إلى الصديق أنور الغربي
في الحنين الدائم لوطن الروح
لمثل أولئك الرجال البسطاء تشرق الشمس كل صباح

بقلم نور الدين العويديدي (*)

الطقس حار ونفسي تكاد تختنق.. وأجهزة التكييف لا تبدو كافية لتلطيف هذا الحر. فقد هجم الصيف على الدوحة هجوم العسس قبيل صبح جميل. ولأيس أمامي إلا تعويد النفس على التحمل حتى تنقضي هذه الأشهر الصعبة، ومعها تنقضي أشهرا غالية من أعمارنا.
كان فصل الصيف أحب الفصول على قلبي حين كنت طفلا ثم شابا في مبتدإ الشباب.. لكنه هنا في الدوحة قاسيا لا يحتمل، وخاصة مع شهري جويلية و أوت. الصيف في ذاكرتي فصل العنب واللوز و”الدلاع” والتين.. وفواكه كثيرة أثيرة على قلبي.. وهو أيضا فصل صيد العصافير والحمام.. فصل السهر البريء ليلا تحت ضوء القمر حين يتجلى ملكا في السماء ساحرا مهيمنا على الوجود..
تلك أيام قد خلت.. لكنها لا زالت حية في روحي كأنها لا تنقضي.. أجدني أحيانا وأنا أقود سيارتي في زحمة سير خانقة، شارد البال أطارد خيالا يرجع بي عقدين من الزمن أو ثلاثة بل أكثر.. أراني طفلا صغيرا حالما لا يعرف شيئا من الوجود، ولا يأبه بالسياسة وتعقيداتها ومكائدها ومكابدات الحياة.. الحياة عنده بسيطة ساذجة تولد في أجواء الريف، وفي ضفاف أفقه البعيد الحالم تنتهي، ثم تتجدد مع شروق شمس كل يوم جديد.
تنتهي الطفولة سريعا كأنها لم تبدأ.. وتأتي مرحلة الشباب.. وفي عنفوانها يهاجمنا الاغتراب والتهجير سريعا.. تطوف بنا القافلة الارتحال بعيدا عن مضارب الأهل والقبيلة، ويغزو الشيب مبكرا مفارق الرؤوس.. وينمو الحنين في القلوب، ويتجدد الشوق كل يوم إلى الأهل والأرض الحبيبة، التي سارت عليها أقدامنا الصغيرة ونحن أطفالا.. لكن رحلة القافلة تمعن في البعد عن الديار .. تمضي بعيدا بعيدا.. يتتمسح الجلد وظاهر الهيئة.. يصيران قاسيين كالصخر.. لكن الروح تذوب في الحنين كما كان “مربع” السكر يذوب في أفواهنا ونحن صغارا.
كُثر من أطفال القبيلة ولدوا ونحن نلتحف الغياب.. كبر الأطفال.. صاروا رجالا ونساء ونحن نمضي في التحاف الغياب.. تتغير أشكال الأهل، ويكبر الاخوة والأخوات، وتدخل الأم عمر الشيخوخة، وهي تحلم أن ترى ابنها المفارق أهله غصبا بين ناسه وذويه، لكن الحلم يظل ممعنا في البعد كأنه السراب.
يسألني ولدي الصغير من أي البلاد أنا يا أبي؟ أجيبه أنت من تونس يا حبيبي. يمضي يسألني لم لا تذهب معي لنزور تونس، وتحكي لي فيها عن طفولتك ومراتع صباك؟ أحتار فلا أجد جوابا يقنع طفلا صغيرا. قلت له يوما في لحظة ضعف.. كيف لي أن أذهب لأجد نفسي في السجن يا مالك؟ أتريد أن تفقد أباك يا حبيبي؟
تعجب ولدي الصغير وخيمت على وجهه سحابة حزن وحيرة وألم.. لكنه مضى يحك جرحي ويرش عليه ملحا حارقا كالنار. لم يدخلوك السجن يا أبتي؟ أأنت مجرم حتى تقبض عليك الشرطة وتزج بك في المعتقل؟ ما الذي فعلت ليسجنوك؟
احترت كيف لي أن أقنع طفلا بأشياء يصعب فهمها على الكبار؟ كيف لي أن أقنعه بأنني مجرم كبير في عرف من يحكم بلادي؟ كيف لي أن أقنعه بأنني وأمثالي كثيرون متهمون بالعنف والإرهاب وترويع الآمنين؟ وكيف له أن يقتنع بذلك وهو يستمع إليّ أوصيه كل يوم أن أن يكون رفيقا رحيما بكل شيء.
جاء يسألني يوما ماذا أفعل بنملة صغيرة قرستني يا أبي؟ تعجب حين قلت له سامحها يا ولدي.. إنها جائعة وقد أخطأت معك ولعلها ظنتك بعضا من الطعام المتاح لها.. كيف لي اليوم أن أقنعه بأنني عنيف وإرهابي لا تعرف الرحمة طريقا إلى قلبه، وهو يعلم أنني أربيه على حب كل شيء من حوله والرأفة بكل شيء في عالمه، حتى الحشرات فضلا عن بني البشر؟
وتساءلت والحيرة تسلخ روحي كيف لي أن أقنعه أن يحب البلد التي أحبها أباه، وهو يرى والده ضحية من ضحاياها؟ كيف له أن يفرق وهو في السابعة من عمره بين بلده ونظام حكمها؟ كيف له أن يألفها ويشتاق إليها وقد تربى خارجها، ولم يزرها إلا مرة واحدة، دون أن يكون أباه معه؟ وهل ينتهي بي العمر إلى خسارة كل شيء.. حتى أبنائي يتربون بعيدا عن أهلهم.. في بلاد غير بلادهم وأرض غير أرض أجدادهم.
حين كنت شابا أيام الجامعة كنت أحمل بين أضلعي حلما عظيما لبلدي وللعالم.. كانت تونس قلب الدنيا ومركز الوجود في نظري. وحين نضجت أدركت حجمها الحقيقي على خارطة الجغرافيا الدولية، لكن حبها ظل يملأ قلبي وتفيض منه على سائر كياني.. لكن كيف لي أن أزرع ذلك الحب في أولادي؟ كيف لي أن أنتزع من ولدي حيرته إلى أي بلاد الله ينتسب، وهو يرى كل أقرانه فخورا بالبلاد التي شب فيها، وشرب من مائها، واستظل بظل شجرها، وتنشق هواءها، وقطف من ثمرها تينا أو عنبا أو لوزا أو أي شيء سواه، فانتمى إليها فخورا بها؟
الأوطان ليست كلمات.. هي التراب والماء والهواء وثمار الأرض وزرقة السماء ولفحة البرد وحر الشمس.. هي العيش على أرض، تنتمي إليها وتنتسب إليك.. وحمل حلم أهلها بين الضلوع.. أما وطن مادته بعض المواعظ الأبوية والكلمات، فيولد في النفس ميتا، ولا أريد لأولادي أن يكبروا بدون حلم.. ودون همّ.. ودون قضية. لأن حياة كهذه هي في نظري إلى الموت أقرب.
يجادلني أصدقائي بأن المسلم كالغيث أينما حل نفع. لكني أحلم أن أنفع أهلي أولا.. وهذا مصدر ضعفي ومبعث قلقي وشقائي. فوطني يسكنني حتى وإن طوفت بعيدا عنه.. وأريد لأطفالي أن يكملوا رسالتي من بعدي.. وكيف لي أن أقنعهم بحب بلد يحيون بعيدا عنه.. وطنا يُعتبر فيه والدهم مجرما خطيرا وإرهابيا مطلوبا للعدالة، وأي عدالة.

