قبل أن أتحدث عن المحاضرة التي ألقاها إيثان زوكرمان (الباحث بمركز بيركمان للإنترنت والمجتمع بجامعة هارفارد و مؤسس موقع أصوات عالمية) بمعهد واتسون للدراسات الدولية (The Watson Institute for International Studies) التي تعرض خلالها لبعض المبادرات التي قام بها مدوّنون و نشطاء أنترنت تونسيون، أودّ التحدث قليلا عن خلفية أشرطة الفيديو التي ترافق هذه التدوينة.

لقد حضرت مع إيثان زوكرمان منتدى الجزيرة الثالث “الإعلام ومنطقة الشرق الأوسط : ما وراء العناوين” الذي انعقد بالعاصمة القطرية الدوحة من 31 مارس إلى 2 أبريل 2007. خلال الكلمة الرائعة التي ألقاها الأكديمي الأمريكي لورنس ليسيج أستاذ القانون بجامعة هارفاردا و استانفورد، مصمّم رخصة الملكيات الأبداعية العامة (Creative Commons)، و التي تناول فيها موضوع الصحافة المدنية و “دمقرطة الأنترنت” وتأثيرهما على المجتمعات البشرية و طريقة فهمنا و تعاملنا مع السياسة، قام ليسيج بعرض الفيلم الدعائي “هيلاري 1984” الذي يقدم فيه مصممه، فيليب دي فيلز، مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون وهي تلعب دور “الأخ الأكبر” تلك الشخصية السلطويّة و الشمولية لرواية جورج أورويل (1984). مصمم هذا الشريط القصير الذي قام بعرضه على موقع يوتويب هو من أنصار المرشح الديمقراطي المنافس لهلري كلينتون، باراك أوباما. و قد إستخدام الإعلان التجاري الشهير للشركة الأمريكية أبيل ماكنتوش و أعاد صياغته بشكل أبرز لكثير من الأكادميين و الصحفيين و الساسة، الدور المتنامي للأفراد و المواطنين (حيث أن مصمم االشريط لا ينتمي لفريق الحملة الدعائية لأوباما و قام بإنتاج شريطه بشكل منفرد مثله مثل آخر شريط ظهر هذا الأسبوع على موقع يوتيوب) في التأثير على اللعبة السياسية و تشكيل الحملات الإنتخابية. و حسب ما أورده ليسيج آنذاك، فقد تمت مشاهدة الشريط القصير 2.900.000 مليون مرة. أما اليوم فقد تجاوز عدد مشاهدي الشريط 3.400.000 مليون شخص.

ليسيج الذي يعتبر من المدافعين عن الروح الجماعية للأنترنت و من أشد المناضلين من أجل رفع القيود عن حرية تبادل المعلومات على الشبكةـ استغل شريط “هيلاري 1984” ليتحدث عما درج تسميته بالواب 2.0 (Web 2.0) و معادلة القراءة-الكتابة (Read/Write Web) التي تميز الأنترنت الإجتماعي اليوم و تسمح لمستخدمي الشبكة بالمشاركة التفاعلية عبر إعادة صياغة المحتوي و تحوير الخطاب الأصلي و توجيهه في اتجاهات متعددة. خلافا لخاصية “أقرأ فقط” (Read Only Web) التي كانت تميز القرن العشرين و تقسم المجتمع المعلوماتي و الإعلامي إلى أقلية منتجة و أكثرية مستهلكة، تأتي فلسفة “إقرأ-أكتب” التي أنتجتها وسائل الأتصالات الحديثة و تفاعلية مستخدمي الأنترنت لتمنح للمستهلك فرصة إعادة إنتاج المحتوي (Content) و تغييره و الإرتقاء إلى مرتبة الإنتاج و الكتابة منهية عهد الإحتكار التسلطي الذي كان يسود ميادين صنع الخبر و تحليله و عرضه.

فلسفة ليسيج هذه تجد لها نقيضا في نظرية أندرو كين (Andrew Keen) الذي صدر له كتابا مؤخرا سماه “ديانة الهواة” انتقد فيه بشكل لاذع مبدأ “حكمة الأكثرية” (The Wisdom of Crowds) التي يقوم عليه قطاع كبير من الأنترنت الأجتماعي. خلافا لليسيج، يعتقد أندرو كين أن خاصية “إقرأ- أكتب” التي تسود الشبكة اليوم تهدد الثقافة و الإبداع حيث يرى أنه يجب علينا أن نحترم التقسيم الكلاسيكي (Read Only Web) الذي يضمن إنتاج محتوى يتوفر فيه الذوق و الإحتراف و المصداقية.و ينتقد كين بشدة ظاهرة التخفي وراء الأسماء المستعارة و تحول المدونين إلى صحفيين يهددون الصحافة المحترفة و المكتوبة، و يرى أن الأنترنت إذا استمر على هذا الشكل قد يأتي على الثقافة و الإنتاج الفني. بل إنه تنبأ بأن الإنسانية خلال 25 أو 50 عاما قد تفقد قدرتها على إصدار الكتب و الصحف و الأفلام و الموسيقى.

