أصدرت يوم 4 جوان 2004 الأحزاب الوطنيّة المؤلّفة من التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريّات وحزب العمّال الشيوعي التونسي والحزب الديمقراطي التقدّمي وحركة الديمقراطيّين الاشتراكيّين بيانا حول الانتخابات المقبلة توّلت نشره تونس نيوز يوم 12 جوان 2004. وانّ القراءة السريعة لهذا البيان تستدعي ملاحظات عديدة نذكر منها:

1) أنّ الأحزاب الموّقعة عليه غير متفقة سابقا حسب علمنا على موقف واحد بخصوص الانتخابات. ففي حين دعا مثلا حزب العمّال الشيوعي التونسي الى المقاطعة فانّ الحزب الديمقراطي التقدّمي يدعو الى المشاركة سواءا في التشريعيّة أو الرئاسيّة عبر الترشّح “الاحتجاجي” لأمينه العام. وبهذا المعنى فانّ البيان وان لم يحسم نهائيّا في هذه المسألة فانّه يعتبر من حيث مضمونه تقدّما ملموسا ومحمودا في الخطاب السياسي سيّما أنّه احتوى على نقاط ارتكاز مفصليّة على غاية من الأهميّة وكفيلة بتطوير الموقف الوطني الجامع.

2) أنّ الأحزاب الموقعة على هذا البيان ومع أنها اختارت العمل لوحدها في صياغة البيان لأسباب نجهلها فانّنا في المؤتمر من أجل الجمهوريّة لا نحسّ بأيّ حرج من ذلك بل أنّنا نحيّي نضاليّة هذه الأحزاب ونأمل كثيرا في صدقيّة مناضليها وقدرتهم على بلورة الموقف الصحيح في مواجهة التحديّات.

3) ورجوعا الى نصّ البيان فاننا في حزب المؤتمر من أجل الجمهورية سبق لنا منذ ما يزيد عن العام أن أكدنا في بيانات عدّة على ذات المحاور التشخيصيّة المتّصلة بالانتخابات التي لا هدف منها على حدّ التعابير الموجودة في بيان الأحزاب الاّ “تنفيذ مخطّط السلطة الرامي الى ضمان بقائها والانفراد بالنفوذ والهيمنة على المؤسّسة التشريعيّة” أما في الرئاسيّة فهدفها هو” فتح الباب مجدّدا أمام رئاسة مدى الحياة تفرغ سيادة الشعب من كلّ مضمون” حسب تعابيرالبيان ذاته. ولقد استخلصنا في حزب المؤتمر من أجل الجمهورية من هذا التشخيص النتيجة العملية المنطقيّة التي تبنتها العديد من القوى والشخصيّات الوطنيّة الأخرى في بيان المقاومة الديمقراطيّة لانتخابات 2004.وهذه النتيجة مؤدّاها هو الجزم بعدم جدوى المشاركة في هذه الانتخابات بل أنّ هذه المشاركة في حد ّذاتها لا تعني الاّ تمكين السلطة الديكتاتوريّة من ديكور” ديمقراطي” يخوّل لها تسويق صورتها. واقترحنا العمل النضالي من أجل الترويج والدعوة لمقاطعة نشيطة لهذه الانتخابات لما تستبطنه هذه المقاطعة النشيطة من رسالة واضحة ذات ثلاث أبعاد على الأقلّ: فللشعب يكون مغزى هذه المقاطعة أن الناخب التونسي يرفض المشاركة في التزييف والتزوير وأنه لم يعد يقبل بتزكية انتخابات لا شرعيّة لسلطة فاقدة الشرعيّة. وللعالم الخارجي يكون مضمون رسالة المقاطعة هو أنّ القوى الوطنيّة في تونس أصبحت ترفض التعامل مع المهازل والمسرحيّات وأنّ النظام الحالي لم يعد قادرا على ادارة أيّة حياة سياسيّة في البلاد. أمّا بالنسبة للسلطة فانّها ستتلقّى أوّل ضربة مفصليّة عبر هذه المقاطعة التي ستحرمها من الديكور التسويقي لمهزلة انتخاباتها بما يجعلها رهينة الشعور الدائم بعدم شرعيّتها.

ولقد رأى حزب المؤتمر من أجل الجمهورية – بناءا على الموازنات والحسابات السياسيّة الوطنيّة القائمة فقط على التعجيل في ساعة الخلاص من الديكتاتوريّة بقطع النظر عن الحسابات الضيّقة الأخرى – أنّ موقف المقاطعة النشيطة هو الوحيد القادر على نقل الصراع مع الديكتاتورية من خانات المعارضة السياسويّة الى ميادين المقاومة المدنيّة السلميّة. ولذا دعونا الأطراف الوطنيّة ومن بينها الأحزاب الموقعة على البيان الى هذا الموقف وأبدينا استعدادا كاملا للتعاون والتنسيق مع من يشاء منها والتزمنا بأسلوب المصابرة ومدّ الجسور والامساك عن الدخول في المهاترات حتى مع من وصفنا منهم “بالانفلاتيين” (هكذا) ايمانا منّا بأنّ رأب الصدع آت لا محالة وأن مقاومة الديكتاتوريّة وانقاذ البلاد تستحقّ الصبر على الأذى لتوحيد الصفوف من أجل تجسيد أوّل مقاطعة نشيطة للانتخابات في تاريخ تونس باعتبار” اصرار السلطة على جعل الانتخابات الرئاسيّة والنيابية المقبلة نسخة طبق الأصل من سابقاتها” على حدّ تعبير البيان.

