تونسي

جهيرَ الصّوت، وبلغة السّيف والوعيد يخطب في الجامع والجموع. وخفيض الصّوت، وبلغة الهداية والمهادنة وطاعة وليّ الأمر يكتب خواطره في الصّحف.
يعمدُ، عمدًا وخطأ، في قديم خطبه وحديثها وفي ذوده وردوده، إلحاق الجامعة بالجامع.
يكرّ عندما يغفل الآخرون أو يتقاعسوا، أو لمّا يتهيّأ له أنهم تقاعسوا، ويفرّ مستغفرا معتذرًا عندما تحمس المعارك ويشتدّ إنتباه العيون والآذان.
حازما يقطع الكلامَ حينما يصبح للكلام معنى واستقلال، ويفسح لفوضى الكلام والهذر.
يجلس إليك مبسملا مبتسما، يسألك عن الأبناء والقبيلة والأموات والجيران والحيوان، ولايسألك عن الجوهر.
يحاورك في قضايا الحرية والمعتقد والتسامح والمرأة وهو يقلّب، متأهّبا، عينيه في فمك وفي نفسك، ممسكا في يده اليسرى آيات الرّحمة والإحسان وفي يمناه آيات السيف والوعيد.
يحمل القرآن الكريم أينما حلّ ونزل، يفتحه في التهديد والوعيد، في الكرّ والفرّ، في التّفكير والتّكفير، في التقرّب والتكسّب.
في قناته/ دارته، التي يسكن فيها، يستضيف الكاهن والحاخام والشيعي وغيرهم لرفع العتب بلغة الخشب ولإبعاد الشبهات، ولتبييض الأفكار و….

عند أصداء الأزمات وأضواء الوقائع (أقصد أزمات الشعب التونسي ووقائع المعارضة التونسية) يتوارى بعيدا، مختفيا في غبش قناته/ دارته “الإسلامية”، أومنصرفا إلى بركات زياراته الخليجيّة. وحين تخفت تلك الأزمات والوقائع وتنخفض أصداؤها وتكبو أضواؤها، ويعود الجميع إلى العادة والنسيان، يطلع، حثيثًا سريعًا في أمره، على التونسيين، وأحيانا على غيرهم، مشعلا أضواؤه الباهتة، تارة وهو يُكدي (من الكدية وغيرها) متحدّثا عن زيت الزيتون ورائحة البلاد والصّابون وحنينه الجارف إلى فخامة السيد الرئيس والوطن “السويسريّ”، وطورا مفتعلاً أزمة افتراضيّة بفرض مصالحة وطنية ملحّة لا تقبل التأجيل! وأخرى مقترحا، وهويطلب، مستلهما رؤية فخامته الكونية، بعث صندوق وطني للمعطّلين.

يرسل إلى فخامته الرّسائل التطمينيّة، عبر الحمام والفضاء والأنترنت والبريد، بأن لاعودة مجدّدا إلى الكلام والإعلام. يكاد يقسم بالقرآن بأنه لن يعود أبدا إلى فترة استقلال القناة، لكنّ فخامته لايجيب، لريبته فيه وقد خبر تقلّباته وانقلاباته، ولانشغاله بتفخيم الصّمت في البلاد.

يواصل دون يأس وكلل تنميق الصحائف المدحيّة لفخامته منتظرا بلهفة حارة دعوته في عيد الجمهوريّة. غير أنّ فخامته يحتفل وحيدًا ودونه ودون الشّعب بالعيد. يحزن متراجعا قليلاً. يعلن عن صمته لأيّام ثمّ يدخل حالاته: يعود غاضبا مكلوما ويشرع في تكشير أنيابه. يرسل إلى فخامته إشارات الغضب والعتب بذكر مفردتي “الإستبداد والتسلّط ” ملوّحا بالعودة إلى الكلام والإعلام.

يكفّ عن التغنّي بزيت الزيتون ورائحة البلاد والصّابون وينصرف إلى الكتابة الإخوانية. يولي عن فخامته لحين، ويعلن، طردًا للوحشة والوحدة، عن لقاءات مقبلة في دارته لبعض المثقفات والمثقفين من داخل البلاد قبل أن يسألهم! ثمّ يسألهم. يعتذرون عن الحضور إلى دارته للمساهمة في الهذر والتبييض.

يكسف باله ويندم. يقرّر الإنتقام لكبريائه ولدارته ويشرع في الترصّد.

