الوضع الإقتصاديّ المتردّي لتونس كان محور الوعود الانتخابيّة وحجر الأساس في الحملات التي سبقت الاستحقاق الانتخابي التشريعي والرئاسيّ. هذه الورقة التي استغلّها الجميع دون استثناء ما لبثت أن احترقت أمام سيل الأخبار حول الإرهاب وتشكيل الحكومة وغيرها من الأحداث التي أنست السياسيّين أو بالأحرى كانت فرصة ذهبيّة لهم للهروب من أصعب الملفات المطروحة وأكثرها استعجالا.
في هذا المقال، لن نتناول ما حقّقته الحكومة الجديدة من انجازات اقتصاديّة، فمازال الوقت مبكّرا لتقييم أدائها على المستوى الإقتصاديّ نظرا لقصر المدّة التي قضتها في سدّة الحكم، بل سنحاول إنعاش ذاكرة من تناسى الوضع الحالك للاقتصاد الوطني عبر استعراض آخر ما بلغته أهمّ عشر مؤشّرات اقتصاديّة في بداية سنة 2015.
النموّ
شهد مؤشّر النموّ الإقتصادي لتونس تباطؤا ملحوظا خلال سنة 2014، فبعكس الوعود السياسيّة التي توقّعت أن تبلغ البلاد نسبة 4.5% في نهاية السنة الماضية، لم يتجاوز هذا المؤشّر معدّل 2.3% حسب التقرير الصادر عن البنك المركزيّ نهاية شهر مارس 2015. وبهذا يحافظ النمو الإقتصادي التونسي على نسقه البطيء منذ سنة 2011، حيث لم يتطوّر هذا الأخير خلال سنة 2014 سوى ب0.1%، مُسجلا تراجعا بالنسبة لنسة 2012 حيث كان يبلغ 3.7%.
المديونيّة
المعضلة الأكبر للاقتصاد التونسي تتفاقم يوما بعد يوم، إذ أنّ الحكومة الجديدة ما زالت تسير على نهج من سبقوها في سياسة التداين لتسكين المشاكل الإقتصادية وتوفير نفقات التصرّف. وقد بلغت ديون تونس الخارجيّة خلال شهر مارس من سنة 2014 ما يقارب 25 مليار دينار مستنزفة بذلك 40% من الناتج المحليّ الخام. أمّا ميزانيّة 2015 فقد كشفت تطوّر الديون الخارجيّة بنسبة 2.2% خصوصا مع التصريحات المتتالية للمسؤولين الحكوميّين عن انعدام الحلول لمواجهة تفاقم مشكلة المديونيّة وأنّ الدولة ستكون مضطرّة لاقتراض ملياري دولار خلال السنة الجارية لتوفير نفقات التسيير والتصرّف والإيفاء بتسديد خدمات الديون التي ارتفعت لتبلغ 4600 مليون دينار.
البطالة
معدّلات البطالة التي كانت قادحا أساسيا للثورة، خصوصا بطالة أصحاب الشهائد العليا، بقيت المرتفعة. حيث لم يتغيّر واقع سوق الشغل كثيرا، إذ وحسب النشرية الصادرة عن البنك المركزي خلال الثلاثيّة الأولى من سنة 2015، بلغت نسبة البطالة في تونس 15.2%. لكن هذه النسبة تظلّ عامة ولا تعكس بدقّة واقع التشغيل في تونس، حيث يتجاوز معدّل البطالة في المناطق الغربيّة للبلاد 25%. أمّا بالنسبة لخرّيجي الجامعات فتتراوح النسبة بين 31% و57% خلال سنة 2014 في محافظة سيدي بوزيد.
العامل الجنسيّ يلعب دورا في تفاوت هذه النسبة بين الذكور والإناث، فبينما لم تتجاوز نسبة البطالة لدى الرجال من حاملي الشهادات العليا 21.7%، فإنها تصل إلى 41.9% لدى النساء خلال سنة 2014.
