دعوة للتحقيق معي زياد الهاني في إدارة القضايا الإجرامية التابعة للشرطة العدلية

الحمد لله وحده

تونس في 25 جويلية 2010

جناب السيد وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس المحترم

دام حفظه

يحيي التونسيون اليوم الذكرى الثالثة والخمسين لإعلان الجمهورية في 25 جويلية 1957. ومن عجيب المفارقات أنه تمّـت في غمرة الاحتفاء الباهت بهذه الذكرى التاريخية التي كان يفترض أن تمثّـل عيد أعياد تونس وتاجها، دعوتي للتحقيق معي في إدارة القضايا الإجرامية التابعة للشرطة العدلية حول مقال رأي كتبته مساندة للزميل الصحفي الفاهم بوكدوس الذي تم التنكيل به والزج به في السجن على خلفية تغطيته الإعلامية لأحداث الحوض المنجمي المجيدة في قناة “الحوار التونسي” الفضائية.

تصوّروا سيدي وكيل الجمهورية صحفيّـا يحال كمجرم على إدارة القضايا الإجرامية للتحقيق معه في مقال رأي كتبه، في عيد الجمهورية؟ أهذه هي الجمهورية التي وضع أسسها آباؤنا؟ أهذه هي دولة الاستقلال والتحرر التي ناضل التونسيون وضحّـوا من أجلها بكل غال ونفيس؟

مع كل التوقير لمنزلتكم السامية كوكيل للجمهورية، أي كوكيل لي ولعموم المواطنين، أعتقد أنكم ارتكبتم خطأ فادحا ما كان له أن يصدر عن موقعكم الذي يشترط في ماسكه الحكمة والدراية وحسن تقدير الأمور.

فأنا لست مجرما يا جناب الوكيل حتى تحيلني على إدارة القضايا الإجرامية، وتقوم بذلك في عيد الجمهورية. ومن المعيب في حق الجمهورية وفي حق المركز السامي الذي تحتله أن تعامل أصحاب الرأي على أنهم مجرمين، حتى وإن كان قرار تتبعهم صادرا عن أصحاب القرار وليس بسعي منك شخصيا. بل من المخجل أن تسعوا لتتبع الكلمة الحرة وملاحقتها قضائيا مهما كانت موجعة، لأن ذلك من فعل السلطات المستبدة وحدها ومن شاكلها من سلط الاحتلال. وشرف الدولة ومؤسساتها أرفع من أن تحتاج إلى محاكم تفتيش للذود عنها. فمثل هذه التصرفات الجاهلة وغير المسؤولة أساءت إلى صورة بلادنا في العالم ومسّـت مصالحها. بل هي ليست أكثر من ستار مفضوح للتغطية على الفساد والمفسدين.

لكن عندما نرى كيف أصبح ناهبو المال العام من أفراد العائلات المتنفذة بعد 1992 أصحاب مراكز نفوذ وقرار في الدولة، يصير من “الطبيعي” أن يتحول الصحفيون من طينتي أنا والفاهم بوكدوس والمولدي الزوابي إلى مجرمي حق عام؟ ألا أنهم ومن يسندهم هم المجرمون. أما نحن فعشاق هذا الوطن الغالي نحمله في قلوبنا وتفديه أرواحنا.

سيدي وكيل الجمهورية

حين اتصلت بالاستدعاء للحضور بناء على تكليفكم لدى إدارة القضايا الإجرامية بالإدارة العامة للأمن الوطني، استجبت لما جاء فيه رغم عدم قانونيته، ورغم أن تلك الاستجابة كانت على حساب التزامات نقابية أخرى متأكدة بصفتي عضوا في الهيئة المديرة للاتحاد الإفريقي للصحفيين. وحتى عندما رفض المحققون تسجيل موقفي من عدم قانونية الاستدعاء في محضر الاستنطاق لم أمارس حقي القانوني في الامتناع عن التعاطي معهم وعدم الرد على أسئلتهم، لسبب بسيط هو أني أتحمل بشكل كامل مسؤولية كل حرف أكتبه، ولا ألتفت من أجل ذلك للشكليات القانونية رغم أهميتها. فكيف لا أدافع عن حرف كتبته بنبض قلبي ومداد حبره حبي لبلادي وغيرتي عليها؟

لقد تركز الاستنطاق على علامة استفهام (؟) وعلى جملة مقتطعة من النص الذي نشرته تحت عنوان “الزج بالفاهم بوكدوس في السجن: يوم حزين في تاريخ الصحافة التونسية”، في مدونتي الشخصية “صحفي تونسي” وبصفحتي على الموقع الاجتماعي “فايسبوك”. علما بأن الموقعين محجوبان بصورة غير قانونية في تونس. فهل يجوز يا سيادة الوكيل ورجل القانون أن يتم تتبعي من أجل نص لا يمكن الإطلاع عليه في تونس بسبب حجب حامله الاكتروني؟ أم أن ولايتكم القضائية أصبحت غير مقيدة بالحدود الوطنية، وقابلة لأن تطال ما يمكن أم يتوجه به المرء لقرائه في المريخ؟

كما لاحظت أن ملف إحالتكم الموجود في عهدة المحققين لم يشمل النص الكامل للمقال الذي كتبته موضوع الإحالة، بل فقط الجملة المطلوب استجوابي حولها ومعها علامة الاستفهام والعبارة المرتبطة بها؟ فلماذا منعتم عن المحققين فرصة الإطلاع على النص كاملا عساهم يستخرجون منه مادة إدانة أكثر صلابة، إذا وقفوا على أن موضوع الإحالة ضعيف ومختل بشكل يجعله لا يفي بالغرض المطلوب من ورائه؟

