صباح اليوم وصلتني رسالة إلكترونية من صديق تحمل خبر عربي بإمتياز. عنوانها “إعتقال مدون مغربي”. فتحت الرسالة، كانت قصيرة وتشير لمدونة شاب مغربي تم إعتقاله بسبب تعبيره عن آرائه السلمية في مدونته الشخصية. زرت مدونته لأول مرة وحرصت على الذهاب لأول تدويناته لأنها في العادة تتكلم عن نظرة المدون تجاه التدوين وسبب رغبته في الإلتحاق بهذا الركب وطموحاته التي ينوي تحقيقها من خلال هذه المدونة. وجدته يقول في أحد أوائل تدويناته:
“أريد أن أملأ صفحات هذه المدونة بكل الأفكار التي تثور في رأسي مثل بركان هائج تارة ، وتارة أخرى مثل نسمات برد لطيفة باردة ، أريد أن أجلس طويلا أمام الحاسوب ، أريد أن أكتب حول كل شيء عن حياتي الخاصة ، عن السياسة ، عن الرياضة ، عن الدين ، عن كل شيء ، أريد أن أكتب بلا توقف..”..

بهذه الكلمات بدأ الأخ المدون المغربي محمد الراجي رحلته مع عالم التدوين. هذه الرحلة التي بدأت ولن تنمحى من ذاكرته وذاكرة عائلته وأصدقائه ما بقي من أعمارهم. محمد الراجي مثله كمثل الكثير من الشباب المبدع الذين لا نلتفت إليهم إلا وقت المصائب.

محمد الراجي عمره ٢٩ عاماً وعمر مدونته سنة ونصف. لولا أنه ذكر بنفسه بأنه لم يتجاوز المرحلة السادسة في مستواه التعليمي لما صدقت. هو “أمازيغي وعربي في نفس الآن” كما عرف عن نفسه. أما توجهه الفكري فيلخصه كما يلي: “مستقل بأفكاري ولا أحب أن أكون تابعا لأحد ، عندما يكون لدي موقف من قضية ما ، أدافع عنه بشراسة، وفي المقابل أستمع بأذن صاغية الى الآخرين ، وأقبل الحوار مع الجميع ، عندما أختلف مع شخص ما ، أختلف معه حول أفكاره ومواقفه فقط ، وليست لدي خلافات شخصية مع أحد”. في آخر تدويناته يصرخ في وجه “الجبناء” كما أسماهم مطالباً “بحماية سمعة وطنه” الذي يحبه ويعشقه. أوطاننا العربية التي نعشقها ويحاول البعض بكل جد وإجتهاد وبكل طريقة ممكنة أن يفقدنا الأمل في إصلاحها إما بتهوين المخاطر التي نمر بها أو بإقناعنا بشرعية “الخطوط الحمراء” التي هي في الأصل خطوط حمراء تحمي “المستفيدين” من أوضاع حرياتنا المفقودة في أوطاننا العربية.

أمضيت اليوم أقرأ تدوينات الأخ محمد الراجي. أعجبني نقده وأفكاره وإستقرائه وحججه وقوة لغته. أعجبتني جرأته وتسميته الأشياء بأسمائها. وجدته يعبر عن وجهة نظره بكل صراحة حول الإرهاب وغيرته على الإسلام من تصرفات المتطرفين وأطروحاتهم. تناول “أسامة بن لادن” بالإسم ونقده وأختار أن لا يؤجر عقله لكل من يستغل سوء أوضاعنا بطرح حلول تدميريه وإرهابية لا تقود إلا لمجتمعات خوف وعنف وظلام.

محمد الراجي لم يختبيء تحت معرفات وهمية في منتديات الإنترنت ليعبر عن رأيه بطرح متطرف أو صراخ لا يسمن ولا يغني من جوع. محمد الراجي فهم التدوين جيداً ولديه ثقة إيجابيه في ذاته وعقله وفكره نهلها من محيطه العائلي وتربيته التي يفتخر بها.

ولذلك قرر محمد الراجي أن يدون.