لنعود إلى إيثان زوكرمان، فعندما كان بصدد تدوين محاضرة ليسيج مباشرة، أرسلت له رابطا لشريط فيديو قام به المدوّن التونسي صدربعل إستعمل فيه نفس الإعلان التجاري لشركة ماكنتش. الشيء الذي فاجئ إيثان و حمله على كتابة تدوينته ” الديمقراطيوّن الأمريكيون يعيدون صياغة الشريط ثلاث سنوات بعد التونسيين”. و بالفعل فقد قام صدربعل بعرض الشريط على موقع تونيزين خلال شهر أفريل 2004 بـُعيد الإنطلاقة المبكرة للحملة الإنتخابية لمهزلة أكتوبر التي فاز فيها “الأخ الأكبر” بن علي بنسبة 94.48%.

و يوضح إيثان:

“أنا لست بصدد اتهام دي فيلز بسرقة أعمال صدربعل. إذ من المحتمل جدا أنه لم يشاهد الشريط و أنه قام بإعادة الصياغة بشكل مستقل. كما انني لا أنتقد وسائل الإعلام لتي لم تنصف التونسيين لأنهم قاموا بهذا العمل قبل أنصار أوباما. حتي أنني واع بأن فرصة التعرف على النسخة التونسية لم تتاح لي لو لم أكن برفقة ناشط تونسي أطلعني عليها. الشيء الملفت للإنتباه هو أن النشطاء الأمريكيين ليسوا منفردين باستعمال أدواة قراءة-كتابة الشبكة و أنهم ليسوا سباقين في استخدام هذه الأدوات.”

تعرف إيثان و غيره من الأكاديميين على ما أسميه بالمدرسة التونسية للنشاط الإفتراضي من خلال العمل النوعي الذي يقوم به فريق من المدونين التونسيين الذي أفتخر بالإنتماء إليه، حمله على التعريف بمبادراتنا في الكثير من المحافل العلمية و الإعلامية حيث لقي هذا العمل اهتماما لم نشهده داخل الإطار التونسي الذي، للأسف، لا يزال يحبذ تجنب دراسة هذه الظاهرة بشكل موضوعي و علمي بعيدا عن المزايدات السياسوية و الحسابات الشخصية لهذ الطرف أو ذاك. بل قد يستهجن بعض المدونين التونسيين من استعمالي لكلمة ” مدونين” في العنوان و خلال هذه التدوينة. كيف لا و قد تعود البعض، الذي لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، من ممارسي رياضة التكلم باسم المدونة التونسية و الدفاع عنها، على سلب صفة المدونين عنا و الإكتفاء بنعتنا ب “المعارضين” (Dissidents) المغتربين وكأن الحديث عن حقوقنا الأساسية إنتماء سياسي، و كأن الإغتراب أو المنفي نزهة سياحية. بل أنني من مناصري التعريف الذي قدمه علاء عبد الفتاح لماهية المدون عندما قال في أجمل تدوينة قرأتها حول الموضوع:

But the worst part is explaining why you are here: “Erm, you see, I’m a blogger!”.

What the hell does that mean? it’s not a job, it’s not an identity, and it shouldn’t be treated as something soooo exciting.

I do have a blog (a much overrated one at that). It has become an important part of my life, but so is email. I don’t walk around calling myself an emailer do I? And I don’t get invited to conferences just because I send a lot of emails.

And it’s not even true, I’m not here because I’m a blogger as such, I’m here to tell a story of activism (but hey, saying I’m an activist is even worse. It makes you sound like part of a chemical process or something).
So I’m here because I happen to use technology while participating in political activities, fascinating.

