة 1995 ثم 48,41 في 2002 مقارنة ب 45,05 في الانتخابات الأخيرة.(
وفي الحقيقة فقد كسب ساركوزي بجدارة الانتخابات في صفوف اليمين. ولعل سبب فوزه يكمن في نجاحه في أمرين رئيسين :
ـ تمكنه بالترغيب حينا والترهيب أحيانا من فرض ترشح وحيد في العائلة اليمينية الجمهورية للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة.
ـ تمكنه من مغازلة قطاع عريض من أنصار الجبهة الوطنية (أقصى اليمين) بتبنيه لجملة من القضايا والشعارات المحسوبة على جان ماري لوبان الذي سجل في المقابل نتيجته الأخفض منذ سنة 1988

وهكذا توج الدور الأول ساركوزي رئيسا لقوى اليمين والآن يفترض عليه أن يبحث عن أصوات أخرى وأن يظهر كزعيم لكل الفرنسيين وهو ما لا يبدو قادرا على التألق فيه.

لقد نجح ساركوزي في إخماد أصوات منافسيه كما نجح في عزل المجموعات الدينية والطبقات الاجتماعية عن بعضها البعض وفي تأجيج الفوارق والاختلافات ) الذين يستفيقون باكرا للعمل مقابل الآخرين، والذين يحبون فرنسا والآخرين، و”الذين يحملون في جيناتهم بذرة الشر” والآخرين .(.. ولهذا السبب ربما تألق في الدور الأول حيث يتعلق الأمر ب “اختيار مرشح وبرنامج” والتأكيد على الخصوصيات أكثر من الجوامع.

أما في الدور الثاني فالأمر مختلف تماما، فالمطلوب ليس إبراز الاختلاف وتأجيجه بل البحث عن الوفاق والتجميع. لذلك فساركوزي مطالب بمراجعة سياسته وتليين خطابه. أولا تجاه فرانسوا بايرو والملايين السبعة الذين صوتوا له، حيث لن يمكنه وصمه مجددا ب”الضبابية السياسية” لأنه صار مضطرا مثله لأن يقطع مع “الخيارات الأيديولوجية والحزبية”. ثم تجاه سيغولان رويال، حيث لن يمكنه إتهامها بعدم الكفاءة كما لا يجوز له مهاجمتها بشدة أو السخرية من أفكارها) كما كان يفعل في الدور الأول) نظرا لحساسية الفرنسيين الشديدة من تعنيف النساء ونقص الأدب تجاههن.
وقد يبدو الأمر غريبا ولكننا نشهد اضطرار المنتصر لتغيير إستراتيجيته وتكييفها للتوجه نحو اللعب على ميدان المهزومين.

وقد يكون ساركوزي بسعيه الكبير للتميز عن الآخرين وبميله الجامح نحو اليمين في الدور الأول، قد رهن حظوظه في الفوز بالدور الثاني، حيث يجب التجميع وأخذ مسافة عن الانتماءات والاختلافات. ولعله أسهم ببثه للفرقة وتكريسه طيلة السنوات الأخيرة لفكرة “الأنا في مقابل الآخرين” في تجميع أعداد متكاثرة من الفرنسيين حول شعار “الكل ما عدى ساركوزي” الذي قد يكون له دورا حاسما في المعركة النهائية. عندئذ قد يجد ساركوزي نفسه مهددا بالاكتفاء في أعقاب هذه الانتخابات باللقب الشرفي “رئيس الدور الأول”.

سيغولان رويال أو الهزيمة المؤجلة

إذا كان نيكولا ساركوزي قد حقق تفوقا جليا على منافسته في الدور الأول، فإنه لا يمتلك هامشا كبيرا للمناورة و المبادرة لتوسيع دائرة أنصاره. أما رويال فإنها رغم تأخرها عن غريمها، فهي تتمتع بآفاق وإمكانيات سياسية أوسع. غير أنها مطالبة بإستثمار الفرصة الجديدة التي منحها إياها الفرنسيون بعد حملة إنتخابية غير موفقة بدت فيها مرتبكة ومحاصرة بين رغبتها في التغيير من ناحية وخشيتها من التصادم مع قوى المجتمع المحافظة من ناحية أخرى، وبين حرصها على التحرر واستقلال القرار وإرتباطاتها الإيديولوجية والحزبية. إنها مطالبة أيضا بإسترجاع التحكم في نسق حملة فرض فيها مرشح اليمين أحيانا كثيرة مواضيع النقاش ومراكز الإهتمام، مما إضطرها للمغامرة بعيدا وصولا الى ميدان أقصى اليمين (عند طرح قضايا الهوية والروح الوطنية.(