لماذا يدون؟ لكي يناقش تلك الأفكار التي تثور في عقله مثل “بركان هائج تارة، وتارة أخرى مثل نسمات برد لطيفة باردة”. في الوقت الذي إختار أترابه أن يحملوا السلاح وينشروا ثقافة القتل والتدمير، قرر محمد أن يدون. يدون لأنه يريد أن يكتب “حول كل شيء عن حياته الخاصة، عن السياسة، عن الرياضة، وعن الدين..”. من حق محمد أن يكتب في كل هذه المجالات، ومن حق من يقرأ له أن يناقشه في مشهد حواري تدويني راق ورائع. يقول محمد بأنه يريد “أن يكتب بلا توقف..” ولكن أصحاب “الخطوط الحمراء” قرروا أن يوقفوه ويسجنوه ويحاكموه في مسرحية هزلية ويصدرون في حقه حكماً جائراً بالسجن سنتين. يقول صديق لي معلقاً على إعتقال الأخ محمد الراجي “الحكم بحق محمد الراجي قليل جدا يا فؤاد (سنتان) فقط؟ المفروض الإعدام. يريد حرية وحقوق في دول عربيه. هذا كفر!”.

في أعلى مدونته، وجدت أخي محمد الراجي يقول “هذه المدونة أعتبرها بمثابة رئتي الثالثة ، التي أستطيع بواسطتها اخراج كل الغضب الذي يتزاحم داخل صدري مثل حمم بركان هائج . هذه المدونة لم أخلقها فقط كي أضيع وقتي في ملأها بالكلمات والجمل بدون فائدة ، لقد أنشأتها كي تكون مجالا أستطيع فيه التعبير عن أفكاري وآرائي بكل حرية وبدون قيود.”

إذاً لا جديد هنا. مدون عربي طموح يمارس حقه الإلهي بالتعبير السلمي عن رأيه من خلال مدونة شخصية بسيطة فيزج به خلف القضبان لأنه أغضب “ملاكاً” ما؟

لو لم يدون محمد الراجي، ماذا كان بإمكانه أن يفعل:

1. المضي في حياته اليومية بحثاً عن لقمة عيشه فاقداً الأمل في إمكانية أن يحدث تعبيره عن رأيه أي فرق في تحسين الواقع أو إيضاح مواطن الظلم. وبذلك ينضم للملايين من الشباب العربي المحبط والذي يعتبر النموذج المفضل لدى أصحاب “الخطوط الحمراء” وقوى الإستبداد.
2. تأجير عقله لمتطرف يقول له بأن حمل السلاح والعنف هو الحل والمخرج من هذا الواقع العربي المظلم مثلما فعل الكثير من الشباب العربي المحبط أيضاً للأسف الشديد.
3. البحث عن مواطن أخرى ليخرج “كل الغضب الذي يتزاحم في صدره مثل حمم بركان هائج” من مخدرات وحشيش ومتع مدمرة وقع فيها الملايين من الشباب العربي المحبط.

محمد الراجي قرر أن يرفض كل الخيارات الأخرى وأن يبدأ في التدوين. إذا كان أخطأ في عبارة هنا أو كلمة ووصف هناك، فهل السجن حل؟ هل لازال هؤلاء يعتقدون بأن السجون هي الحل المناسب في ظل هذا الإنفتاح المعلوماتي الرهيب والتقارب الكوني الغير مسبوق؟

مشكلة الحكومات العربية مع الجيل الجديد من الشباب أنها لم تستوعب بعد أن الوقت تغير. هذا الجيل مشتعل بالغيرة وببراكين الغضب والأسئلة التي تتزاحم في عقله تبحث عن إجابات لحال وضعنا العربي المحبط.