4- انّ ما يلفت الانتباه في هذا البيان الذي يعدّ تقدّما ملموسا ومحمودا في موقف أصحابه كما ذكرنا هو أن الرفاق وبعد اقرارهم” بتنامي الشعور بالاحباط واليأس من تحقّق الوعود التي قطعتها السلطة على نفسها” وبعد أن دعوا الى “التخلّص من هاجس كرسيّ باردو” وجّهوا نداءا الى “تحويل الانتخابات القادمة الى فرصة متميّزة ينبغي على كلّ القوى الديمقراطيّة أحزابا وجمعيّات وشخصيّات استغلالها لوضع لبنة اضافية في النضال من أجل النقلة الديمقراطيّة المنشودة” (هكذا حرفيّا).

وهذا لعمري كلام نضالي جميل لكن سبل تجسيمه عمليّا بقيت غامضة الى حدّ بعيد. فأصحاب البيان رأوا أن تحقيق هذه اللبنة من أجل النقلة الديمقراطيّة ” لن يتسنّى الاّ بتكثيف النضال من أجل ارساء أرضيّة سياسيّة مشتركة “. وهذه الأرضيّة المشتركة جعلوا لها أربع مهام هي:

-  توحيد صفوف المعارضة على أساس القطع مع الحلول المغشوشة للانتخابات المتّصلة بـ”كرسي باردو” ( أي التشريعيّة.)

-  النضال من أجل وضع دستور جديد.

-  الاعتراض على ترشّح الرئيس الحالي والتشبث بالمقابل بالحق في تقديم مرشّحين الى الرئاسة.

-  القيام بحملة سياسيّة واعلاميّة في الداخل والخارج حول انسداد آفاق الوضع السياسي وتعنت السلطة في فتحه حسب ما جاء في البيان.

ولا يخفي المرء حيرته في فهم مدلول هذا الطرح. فان كان رفاقنا يجزمون بضرورة القطع مع “كرسي باردو” في الانتخابات التشريعيّة وإن كانوا يؤكّدون استعدادهم للنضال من أجل الاعتراض على ترشّح الديكتاتور في الانتخابات الرئاسيّة فكيف سيتاح لهم ذلك ان قرروا المشاركة في هذه الانتخابات ؟ وهي التي ستكون على حدّ تعبيرهم “نسخة طبق الأصل لسابقاتها” ؟. انّ هذه الحيرة مبرّرة طالما أنّنا لا نظفر في نصّ البيان بأيّة آليّة واضحة تبيّن لنا كيف أن المشاركة المفترضة في الانتخابات ستكفل فعلا تحقيق الأهداف المنشودة.

5) والواقع أننا نجد أنفسنا في اتّفاق شبه كامل مع نصّ البيان سواءا من حيث التشخيص أو الأهداف ومن ثمّة فالسؤال هو ماذا بقي يفصل أصحاب البيان يا ترى عن التبنّي جماعيّا لموقف المقاطعة النشيطة لهذه الانتخابات المهزلة ؟ أليس اتفاقهم على تفعيل المقاطعة وخوض النضالات من أجل تنشيطها وايصال مدلولاتها عبر “القيام بحملة سياسية واعلاميّة على المستويات الداخليّة والعربيّة والدوليّة لشرح الوضع السياسي بتونس وتسليط الأضواء على انسداد آفاقه وتعنت السلطة في رفض ارساء مسار ديمقراطي حقيقي بالبلاد” كما جاء في نصّ البيان. نقول أليس مثل هذا الاتفاق على المقاطعة لو حصل منهم كفيل من الناحية الفعليّة لوضع اللبنات التاريخيّة التي تضع أوّل اسفين في نعش الديكتاتورية ؟ سؤال نطرحه مع الجزم أنه وبحكم معرفتنا للوجوه المناضلة للأحزاب صاحبة البيان فانّهم – واذا ما تركوا الاعتبارات الشخصيّة والتنظيميّة وراء ظهورهم- سيتوصّلون الى أنّ التفكير في سبل تنشيط المقاطعة وابتداع طرائقها هو أنفع لهم وأجدى لشعبهم وسيكونون قادرين فعلا على خلق الكتلة التاريخيّة التي ستجبر الديكتاتوريّة على الرحيل.

6) أمّا التشبث بالحق في تقديم مرشّحين الى الرئاسة بكلّ حريّة فانّه لئن كان أمرا طبيعيا لا جدال فيه لاندراجه ضمن الأسس التي تقوم عليها الديمقراطيّة فانّه بما يعنيه في الوقت الحالي من مساندة السيّد أحمد نجيب الشابي في ترشّحه الاحتجاجي لمنصب الرئاسة يصبح عامل تشويش وتفرقة يصعب استساغته مع “التمسّك بالمواقف التي أجمعت عليها القوى الديمقراطيّة يوم 12 ماي 2002″ على حدّ ما جاء في البيان من النضال ” من أجل وضع دستور جديد” فضلا عن أن هذا الترشّح الاحتجاجي ومع تقديرنا لنضاليّة صاحبه سيكون بمثابة الشرخ العميق في الموقف الوطني للمقاطعة النشيطة سواءا للانتخابات التشريعيّة نظرا لضرورة ” التخلص من هاجس كرسي باردو” أو للانتخابات الرئاسيّة نظرا لعدم شرعيّة بن علي في الترشّح أصلا لها.

انّ فرصة الانتخابات القادمة يريد بها النظام تجديد لبوسه وتمرير دستوره وتسويق ديكوره وتأبيد ديكتاتوريّته. أمّا نحن فنريدها أن تكون صرخة عالية تستنفر كلّ القوى الوطنيّة لتجعل منها آخر انتخابات مهزلة تعيشها بلادنا. فهل أنّ أحزابنا الوطنيّة ستنخرط في هذا الاستحقاق النضالي؟ هذا ما نأمله صدقا.

صفاقس في 13 جوان 2004

——————————–

*عضو بالمؤتمر من أجل الجمهورية