بقلم خالد شوكات

انتهت الشيوعية إلى الانهيار، على الرغم من نبل فكرة العدالة الاجتماعية، لأن الأحزاب التي رفعت رايتها، كانت مبنية على جمود الفكر وشخصنة القيادة و شكزوفرينيا قاتلة جعلت الخطاب المبدئي في واد والسلوك العملي في واد آخر، كما انتهت القومية العربية إلى انهيار أيضا على رغم من صدقية شعار الوحدة العربية، لأن الأحزاب القومية لم تختلف في سيرتها السلطوية عن نظيرتها الشيوعية، وتقديري أن الإسلام السياسي في طريقه إلى النهاية البائسة ذاتها، للأسباب ذاتها، جمود فكري وقيادة متكلسة مشخصنة وأتباع مرعوبون مؤيدون مصفقون، وازدواجية مريعة بين خطاب يعلي الدين والأخلاق، وسلوك بلطجي مستعد للانحدار بالحوار إلى أسفل السافلين، لا يهمه ترديد السفه وانتهاك أعراض الخصوم والاشتغال بمن يقول بدل مناقشة ما قيل، يحمل بذور رجال لو تولوا السلطة لأفزعوا الناس وروعوهم.

كنت أتمنى أن تشكل الأسئلة العميقة والمصيرية والجوهرية، التي أثارها مشروع الدكتور محمد الهاشمي الحامدي، والتي أيدت مضمونها شهادة الشيخ خميس الماجري، مجالا أمام من بقي من قادة وأتباع حركة النهضة، للنظر والمراجعة وإعادة البناء، ولممارسة دورهم كأعضاء في حزب طالما زعمت قيادته قيامه على أسس الشورى والديمقراطية.

لم يجب الشيخ راشد الغنوشي عن أي من القضايا والوقائع التي طلب منه إدلاء الرأي فيها، وفضل الأسلوب العتيق إياه، “النفخة” والتهميش والتخوين ورمي الكرة كلها في ملعب السلطة، فتصرف بذلك كما يتصرف سائر قادة الأحزاب الشمولية، الذين يردون على الأسئلة الكبرى بطريقة اكتشاف المؤامرات والتحذير من الواقفين ورائها، كما تصرف الأتباع الخلص كما هم أتباع الأحزاب الشمولية أيضا، تصفيق وهتاف بحياة القائد الفذ البطل المتصدي للمؤامرات والدسائس وعملاء المخابرات، وبالموت لخصومه والمعترضين عليه.

كل معارضي النظام في نظر الحكام مجموعة لصوص أو عملاء للخارج أو خونة أو فساق، وكل منتقد لشيخ الحركة العتيد، هو بالضرورة مرتش أو عون مخابرات أو كافر أو زنديق أو فاسق، وتلك هي سيرة الأولين والآخرين. أما أمر أخطاء القيادة القاتلة، وتسبب اختياراتها في كوارث متعاقبة، وعنادها وكبرها، فهو عند القابضين على الجمر، المرابطين في حصون الغرب المرفهة، المتفرغين للنضال ضد الديكتاتورية في عوالم الانترنت الافتراضية، ليس سوى صمود وثبات على المبادئ وعدم رضوخ وخنوع وصبر وجلد، إذ لا يتساقط على الطريق إلا منافق زنديق، فيما مراجعة السير والأفكار والسياسات بالنقد والتقويم والبحث عن مجالات جديدة للعمل، فليس سوى حربائية وانتهازية وخداع وتضليل.

آه لو يعلم هؤلاء، كم يحقق زعمهم البطولات الفارغة وإصرارهم على الجمود والتحنط وتمسكهم بخطاب السب والحقد و الثأر، مصالح أعدائهم، وهم ليسوا قلة داخل الوطن أو خارجه، لكن هيهات للمسكون بالأوهام أن يعي، وهيهات لمن تهيئ له نفسه أن أخطاءه المطبعية تسديد وتوفيق من الله، أن يدرك شر البلية.