في زمن ما، كان العربي في المغرب يسمع عن ما يحصل في المشرق عن طريق إذاعة لندن أو مونت كارلو أو صحيفة بائتة هنا أو هناك. بعد عالم الإنترنت، أصبحنا نعرف كل صغيرة وكبيرة إما عن طريق الفضائيات أو الإذاعات أو مواقع الإنترنت أو البريد الإلكتروني أو تويتر أو الفيسبوك. لم يعد هناك شيء مخفي. قبل يومين لم يكن أحد يعرف عن “محمد الراجي” أي شيء. واليوم نجد عشاق الحرية والكرامة والمساواة يتنادون من كل أطراف كوكب الأرض يستنصرون بعضهم البعض للوقوف داعمين لمحمد الراجي. كم هو محرج موقف أولئك “الملائكة” الذين يظهرون بصورتهم الحقيقية أمام العالم أجمع. لن تنفعهم حملات تحسين السمعة ولا مؤتمرات الإخاء والسلام. مجرد حادثة كهذه تشكل خسارة فادحة بكل المقاييس لسمعتهم التي تتأثر حالياً ومستقبلاً بمثل هذه الإعتقالات الغير إنسانية.

تعلمنا، وقرأنا، حللنا، وفكرنا، وجدنا ملايين البشر حول العالم يمتلكون حقوق لا نملكها نحن إخوتهم البشر. وجدناهم يختارون حكوماتهم، يحاسبونها، ويطالبون بإستقالتها إن فشلت. وجدناهم لا يسمحون للص بينهم بالهناء في معيشته. يدققون في حساباته ويحاكمونه متى ما ثبت لهم خيانته. وجدناهم يأخذون على يد المستبد في أي موقع كان. وجدناهم يعبرون عن آرائهم بحرية وبدون أن يزج بهم خلف القضبان بسبب آرائهم السلمية. وجدناهم ينتجون ويبنون أوطانهم التي يحبونها في جو يشجعهم على ذلك. وجدناهم يبدعون، يخترعون، يبتكرون حلول لكل مشكلة جديدة. وإن فشلوا يحاولون ثم يحاولون لأنهم على يقين بأنهم في الطريق للحل. مجتماعتهم ليست ملائكية لأنهم ببساطة متيقنون بأنهم لن يصلوا لها. إقتربنا منهم أكثر عبر الإنفتاح المعلوماتي المدوي من خلال الإنترنت ووسائل الإعلام. ثم نظرنا لحال أوطاننا فوجدنا التخلف، القمع، الظلم، النهب، والإحباط. تحركت في عروق دمائنا الغيرة. نريد أن نعيش في سلام وإحترام للقانون وحرية للرأي ومساواة وعدالة وكرامة وشورى مثلما نراها في مجتمعات مختلفة بدرجات متفاوتة. نحن نغار ونحلم أن نعيش ما بقي من حياتنا في أوطاننا العربية تحت ظل هذه القيم التي أتى ديننا وشريعتنا الإسلامية لترسيخها قبل أن يمسخها فقهاء الإستبداد. ولكن عندما نبدأ في تحويل هذه الغيرة على شكل كلمات و مدونات نجد من يريد أن يقتلها في مهدها!