أخي وصديقي العزيز أنور الغربي.. لقد فجّرتَ في نفسي كل آلامي وحنيني وأشواق روحي.. فقد تذكرت اليوم، وأنا أقرأ نعيك لوالدك يرحمه الله ويسكنه فراديس جنانه، أيام نضالنا في الجامعة.. أيام الاتحاد العام التونسي للطلبة.. أيام أحلامنا الكبيرة التي لم يكن الوجود كله يسعها. وتذكرت الرحلة الباريسية وقصة العبور بين البحيرة والأرض الخضراء.. تلك الرحلة التي حملناك فيها، متطوعا راضيا مرحبا، مشقة لا يحتملها إلا الرجال.. وغابت عني أخبارك سنينا طويلة.. وسررت حين علمت قبل أشهر أنك، كعهدي بك، ضالعا في النضال، وإن أمكن لك، يا هنيئا لك، أن تنقل ساحته بعيدا إلى فلسطين الحبيبة.. وهناك تتجلى مجددا قائدا كما عهدتك يخدم أهله في فلسطين بوقته وماله وجهده.. دون منّ ولا أذى.
حرك قلمك أوجاعي.. أبكاني نعيك لرجل بسيط صابر ثابت كجبال بلادنا الحبيبة.. رجل رفض لك أن تعود ذليلا إلى وطنك.. تحمل في شيخوخته بعدك.. وأضناه على ضعف الشيبة فراقك.. لكنه أصر أن لا تعود إلا كريما..
أخي أنور والدك يرحمه الله ويجزل الثواب له رجل.. عاش رجلا ولقي الله رجلا.. وهو على يقين أنه قد أنجب رجالا.. أنت واحدا منهم.. رجل أمي بسيط عاش وفي جنبيه حلم التغيير والنهضة.. ودفع ضريبة حلمه وحلم أولاده.. قاوم المستعمر.. لكنه وجد عصر الاستقلال أشد هولا وفتكا ورعبا.. عاش صابرا ومات صابرا.. ولمثل هؤلاء الرجال والنساء، لا أخلى الله بلدا منهم، تشرق الشمس كل صباح.. لأجلهم تُنزل السماء الغيث وتتفتح الزهور.. ولأجلهم تغرد البلابل .. ولأجلهم تستمر الحياة.

(*) صحفي تونسي مهجّر