سعر صرف الدينار مقابل الأورو والدولار
يعتبر سوق الصرف انعكاسا لحالة التوازنات الماليّة ومؤشّرا هاما لمدى متانة أو هشاشة الوضع الإقتصاديّ، وقد تراجع سعر صرف الدينار التونسيّ ليبلغ مستويات لم يعرفها قطّ حيث وقع تداول الدينار بسعر بلغ 2.09 بالنسبة للأورو و 1.95 بالنسبة للدولار في شهر مارس من سنة 2015.
تدهور سعر الصرف للدينار التونسي بدأ منذ شهر ماي سنة 2013، حيث بلغ سعر الدينار التونسيّ 1.52 أمام الدولار و2.02 أمام الأورو، ممّا دفع بالبنك المركزي إلى التدخّل بشكل منظّم لضخّ السيولة في سوق الصرف و تعديل أسعار الصرف و وقف تدهور سعر العملة المحليّة. و قد بلغت قيمة الأموال التّي ضخّها البنك المركزي ما يقارب 1000 مليون دينار.
التضخّم
تراجعت المقدرة الشرائيّة للمواطن التونسي بشكل حاد خلال سنة 2014 نتيجة موجة الغلاء وارتفاع مؤشّر التضخّم الذّي بلغ معدّلات عالية مسجّلا نسبة 5.6% خلال الأشهر الأولى من سنة 2015. وقد أصدر المعهد الوطني للإحصاء أواخر شهر فيفري من السنة الماضية تقريرا استعرض خلاله مؤشّرات الأسعار والتحوّلات التي عرفتها السوق الإستهلاكيّة في مختلف الموّاد الغذائيّة والمحروقات والمنتجات المصنّعة. وتجدر الإشارة أن معدّل التضخّم قد حافظ على استقراره خلال نفس الفترة من سنة 2014 والسنة الحاليّة.
وأشار التقرير المذكور إلى ارتفاع أسعار اللحوم بنسبة 9,7 % والزيوت الغذائية بنسبة 10,6 % والغلال و الفواكه الجافة بنسبة 8,6% والخضر بنسبة 7% الملح والتوابل بنسبة 8,2 %، كذلك ارتفعت أسعار المشروبات بنسبة 4.9 % بالمقارنة مع شهر فيفري من السنة الماضية.
أمّا بالنسبة للمنتجات المصنّعة، فقد ارتفعت مجموعة اللباس و الأحذية بنسبة 7,1%، كما شهد مؤشر مجموعة السكن و الطاقة المنزلية ارتفاعا بنسبة 5,8% مقارنة بنفس الشهر من سنة 2014.
هذا وتم تسجيل زيادة في أسعار الكهرباء و الغاز والوقود بنسبة 10,3 %، كذلك شهدت أسعار ماء الشرب و التطهير ارتفاعا هامّا بنسبة 7,5 % نتيجة التعديل الذّي تم في السنة الماضية في أسعار التطهير العمومي.
الفقر
في أواخر سنة 2014، أصدر البنك الافريقي للتنمية دراسة كشف خلالها آخر النسب المسجّلة على مستوى الفقر والتشغيل، حيث أعلن أنّ نسبة الفقر في تونس تسير نحو التراجع خلال العقدين الأخيرين، حيث انخفض هذا المؤشّر من 20% سنة 2005 إلى 15,5% سنة 2010، مرجّحا أن تتواصل النسبة في الانخفاض لتصل إلى 11,5% خلال السنوات الخمس القادمة. ولكنّ وزارة الشؤون الاجتماعية أشارت في تقريرها إلى أنّ نسبة الفقر في تونس تجاوزت في سنة 2014 نسبة 24% منتقدة معايير احتساب معدلات الفقر من قبل المعهد الوطني والتي تغفل الأخذ بعين الإعتبار ارتفاع التضخّم وانهيار سعر صرف الدينار وزيادات الأسعار المتواصلة وارتفاع نفقات العلاج والسكن والدراسة والضرائب وغيرها من المصاريف اليوميّة للمواطن التونسيّ. وتتضاعف نسبة الفقر عن المعدّل الوطني خصوصا في المناطق الداخليّة من البلاد.