إذا كانوا لا يريدون منا أن نحلم وأن نتكلم ونطرح أفكارنا وأحلامنا للحوار والنقاش فلماذا يسمحون بإدخال الإنترنت في بلداننا العربية؟ لماذا يسمحون بقناة الجزيرة التي نقلت لنا العالم بلسان عربي وأشعلت فينا نار الغيرة من شعوب العالم الأخرى بقصد أو بدون قصد؟ يجب عليهم أن يريحونا من عناء “الغيرة” والطموح والأحلام بقطع الإنترنت وإغلاق الفضائيات. وليتركوا الجامعات كما هي فحالها الراهن هو من مصلحتهم لأن أسلوبها التعليمي والتربوي لا يخرج سوى شباب محبط. بهذه الوسيلة فقط يمكن لهم إعادة عجلة التاريخ للوراء. بهذه الوسيلة فقط بإمكانهم إحكام الإغلاق على مجتمعاتنا. مثال كوريا الشمالية هو مثال مناسب لهم. وكذلك كوبا. لا شيء مستحيل! فليقطعوا الإنترنت عن أوطاننا ويريحونا من قراءة وإستطلاع ما يجري حولنا في العالم من حراك مجتمعات قريبة. أحياناً أشك بأنهم فعلاً لم يقرأوا ما يمكن أن تحدثه الإنترنت من تأثير في مجتمعاتنا بالشكل الصحيح. كانوا يتوقعون أنها ستكون أداة ترفيه تلهي الشعوب عن المطالبة بحقوقها والتعبير عن أحلامها. ربما حصل هذا للكثير ولكن لم يكونوا يعلمون أنه سيظهر لهم محمد الراجي في المغرب، وطارق في سوريا، ووائل عباس في مصر، ومحمد المسقطي في البحرين، ومدوني تونس، وغيرهم. شباب عربي يؤمن بحرية التعبير السلمي، يشق الطريق ويضرب الأمثلة للبقية. شباب عربي واثق من نفسه، لديه الكثير من الأسئلة التي لم يجد لها جواب لا عند الحكومات ولا عند فقهاء الإستبداد. شباب عربي غيور على نفسه ومجتمعه ووطنه. ربما نخطيء في كلمة أو في وصف، ولكن هل يعتقدون بأن السجن حل؟ هل يعتقدون بأننا يمكن أن ننظر لهم مثلما نظر لهم آبائنا في أيام التباعد المعلوماتي وقلة المعرفة؟ ألا يعلمون بأن زماننا غير زمان آبائنا؟ ألا يعلمون بأن طموحاتنا غير طموحاتهم؟ ألا يعلمون بأننا نرى التغيير حتمي وقادم، وأن المستقبل مشرق ولكن يحتاج منا لشيء من الجرأة والشجاعة في التعبير عن مكنونات أنفسنا وإستحضاره؟

زرت المغرب من قبل في رحلة قصيرة لم تتجاوز خمسة أيام. إقتربت فيها من الشعب المغربي الذي لم أخالطه من قبل. وجدته شعب في غاية الطيب والكرم والنبالة. أناس يتشاركون معي في اللغة والدين وكثير من العادات والتقاليد. قبل زيارتي هذه، كنت قد قرأت رواية “السجينة” وقد آلمتني كثيراً وأعطت لي وصف عن حال المغرب أياك حكم الملك الحسن الثاني. ولكنني سمعت بأن هناك إصلاحات وتغيير في ظل العهد الجديد. والآن يأتي خبر إعتقال المدون محمد الراجي ليجعلني أشكك في أن الصورة ليست بتلك التي تصلنا من خلال الإعلام.

السجون لا تغير سوى الأفكار الخاطئة. الأوطان التي يسجن فيها شبابها لأجل آرائهم ويسكت عنهم وينسون خلف القضبان فيها هي أوطان لا تستحق المعيشة والتضحية من أجلها. أما الأوطان التي تدافع عن فلذات أكبادها وتحاول إخراجهم من أوكار السجون هي أوطان حية وتستحق التضحية وأقرب للحصول على مبتغاها.

ليس لي إلا أن أعبر عن تضامني بلا حدود مع الأخ محمد الراجي وأن أدعوا له بالحرية وأتمنى أن يطلق سراحه ليعود لأهله ومحبيه. هذا الشاب هو مثال رائع للشباب المغربي. لا تحتاج سوى أن تزور مدونته وتقرأ له. ليس مطلوب منك أن تتفق معه في كل آرائه فذلك مستحيل فضلاً عن أن يكون كذب. المطلوب أن نسأل أنفسنا، هل يستحق محمد الراجي في المغرب وطارق في تونس وغيرهم من المنسيين أن نتضامن معهم؟ بالتأكيد نعم.

أدعوكم لزيارة مدونته والتعرف عليه عن كثب لتعلموا كما علمت كم هو رائع هذا الشاب وكم يستحق منا كل موقف نبيل من دعم ودعاء وتضامن.

الحرية لمحمد الراجي ولطارق سوريا ولكل سجناء الرأي في وطننا العربي.
الكرامة لهم..
العدالة لهم..

فؤاد الفرحان

—–
مدونة محمد الراجي
http://almassae.maktoobblog.com