إن رويال تعرف جيدا أنها تعرضت لهزيمة مؤجلة، مؤهلة للتأكيد والتفاقم إن لم تنجح في قلب الأوضاع وتغيير تقييم الرأي العام السلبي لحملتها.
إن على رويال أن تبدو أكثر تلقائية وطبيعية وأن توجه خطابها بدون عقد ومركبات لكل الفرنسيين كما فعلت بنجاح مع أبناء حزبها أثناء الانتخابات التمهيدية لاختيار المرشح الاشتراكي وأثناء ورشات الديمقراطية التشاركية (التي كادت تتحول إلى “ديمقراطية استعراضية”).
يجب عليها أن تتحرر من العراقيل الايديولوجية والسياسية والشخصية التي تشدها الى الوراء لكي تقترب أكثر من الفرنسي العادي ولكي تحرر اختيار الناخبين الذين لا يزالون يشكون في قدراتها. من أجل كل هذا، يجب عليها أن تقوم بحملة جديدة تقطع مع سلبيات الدور الأول.

أما منافسها فمن مصلحته الحفاظ على تفوقه والإبقاء على الوضع كما هو عليه حتى السادس من مايو.
ولتقريب الصورة ، يمكننا إستعارة مشهد رياضي وتشبيه وضع المترشح المتقدم بوضع فريق كرة تقدم في الشوط الأول على منافسه ويسعى طيلة الشوط الثاني للحفاظ على النتيجة بكل الوسائل : بإضاعة الوقت، والابتعاد عن المغامرة والخطر، وتجنب التشابك، والتحول من خطة هجومية إلى خطة دفاعية. وقد تؤتي مثل هذه الخطة أكلها مانحة الفريق المتقدم نصرا نهائيا بدون بريق. غير أنها كثيرا ما تفشل، حيث ينسى ذلك الفريق أن مقابلة الكرة تلعب في تسعين دقيقة كاملة، ويتعرض بسبب إنكماشه لهجومات المنافس مما قد يعرضه للانهيار في أي وقت.
إ ن على رويال، إن شاءت الفوز، أن تدفع بساركوزي نحو الخطأ، وأن تأخذ بزمام المبادرة وتفرض نسقها ومجالات إهتمامها ونقاط قوتها. خاصة وأن ساركوزي قد إستعمل كل ورقاته الصالحة أصلا لدور واحد.
وبإعتبارها أكثر قدرة من غريمها على التجميع وعلى مخاطبة كل الفرنسيين بدون إستثناء، فإن عليها أن تسحبه إلى هذا الميدان. كما عليها أن توقعه في مواضيع يخشى ولوجها كخشيته الدخول إلى الأحياء الشعبية (من مثل قضايا العدالة الإجتماعية والتعليم والتضامن والمساواة ..). بهذا تحقق رويال إنجازا مضاعفا : كسب قواعد تيار الوسط الحساسين تجاه هذه القضايا، وإبهار أكبر نسبة من الناخبين المترددين بإنتزاع الأسبقية عن المنافس.

يكفي رويال أن تقنع الفرنسيين الراغبين، في أغلبيتهم العظمى، في التغيير، من أقصى يسارهم إلى أقصى يمينهم مرورا بالوسط، أنها تمثل أملا حقيقيا في التغيير ورمزا للعيش المشترك ولنبذ الفرقة والتشابك.

إن الاشتراكيين يجدون أنفسهم اليوم في منعطف تاريخي حاسم : الهزيمة قد ترمي بهم في أتون أزمة داخلية عاصفة، والنصر هم عاجزون على تحقيقه بمفردهم. لذلك فإن عليهم مراجعة أفكارهم واستراتيجيتهم والانفتاح على تيار الوسط وصولا إلى بناء تحالف استراتيجي يفتك الحكم ويغير قواعد اللعبة. وإن لم يقوموا بتلك المراجعات، فستجبرهم الهزيمة على إعادة بناء مؤلمة وتدفع بهم ربما لرحلة عبور صحراء مستعصية.

وهكذا بين مرشح غير متأكد من الفوز ومرشحة لم تخسر بعد، لا تزال فرنسا معلقة تنتظر نتائج هذه الانتخابات. وبقطع النظر عمن سيفوز، سيحتفل المواطنون، الذين سيقبلون بلا شك بكثافة كبيرة على صناديق الاقتراع، مجددا بإنتصار الديموقراطية في درس آخر وليس أخير للمدنية والتحضر.

غرة مايو 2007

شكري الحمروني و عماد الدائمي

كاتبان تونسيان مقيمان بباريس