أثار مشروع القانون الجديد لمكافحة الإرهاب استياء العديد من أطياف المجتمع المدنيّ وعلى رأسهم منظّمة “هيومن رايتس واتش” والنقابة الوطنيّة للصحفيّين التونسيّين. كما تحرّكت بعض الوجوه السياسيّة لتبرز معارضتها لهذا القانون الذّي يهدّد المسار الديمقراطيّ ككلّ على غرار المرشّحة السابقة للانتخابات الرئاسيّة كلثوم كنّو.
في خضّم هذه الأصوات بدا المجلس الوطني للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان غائبا عن المشهد. فهذه المنظّمة التي تصدّرت المعارك الحقوقيّة قبل 14 جانفي تجد نفسها اليوم خارج سياق الحراك الاجتماعي المتسارع وكأنّها تدفع ثمن الحسابات السياسيّة وتموقعها الذّي غلب عليه الشأن السياسيّ على حساب المسألة الحقوقيّة والإجتماعيّة.
الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان: التواصل الصعب
عمليّة التواصل مع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في تونس كانت أشبه بالمهمّة المستحيلة. إذ أنّ الفرع التونسيّ الأقدم في أفريقيا والعالم العربيّ يفتقر لموقع الكترونيّ محيّن، أمّا ذاك الذّي وصلنا إليه عبر المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب فقد تعطّل منذ مدّة و هو بصدد الصيانة والتحديث.
انتقلنا في رحلتنا هذه إلى حساب الرابطة على تويتر الذي أحالنا بدوره إلى موقع آخر معروض للبيع، أمّا صفحة الفيسبوك فتعود آخر منشوراتها إلى سبتمبر 2011. وبعد التقصّي، علمنا أنّ هذه الصفحة قد تعرّضت إلى القرصنة ممّا دفع بالمشرفين إلى إنشاء صفحة أخرى بدت لنا سليمة.
الخطوة التالية التي التجأنا إليها كانت عبر الولوج إلى موقع الجامعة الدولية لحقوق الإنسان التّي احتوت على عنوان البريد الإلكتروني للفرع التونسيّ: contact@ltdh.tn ورقم الهاتف 71258000، ولكنّ الاتصالات المتكرّرة سواءا عبر هذا الرقم أو عبر البريد الالكترونيّ لم تسفر عن أيّ ردّ.
مواصلة البحث قادتنا إلى موقع الشبكة الأورو- متوسطية لحقوق الإنسان الذّي تضمّن عنوانا للبريد الإلكتروني ورقم هاتف مختلفين عن ما وجدناه سابقا في موقع الجامعة الدوليّة، هما رقم وبريد رئيس الرابطة السيد عبد الستّار بن موسى.
ومتاعب رحلة البحث عن عنوان أخير للرابطة تواصلت عندما اكتشفا تضارب العناوين بين موقع الجامعة الدولية وموقع الشبكة الأورو-متوسطية. فإذا كان الموقع الأول يتضمّن عنوانا بريديا في شارع الحبيب بورقيبة في تونس العاصمة، فإنّ الثاني يحيلنا إلى عنوان في شارع بودلير في العمران.
إذن لم يتبّقى لنا من حلّ أخير غير اللجوء لمن له معرفة شخصيّة بأحد أعضاء اللجنة الوطنيّة أو بالمكاتب الجهويّة. قد تبدو هذه الطريقة سهلة بالنسبة للصحفيّين للحصول على مثل هذه المعلومات، ولكنّها مسألة عسيرة بالنسبة للمواطنين العاديّين الراغبين في الاتصال بالرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان.
صعوبة التواصل مع الرابطة التي تعكس أزمة حقيقيّة تعيشها هذه الأخيرة على المستوى الإداريّ والعمليّ كانت محور حديثنا مع عضو أحد المكاتب الجهويّة الذّي أقرّ بضبابيّة الوضع الذّي تعيشه هذه المنظّمة العريقة حيث اسرّ لنا قائلا:
على مستوى المكاتب الجهويّة، لا يمكن الحديث عن أزمة نشاطات، فنحن نعمل بشكل طبيعيّ، حيث يتم تنظيم الندوات ومتابعة الملفّات التي تردنا وتكليف محامين لحماية حقوق المواطنين. ودعني أسوق لك مثالا من صفاقس التي شهدت مؤخرا انعقاد ندوة عن منظمات حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب. ولكن وإن كان المجلس الوطني من خلال الرئيس السيد بن موسى قد أصدر بيانا بخصوص هذه الندوة، إلاّ أنّنا كنا نودّ أن نرى المجلس الوطني أكثر حضورا في المناقشات حول قانون مكافحة الإرهاب.