أما الذين يعملون من داخل الشبكة على سحب صفة الواقعية عن النشاط الألكتروني فسأكتفي بإعادة ما كتبته حول مقاربة “يزي..فك”:

الأنترنت ليس سوى امتدادا لوسائل الإتصال الأخرى كالمذياع و الهاتف و التلفزيون بل قل فإنه المحطة و الأداة التي ترتقي فيها و بها كل هذه الوسائل إلى درجة الإتقان. فهذه الدوائر المستقلة سابقا قد تداخلت تدريجيا لتتحول بفضل الأنترنت الى دائرة واحدة. و الثورة الرقمية التي تجري تحت أعيننا لم تنجح فقط في مزج وسائل الإتصال بعضها ببعض بل في مزج وسائل الإتصال بالمعلومات. فأغلب الصحف و الإذاعات و القنواة التلفزية تمتلك مواقع إلكترونية تلتقي فيها الكتابة بالصوت وبالصورة. نجاحات الأنترنت الباهرة في الإرتقاء بهذه الوسائل إلى مستوى تتحد فيه ببعضها مستفيدة من سرعة انتقال المعلومة و من تحررها، النسبي أحيانا و الكلي أحيانا أخرى، من الرقابة لا يجعل من العمل المعروض على الأنترنت مسرحا لعالم إفتراضي مُصطَنع تتلاشى فيه الحدود بين الواقع والخيال بل هو تجلٍِ لما يحصل في الواقع من تطور مذهل في مجال تشابكت فيه الإبتكارات العلمية بقوانين السوق المُعولمة و تلاشي مقومات السيادة الوطنية الواحدة تلو الأخرى. ولعل من أهم التحولات التي أدخلتها الثورة الرقمية هي تلك التي بعثرت علاقتنا بالزمان وبالمكان. و كما يقول الباحث جان-كلود غيبو : ” لا نزال في بداية مسار ضخم يعدل في العمق علاقتنا بالزمان والمكان حيث يزولان تدريجياً في شكل من الاشكال لصالح بعد زمني-مكاني موحد ومحيّر: الفورية الافتراضية. “قارة سادسة” تظهر للعيان بفعل انتصار النظام الرقمي والانترنت والحيز الافتراضي، وميزتها (…) انها محكومة بالفورية. وها هي اليوم جميع النشاطات البشرية تهاجر واحدة تلو الاخرى وفي حال من الفوضى الرهيبة نحو هذه القارة الغريبة: التجارة والمال والثقافة والاتصالات والاقتصاد الخ…(…) سوف يزداد ايقاع هذه الهجرة بفعل حدوث الاختراقات التكنولوجية. ”

حديث إيثان عن شريط صدربعل و عن البرنامج الذي صممه لتعقب الصفحة 403 التي تمنع متصفحي الأنترنت في تونس و غيرها من البلدان من دخول المواقع المحجوبة، حديثه عن خارطة السجون التونسية و عن مظاهرة “يزي فك” التي يريد البعض أن يمحيها من ذاكرة النشاط الألكتروني التونسي [1] دليل على أن العمل النوعي الذي يميز المدونين التونسيين عن غيرهم ليس طفرة وليدة لحظة سياسية يتيمة بل مزيج من الإبداع و التحكم في الوسائط التقنية مقرونا بالتزام مواطني و فهم لفلسفة “إقرأ- أكتب”.

و أختم هنا بكلمة أخرى لإيثان زوكرمان:

أنه لشيئ رائع أن يرى الناس من مختلف بقاع العالم قدرات الصحافة المدنية على إنعاش الحياة السياسية. أتمنى حقا ان يلقى التونسيون الناشطين في بيئة اكثر قمعية من تلك التي يتحرك فيها الديموقراطيون لفتة امتنان لمجهودهم في أبراز الإمكانات التي تختزنها هذه الأدوات.”

سامي بن غربية

16 جوان 2007

مدونة فكرة

[1] Voir “Pendant les travaux, le gâchis continue”, Meryem Marzouki, Alterenatives Citoyennes :”Pourtant, toute cette jeunesse tunisienne qui participe aux forums de discussion sur Internet, malgré les difficultés et les risques que cela comporte, qui fait preuve d’une créativité remarquable (voir tous les clips vidéos produits à l’occasion du SMSI, voir aussi la campagne « Yezzi »), qui ne s’embarrasse pas de révérence, a-t-elle seulement été soutenue, encouragée, voire simplement mentionnée, par cette opposition et par ces associations du côté desquelles elle veut se situer, ne serait-ce que par sa critique du régime ? Bien au contraire, elle a été soigneusement écartée par des plus que cinquantenaires qui n’ont rien compris, sauf que cette jeunesse risquait décidément de bousculer leur train-train.”