عندما أنظر في مآل حركة النهضة بعد أربعة عقود ماذا أجد، شيخا يكرر نفسه ويصر على صواب منهجه ويرفض الاعتراف بأخطائه ويقصي رفاق دربه ولا يتورع في إباحة كل الوسائل لأتباعه للانتقام من أصحابه وأعدائه، حيث لا ينهاهم عن خلق مشين ولا ينهرهم عن انتهاك عرض أو دين، ومجموعة من “البودي غاردات” القلمية، من نكرات الأسماء في الغالب، ومن الذين لا دور لهم غير الحراسة الغبية.

أتساءل اليوم عن موقف آلاف الكوادر، من مثقفين ومهندسين وأطباء ومحامين، أعضاء مؤسسات حركة، تزعم أنها القوة السياسية الأكبر في البلاد، وترى نفسها أهلا للحكم والمشاركة فيه. أين هؤلاء الآلاف المؤلفة من قادة الصف الأول والثاني والثالث، لماذا لا يقولون شيئا، لماذا لا يسألون، لماذا لا يطالبون بمعرفة الحقيقة وتأمل المسارات، لماذا يتركون لشخص واحد، يعرف السياسة على أنها ممارسة الانتحار وراء الانتحار، شأن مصيرهم ومصير بلادهم وأبنائهم ودينهم وشعبهم؟

على الرغم من أنه لا صلة لي بهذه الحركة، لكن أمرها يهمني جدا، كما أظنه يهم كل تونسي، فهي جزء من معضلة السياسة في البلاد، ونقطة أساسية على أجندتها الحاضرة، ودون فك هذه العقدة لا أرى أننا قادرون على السير إلى الأمام أبدا. الشعوب من حولنا منشغلة بتحقيق الحداثة وبناء الديمقراطية، ونحن بسبب هذه العقدة، ما نزال نناقش الموقف من الحداثة والديمقراطية.

إن البعض يتوهم أن رفض المصالحة هو الخيار البطولي الأصعب، خصوصا إذا كان ممارسه يخاطب قومه باسم مستعار من وراء حجاب، إنما الحقيقة أن تأييد المصالحة هو الخيار الشجاع الأعصى، لما يقتضيه من فكر حر وصبر على الإقناع وأخذ للنفس بالسماحة، ولا يظنن أحد أن أحضان الآخرين مفتوحة تنتظر المعلنين للصلح، إنما هي مسيرة تصحيحية شاقة يجب أن تقطع، لشفاء النفوس وفتح آفاق مستقبلية أمامها، ولن يتيسر الأمر في شهر أو شهرين، أما طريق الضغينة والثارات والأحقاد والمزايدات وزعم المآثر والانتصارات على شبكة الانترنت، فليس أيسر أو أسهل منه، كبسة زر وكلمة فاسدة لا أكثر، بل إن أحدا من المتحمسين لهذا النهج، لم يجرب طيلة منفاه الطويل غيره.

إنني في الختام لآمل، بأن يكون للنهضة رجال قادرون على المساءلة، قادرون على اتخاذ الخطوات الحاسمة الشجاعة، قادرون على المساهمة في تصحيح المسارات والتصدي للمسؤولية والصبر على المهمات التجديدية العسيرة، إذ لولا وجود بنكيران وثورته على قيادة الشبيبة لما كان هناك عدالة وتنمية، ولو لا أردوغان وتصديه لعنت شيخه أربكان ما كان هناك عدالة وتنمية، فهل من بنكيران وهل من أردوغان؟ تلك سيرتكم فبماذا تردون، إن لم يكن في إجابتكم جديد، فقديمكم الذي يأبى الجديد، قد خبرناه وخبرتموه، وهو بضاعة بائرة، لا تصلح في أي سوق، سوق الداخل والخارج على السواء.

والإمام الشافعي يقول: “إني رأيت ركود الماء يفسده..إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب”.

ومني عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.