في نفس السياق يضيف أحد أعضاء المكاتب الجهويّة في شمال البلاد:
أصدرنا بيانا بعد هجمات باردو، كما وقّعنا بيانا مشتركا مع العديد من الجمعيات الأخرى في الجهة ، هذا بالإضافة إلى عزمنا على نشر موقفنا الخاصّ خلال الأيّام القادمة. ولكنّ الأمر المؤسف هو أن المسؤولين المنتخبين لم يفكّروا مطلقا في مناقشة هذا الموضوع معنا. كما أنّ اللجنة الوطنيّة لم تقم بأيّ مجهود لدعمنا وإيصال صوتنا على نطاق أوسع.
عندما يتم التضحيّة بحقوق الإنسان في سبيل الحسابات السياسيّة
منذ تأسيسها، لم تتوقف الرابطة التونسيّة عن الدفاع عن حقوق الإنسان ببعدها الشامل على غرار تحرير المرأة والمساواة بين الجنسين وحرية المعتقد ومكافحة كل أشكال قمع الحريات. وقد كانت هذه المنظّمة مستقلة وذات مصداقية وتتمتع بتأييد شعبيّ.
وقد تمكّنت خلال عقود متتالية من مواجهة غضب بورقيبة وزين العابدين بن علي والاستمرار في الدفاع عن القضايا الحقوقيّة. فإذا كان الأول قد عمد إلى إنشاء هيكل مماثل لشلّ الرابطة، فإنّ الثاني فقد اتبّع أسلوب التهديدات والإجراءات القضائية للقضاء على أنشطتها. ولم تتمكّن الرابطة من نيل اعتراف فعلي بنشاطها واسترداد حقوقها كاملة إلاّ بعد 14 جانفي 2011، لتواصل عملها في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان بكلّ حريّة.
معتمدة على ثقلها الشعبي وبشكل فاجأ الكثيرين، تخلّت الرابطة عن طابعها الحقوقيّ والجمعياتيّ لتبدأ مرحلة جديدة من العمل السياسيّ. إذ أثناء الأزمة السياسيّة التي شهدتها البلاد عقب اغتيال محدم البراهمي في جويليّة 2013، انضمت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان للاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والهيئة الوطنيّة للمحامين لتشكيل اللجنة الرباعية التّي رسمت خارطة طريق للخروج من الأزمة من خلال الحوار الوطني الذّي حضي بدعم 21 حزبا سياسيا من أصل 24 وأدى في نهاية المطاف إلى تشكيل حكومة تكنوقراط أو ما اصطلح على تسميته بحكومة الإنقاذ.
هذا الانغماس في المجال السياسي كان وراء تجاهل الرابطة للعديد من الانتهاكات ضد حقوق الإنسان خلال تلك الفترة كوضعيّة جابر الماجري ووفاة محمد علي اللواتي وعلي السويسي تحت التعذيب وغيرها من الحالات التي مرّت مرور الكرام ولم تبد الرابطة تجاهها موقفا واضحا.
وإن كانت هذه الأخيرة قد اتخّذت موقفا بشأن هذه القضايا، فردّة فعلها لم تتجاوز البيانات. إذ يبدو أنّ التحرك الفعليّ والملموس تجاه القضايا الحقوقيّة من قبل المنظّمة قد ولّى.
الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والقانون الجديد لمكافحة الإرهاب
الكثير من الأسئلة تخامر المتابعين للشأن الحقوقيّ في تونس من قبيل؛ “لماذا لم تتخذ الرابطة موقفا رسميا حيال هذا الموضوع؟ لماذا هذا الصمت والغياب عن النقاشات حول هذا القانون المفصليّ في المسألة الحقوقيّة؟ وأخيرا هل هذا الموقف سلبيّ من قبل الرابطة كان عن طواعيّة؟”
يجيبنا هنا أحد أعضاء المكاتب الجهويّة قائلا:
أعتقد أن الشخص الوحيد الذي يستطيع الإجابة على هذه التساؤلات هو رئيس الرابطة عبد الستّار بن موسى. بصراحة، أنا أيضا أرغب في الحصول على إجابة شافية حول دوافع هذا الغياب وهذه السلبيّة من قبل المجلس الوطني بالخصوص.