السياحة
يعتبر القطاع السياحي ايقونة الإقتصاد التونسيّ نظرا لحجم مساهمته في الدورة الإقتصاديّة ونصيبه من الناتج المحلي الخام والتشغيل. فالسياحة في تونس تعتبر المصدر الثانيّ الرئيسيّ للبلاد من العملات الأجنبيّة بعد الصناعات التصديريّة بقيمة بلغت سنة 2013، 2،8 مليار دينار، وهو ما يوفّر السيولة اللازمة لاستيراد السلع والخدمات ورفع الاحتياطيّ الوطني من العملة الأجنبيّة. ولكنّ هذا القطاع الاستراتيجيّ ما يزال يتخبّط في الارتجاليّة خصوصا بعد أن تجاهلت مختلف الحكومات الانتقاليّة بعد الثورة ضرورة القيام بإصلاحات هيكليّة تتعلّق بالنمط السياحيّ المعتمد في البلاد. وقد كشفت بيانات وزارة السياحة عن تراجع المداخيل السياحيّة خلال الشهرين الأوّلين من سنة 2015 بنسبة 2.1% مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية.
الصناعة
تلعب الصناعة دورا حيويّا في الحياة الإقتصاديّة في البلاد من حيث طاقتها التشغيليّة و مردوديّتها الماديّة، وتبلغ مساهمتها في الناتج القومي الخام 28,6% و34% من نسبة التشغيل من السكان الناشطين حسب النشرية الصادرة عن وزارة الصناعة لسنة 2015. وقد بلغ عدد المؤسسات الصناعيّة 602.222 وحدة إنتاج في سنة 2014، حيث تمثل المؤسسات الصغرى والمتوسطة 95.6٪ من القطاع المهيأ، بينما تمثل المؤسسات الكبرى 4.4٪ (806 وحدة إنتاج).
لكنّ الدراسة الصادرة عن وكالة النهوض بالصناعة والتجديد في شهر فيفري من سنة 2015 أكدت تراجع معدّل الاستثمارات في مختلف القطاعات خلال شهري جانفي وفيفري من هذه السنة ب25.3% مقارنة بنفس الفترة من سنة 2014.
الفلاحة
رغم أنّ الميزان التجاريّ الغذائي خلال الربع الأوّل لسنة 2015 قد حقّق فائضا بلغ 136 مليون دينار بحسب بلاغ وزارة الفلاحة، ولكنّ هذا التحسّن لا يعود إلى انتعاش القطاع الفلاحيّ بصفة عامّة، بل إلى ارتفاع صادرات زيت الزيتون وهو ما مكّن من تحقيق هذه النتيجة الإيجابيّة رغم نّ نسبة العجز ما تزال فوق 25%. وفي نفس الوقت ما يزال هذا القطاع يرزح تحت عدّة مشاكل أهمّها ديون صغار الفلاحين التي تجاوزت 200 مليون دينار سنة 2014 بالإضافة إلى مشاكل التوزيع والارتفاع أسعار الأسمدة والمحروقات والتي تمثّل النصيب الأكبر من كلفة الإنتاج وارتفاع نسبة الأميّة الفلاحيّة.
الميزان التجاري
ما يزال الميزان التجاريّ يحقّق عجزا متواصلا، حيث كانت حصيلة المبادلات التجاريّة في الثلاثيّة الأولى من سنة 2015 سلبيّة بقيمة 845 مليون دينار وبنسبة تغطيّة لم تتجاوز 70% وهي نتيجة تماهي مثيلتها خلال نفس المدّة من سنة 2014.
يعود العجز المسجّل في الميزان التجاري إلى طبيعة الصادرات التونسيّة التي تعتمد خصوصا على المواد الغذائية والصناعات التحويليّة التّي لا تقارن من حيث القيمة المضافة بما تستورده البلاد من مواد مرتفعة القيمة وهو ما ينجر عنه هذا الاختلال الواضح في النتائج التي تسجّلها التجارة الخارجيّة. هذا بالإضافة إلى ارتفاع سعر صرف الدولار وانهيار قيمة الدينار التونسي بنسبة 17% خلال الأشهر الستّة الأخيرة.
عمل مميز ياريت كان ممكن تمدنا باكر احصائيا حديثة هول الموضوع