طلب مني المحققون التأكيد إذا كنت أنا من كتب في النص المجرّم “ويسخّـر القضاة التابعون لتبرئتهم” وإذا ما كنت وضعت علامة استفهام بعد عبارة “المجلس الموقّر”؟ مع إشارتهم إلى أن ما كتبته يعتبر ثلبا لدوائر قضائية واستهزاء بهيئة رسمية ستكون له تبعات جزائية. ورغم الطابع المضحك لهذه التهمة التي تؤكد حاجة من صاغها إلى تأهيل قانوني، كان جوابي كالتالي: أنا من كتب النص وأتحمل مسؤوليته كاملة. وإذا كان هنالك من يرى فيه ثلبا فذلك شأنه. أما بالنسبة لي فما كتبته هو مجرد رأي ليس عندي أي استعداد لمناقشته في محلات الأمن ولا حتى في المحاكم لرفضي المبدئي لفكرة محاكم التفتيش، كلّـفني ذلك ما كلّـفني. وهذا هو النص الكامل للفقرة المجتـزأة:

“الفاهم بوكدّوس ليس مجرما ولم يطلق النار على المتظاهرين ولم يخلع المحلات التجارية للمواطنين ليسطو على ما فيها من مواد. الفاهم بوكدّوس لم يفجّـر انتفاضة الحوض المنجمي التي أشعلتها سياسية الفساد والمحاباة التي كانت تمارس بعلم كامل من السلطات العليا في الدولة وأولها مصالح الأمن.فهو لم يحرق ولم يدمّـر، بل قام بواجبه الطبيعي كصحفي في كشف كل التجاوزات الحاصلة ونقلها للرأي العام الوطني والعالم، وهو ما يجعلني أتشرف بأن أكون زميلا له في المهنة. لذلك فمكانه الطبيعي هو أن يكون وسط عائلته وبين زملائه ليمارس بنفس الروح الوطنية المتحررة واجبه المهني، لا أن يكون في السجن. في وقت يحتل فيه المجرمون الحقيقيّـون مراكز الجاه والنفوذ والسلطة وينهبون في ظل الحصانة الكاملة أموال الدولة، ويسخّـر القضاة التابعون لتبرئتهم من القضايا الإجرامية الدولية التي تورطوا فيها، وتوفّـر لهم كلّ إمكانات الدولة حتى يصبحوا رؤساء بلديات وأعضاء في البرلمان الموقّر؟”

وعند اطلاعي على محضر الاستنطاق قبل توقيعه لاحظت أنه تمت كتابة ” ويسخّـر القضاء” عوض “ويسخّـر القضاة”، وهو ما طالبت بإصلاحه لأن الفرق بين العبارتين أساسي. فالتعريض بالدوائر القضائية أو بالقضاء كمؤسسة يمكن أن يعتبر ثلبا، أما التعرض للقضاة الفاسدين فأمره مختلف. لأن التصدي لمثل هؤلاء القضاة المنحرفين يتنزل في جوهر الدفاع عن حرمة القضاء وهيبته. وحتى لا أترك لبسا في أذهان مخاطبيّ أوضحت لهم بأني أطالب بعزل وإنزال أقسى العقاب في القاضي الذي حكم في قضية اليخت المسروق بتبرئة المتهم عماد الطرابلسي الذي أصبح في ما بعد كبير مناضلي حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم في مدينة حلق الوادي العريقة ورئيسا لبلديتها، دون أن يمثل أمامه على الأقل احتراما لهيبة المحكمة في أعين المتابعبن. وكان الرد الوحيد لمن قاد عملية الاستنطاق: “من فضلك، وما دخلنا نحن في ذلك”؟ وبعد حوالي الثلاث ساعات من الانتظار سمح لي بالمغادرة، مع إعلامي بأن التحقيق مفتوح وبأنه يمكن استدعائي مجددا في أي وقت.

سيدي وكيل الجمهورية

لم تتعرض الإحالة سوى إلى عبارة “يسخّـر القضاة التابعون” وعلامة الاستفهام بعد “البرلمان الموقّر” التي لا يمكن إلاّ لعقل مريض أن يرى فيها تهكما على مؤسسة جمهورية عتيدة بقطع النظر عن تحفظي على أدائها؟ لكن ماذا عن باقي المقال الذي تضمن مواقف أقوى بكثير من موضوع الإحالة؟ هل يعتبر صمتكم على ما ورد فيه إقرارا به؟

على كل هذا هو المقال أعرضه عليكم كاملا مجددا خشية أن لا يكون قد أحيل إليكم أنتم كذلك. مع التأكيد على أن الترهيب بالسجن لا ولن يرهبنا ولن يثنينا عن القيام بواجبنا تجاه بلدنا. فنحن طلع هذه الأرض الطيبة ونتاجها. نحن درعها وسيوفها وحملة بيارق مجدها، نطاول بها عنان السماء جيلا بعد جيل. وإذا كتب علينا أن يكون لنا في سجن مستقر، فأيّ مهنّـد لا يغمـد؟ وهو منزل عزّ لا نبدل به وثير أرائك الخضوع والمذلة. وذلك جريا منّـا على سنن المناضلين الأبرار من قبلنا، وجسر تواصل مع من يلينا من عشاق الوطن.

تحيا تونس..

تحيا الجمهورية، وسننجزها ولو بعد حين..

زياد الهاني

صحفي ومدوّن


ملاحظة: بين أيديكم النسخة الرابعة والستين من مدونة “صحفي تونسي” بعد أن قام الرقيب بحجب نسختها السابقة بصورة غير قانونية في تونس إثر نشر تدوينة بعنوان: الزج بالفاهم بوكدوس في السحن، يوم حزين في تاريخ الصحافة التونسية

http://journaliste-tunisien-64.blogspot.com/2010/07/blog-post_25.html