وإن عمدت العديد من الجمعيات مثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والشبكة الأورو-متوسطية لحقوق الإنسان وجمعية يقظة إلى توقيع بيان مشترك يدعو إلى أن يحترم قانون مكافحة الإرهاب الحريّات العامّة. إلاّ أنّ الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان نأت بنفسها ولم تصدر عنها حتّى هذه اللحظة إيه ردّة فعل.
وقد دفعنا هذا الموقف السلبيّ للرابطة تجاه الثغرات التي تضمّنها القانون الجديد لمكافحة الإرهاب والتي تشكّل تهديدا حقيقيّا للحريّات وحقوق المواطنين إلى الاتصال بالسيّد السيد عبد الستار بن موسى الذّي أجابنا قائلا:
للأسف، لم نجد متّسعا من الوقت للتعليق على هذا الموضوع. فنظرا لكثافة التحركات الاجتماعية التي نسعى لمتابعتها وإيجاد حلول لها، لم نرغب في إبداء موقف معيّن وحاسم تجاه قانون الإرهاب دون دراسة معمّقة للموضوع.
إجابة تجاهلت أنّ هذا القانون الجديد يضعف الضمانات القضائية للأشخاص المتهمين بارتكاب أعمال إرهابية كما يعطي الإذن بتمديد عملية الإيقاف ويجيز عقوبة الإعدام في بعض الحالات. ليضيف محدّثنا معلقا:
نحن على علم بأنّ بعض الأحكام غير دستورية والبعض الآخر يناقض روح المجلة الجزائية. واستعرض هنا على سبيل المثال لا الحصر عقوبة الإعدام وغياب العدالة في إصدار الأحكام إضافة إلى تمديد الحبس الاحتياطي … بل إنّ المبدأ القائم على براءة المتهّم حتى تثبت إدانته قد تمّت إزالته. وأؤكّد هنا أنّنا سوف نناضل من أجل تصحيح هذه الإنتهاكات.
هذا وأعلمنا السيّد بن موسى خلال حديثنا معه أن الرابطة أعدت دراسة شاملة عن القانون الجديد لمكافحة الإرهاب سيتم تقديمها من قبل الرابطة في غضون أسبوع في مجلس النوّاب وستتضمّن العديد من الملاحظات التي سبق ذكرها، وأكد هذا الأخير قائلا:
لن يكون من الممكن وضع حدّ للإرهاب عبر الاكتفاء بالتشريعات والقوانين. الجانب الأمني مهم بالتأكيد ولكن لا يمكن التغلب على هذه المشكلة دون رؤية شاملة ومعالجة جذريّة لأسباب الإرهاب. وهو ما تضمّنته الدراسة التي حدّثتكم عنها، حيث قدّمنا مقترحات حول الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والدينية التي نراها ضروريّة للقضاء على هذه الآفة وقطع الطريق أمام ظهور أجيال جديدة من الإرهابيين.
إذا، وفق ما جاء على لسان السيد عبد الستّار بن موسى، فقد فضل المجلس الوطني التريّث والبحث عن حلول شاملة لهذه المعضلة، ولكنّ عضوا في أحد المكاتب الجهويّة للرابطة علّق حول الموضوع قائلا:
ربّما كان من الأفضل أن نتحرّك في وقت أبكر من هذا وأن نكون شركاء حقيقيّين في صياغة هذا القانون. فلا معنى لقانون مكافحة الإرهاب إن لم يضمن حقوق المواطنين وحريّاتهم. أوّد هنا أن أذكر بأنّ هذا هو الدور الحقيقيّ للرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، بمنظورها الشامل. كما يجدر التذكير باقتراب موعد الانتخابات في الفروع الجهويّة، وانتخابات المجلس الوطنيّ للرابطة، وهو ما يفسر على الأرجح هذا الغياب الإعلاميّ في تعاطي الرابطة مع هذا الموضوع.
من الواضح إذن أن انغماس الرابطة التونسية للحقوق الإنسان في الشأن السياسيّ أثناء الحوار الوطني قد غيّر مسارها الحقيقيّ وأبعدها عن معاركها الأساسية، فطغيان المعطى السياسيّ على حساب دورها الحقوقيّ والاجتماعي يمثّل تهديدا حقيقيّا على الديمقراطيّة التونسيّة الغضّة.
من الواضح إذن أن انغماس الرابطة التونسية للحقوق الإنسان في الشأن السياسيّ أثناء الحوار الوطني قد غيّر مسارها الحقيقيّ وأبعدها عن “معاركها الأساسية، فطغيان المعطى السياسيّ على حساب دورها الحقوقيّ والاجتماعي يمثّل تهديدا حقيقيّا على الديمقراطيّة التونسيّة الغضّة.
c’est bien dit