يرصد المقالات المنشورة، لإحداهن ممّن اعتذروا عن الذهاب إلى دارته، حول خطاب الفتوى في الأنترنت. يمضي مفتّشا في أنفاس النصّ عن روائح “كفر وردّة”، مقلّبا حروفه ومفرداته وسكناته. وعندما لم يجد أيّ شيء من تلك الروائح ينصرف مهموما بهمّة كبيرة إلى ليِّ أعناق النص، قالبا عباراته وجمله، مصرّا على استخراج تلك الروائح.

لَفَا، وهو الذي لايقرأ، لحم النصّ عن عظمه فألفى، صدفة، إشارات عن السيدة عائشة وخالد بن الوليد لاتتفق مع تصوّراته الأصولية، لكنّها تخدم مقاصده التفتيشيّة. يهرع مفزوعا مهرولا إلى مكتبته ينسخ ويكتتب مقالات عن أقوال قديمة حول الشخصيتين، حرفا بحرف ونقلا بنقل، مضيفا إليها، طبعا، توابل الوعظ والتقرير والإنشاء والوعيد ويخرجها في حلّة أصولية هاشمية رادّا بها على تلك الإشارات.

غير أنّه لمّا يئس من نجاعة ردوده التفتيشية الكتابية، صعّد في مهمّة الإنتقام والتفتيش وانصرف إلى التوسّل بالردود الحربيّة فرفع القرآن على أسنة رماحه، ووجّهها إلى جميع “خوارج” التونسيين والتونسيات! (مقاله “نداء مهم جدا لجميع التونسيين والتونسيات” الذي أورد فيه، على سبيل التكفير والتهديد، كمّا هائلا من الآيات القرآنية التي كانت موجهة إلى كفار القرن الأول الهجري في الجزيرة العربية).

ثمّ انتقل، وهو يدافع تمويها وتضليلا عن خالد بن الوليد، من التفتيش في النصّ إلى التفتيش في نفس صاحبته، ومن ثم في نفوس “طائفتها” بعد أن مرّ بتفتيش وتكفير إحدى “الطوائف القديمة” التي لم يجد غضاضة في استضافة بعض رموزها في قناته/ دارته! رفعا للعتب بلغة الخشب، كما أسلفنا.

وعندما تصدى له البعض بالقلم والحجة ( وليس بالرّمح أوالسّيف طبعا ) وهدده بالمحاسبة القانونية والمعاقبة الفكرية أمام الجميع، أعلن أمام الجميع (ولا أظنه أمام نفسه) وبسرعة فائقة، عن رميه للرّماح وتركه للسلاح، سلاح التكفير. وكتب مقالا وهب فيه الحرية للجميع! بما فيها تلك “الطوائف” الخارجة عن الأصول والدين، القديمة والحديثة، دون أن ينسى طبعا، وبلغة الخشب، التأكيد على إيمانه بحرية الضمير والمعتقد والتعبير والتفكير والإختلاف والحوار، حتى كاد مقاله أن يستحيل درسا مدرسيا في موضوع حقوق الإنسان.

لكنّه، إضافة إلى تخلّيه عن الرماح ورميه للسلاح (ولحين طبعا) يستنبتُ، في مقاله الأخير(الحرية لجميع الناس) أملاً جديدا في الحصول على لفتة كريمة من فخامته، بدعوته لحضور الأفراح وليالي نوفمبر الملاح، فهو مشتاق إلى بث لواعجه وأحلامه وأفكاره وغربته لفخامته. وربما صلّى وبكى لو رآه. ودعا له بطوال العمر والحكم، وبمزيد قوة الحزم والعزم والخير العميم للأبناء والعائلة والقبيلة.

للتّضليل، ولكي لا يثير المزيد من غضب بعض إخوانه الإسلاميين يذكر، مطَمئنا، أنه سيحضر حفل زفاف أخويه الوريمي والهاروني (طبعا دون أن يسألهما ودون دعوة رسمية كما يعلن مع الكثير من الناس!).

لا ييأس أبدا من الحضور، ومن تدبّر وسائل تحقيق الحضور، واجتراح فنون الإلحاح والمداورة والدوران.

يبحث عن الحظوة أينما كانت. يذهب إليها في الأقاصي والتخوم. يبذل النفس والنفيس ويتنازل عن النفس من أجلها.

دائما هو يدور ويستدير على نفسه، ويدور بالآخرين.
يهيم بالحظوة والأضواء والأوهام، ومغرم دائما بإثارة المعارك والغبار والبخور والتكفير والإعتذار. وكلّ ذلك بالقرآن الكريم!