المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

donald-trump

إتجه إهتمام الرأي العام التونسي المتابع للإنتخابات الأمريكية عقب فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى محاولة إستقراء التأثير السياسي و خاصة الإقتصادي لهذا الفوز على الساحة المحلية والإقليمية بشكل عام. هذا التوجه لإثراء الخطاب السياسي وتحليل تداعيات حدث سياسي هام هو طبعا ممارسة إيجابية لأنها تجلب الإهتمام لم هو غير ذاتي أو محلي. من وجهة نظر هيجلية، يكمن فهمنا لذاتنا السياسية في مقارانتنا بالآخر. غير أن، و هذا أشار له العديدون، إنحسار (لكي لا نقول إنعدام) الثقل السياسي والإقتصادي لتونس على الساحة الاقليمية والعالمية أدى إلى إعتبار هذه الاستقراءات مجرد سفسطة لملء الوقت عند البعض أو صرف الاهتمام التام عند البعض الآخر. قبل الإنصراف التام عن تداعيات فوز ترامب، أرى أنه يجب الإهتمام بجوانب أكثر مركزية في تأثير ما حدث هناك على الخطاب والفعل السياسي هنا. يتجه اهتمامي هنا إلى مسألتين أسياسيتين في مقارنتنا بين الإفرازات السياسة و الثقافية هنا و هناك: سياسة مابعد الواقعية (Post-Truth Politics) والبروليتارية السفلى (Lumpenprolétariat).

سياسة مابعد الواقعية

مسألة المابعد الواقعية أو المابعد الحقيقة أخذت حيزا هاما من النقاش السياسي والثقافي الذي رافق (ومازال يرافق) الإنتخابات الأمريكية (ومن قبلها التصويت على خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي). يمكن تعريف هذا المصطلح بكونه يحيل إلى تراجع أهمية الإحصائيات والدراسات العلمية كمكون أساسي لأي حملة أو برنامج إنتخابي لمرشحة أو مرشح ما. كافة المقالات والدراسات التي ألمت بهذه الظاهرة توصلت إلى توجيه التركيز إلى تأثير وسائل التواصل الإجتماعي على شرائح مختلفة من الناخبين وخاصة الشريحة العمرية بين 18 و 24 سنة. كاثرين فينر في مقال ممتاز حول التأثير السلبي للتكنولوجيا على الحقيقة1 استنتجت بأن استقاء الخبر عبر الأدوات الافتراضية كفايسبوك وتويتر أحال إلى منزلة ثانوية ضرورة تقصي الخبر وتوجيه الرأي العام إلى المعلومة القيمة. نفس الإستنتاج دل عليه مقال أخر لوليام دافيز2 حيث أشار في قراءة غرامشية أن التحول من منظومة الخبر أو المعلومة (Facts) إلى منظومة البيانات (Data) أدى إلى إختلال مكانة الحقيقة داخل الخطاب السياسي وثقافي وهو ما نبأ بتراجع التعويل على ما هو موثوق وصحيح علميا لفائدة الإلتجاء إلى سبر الأراء وكيفية تقويم الناخبين للمرشحات أو المرشحين السياسيين، أو ما يعرف بالتحليل العاطفي (sentiment analysis).

إذن في مرحلة مابعد الحقيقة التي نعيشها الأن يقترن الفعل السياسي أساسا بالعاطفة عوضا عن الحجة. هذا الإستنتاج يحيل العديد منا إلى واقعنا التونسي وحتى العربي. إذ يلاحظ أي متابع للنقاشات السياسية في مختلف وسائل الإعلام أهمية المعطى العاطفي في طريقة تحليل الحدث السياسي. في مقال حول تطرق القنوات التلفزية التونسية للإنتخابات الأمريكية، أشار ثامر المكي إلى إعتماد المحللين السياسيين على العموميات وتقديرات تقريبية لا تعتمد على الحجة أو التحليل السياسي العلمي3. من جهة أخرى، وفي مقال لرئيس تحرير الأهرام بعنوان ”«الفرصة السانحة».. لترامب ومصر“ تم التركيز على صدق المرشح ترامب التي لمسته القيادة المصرية تحت زعامة السيسي كمعطى أساسي لضرورة دعم فتح العلاقات مع الرئيس الأمريكي الجديد وإدارته4. الملفت للإنتباه هو رواج الإلتجاء المفرط للمفردات والمعطيات الحسية والعاطفية في الخطاب السياسي والاجتماعي وحتى الإقتصادي. الرئيس المصري السيسي أو زعيم حزب النهضة الغنوشي على السواء على رغم الإختلاف الواسع في الأيدلوجيات السياسية فكلاهما يستعمل نفس الألفاظ ذي الخلفية الحسية. إفتتاحيات أغلب الصحف التونسية أو العربية أوخطابات معظم القادة العراب تكاد لا تخلو من إصطفافها وراء مفردات عاطفية كالخوف والتمني و الإطمئنان.

على نفس القدر من الأهمية في تحليلنا لمركزية المابعد حقيقة هو الصعود القوي لوسائل “الإعلام” الموازية التي تفتقر لأبسط مقومات العمل الصحفي والتي في الآن نفسه تلقى رواجا شديدا وشعبية كبيرة على الفايسبوك و الأنترنت عموما. حيث كثر الحديث، بعد صدمة إنتخاب ترامب لدى وسائل الإعلام ذي التوجه الليبرالي، عن سر إنتشار المعلومة المفبركة والمزيفة وشعبيتها عن طريق ما يسمى الإعلام اليميني الموازي (The Alt-Right). فمواقع شهيرة مثل بريتبرت نيوز نتورك (Breitbart News Network)  ومدونون ذو تأثير كبير ك-Vox Day نجحوا وبشكل في جعل أفكار رجعية وعنصرية أكثر تقبلا عن طريق الإختفاء وراء الصور المضحكة (memes) أو  مقالات التشهير. هذا مادفع مثلا بميشال غولدبرغ لمقارنتهم بالنازيين المعاصرين (Hipster Nazis).  نفس الشيء نلاحظه على الساحة المحلية والعربية حيث تستقي فئات شعبية عديدة الخبر عبر صفحات فايسبوكية كالحقائق الخفية والمارد الجزائري ومؤخرا صفحة وزير ضغط الدم والسكر. الأمثلة عديدة ولكل بلد عربي عشرات الصفحات والمواقع التي تروج لما هو غير حقيقي على أنه الخبر اليقين والمعلومة الصحيحة. هذا التمعن في مركزية خطاب مابعد الحقيقة يحيلنا إلى طرح السؤال التالي: لمن يتوجه هذا الخطاب؟

البروليتارية السفلى>

إعتمد المركسيون مصطلح Lumpenproletariat (ترجم هنا للبروليتارية السفلى) للإشارة إلى الطبقة الساكنة الحضارية (من الحاضرة أي المدينة) والفقيرة إقتصاديا وثقافيا. تغلب على هذه المجموعة صفة إنعدام الجوهر أو الوعي السياسي أو غيره وفي الآن نفسه لديهم نزوع جدي للإيمان بالأساطير والتقاليد. هذه البروليتارية الحضارية السفلى تجهل ماهي عليه، وكمجموعة سياسة هي غير قادرة على إستيعاب تأثيرها على الحياة السياسية وعلى ما يمكن أن تكون عليه ارادتها ومصيرها.

إستعمل كذلك فرانتز فانون هذا المصطلح للإشارة إلى التأثير السيئ لهذه الفئة كقوة شعواء يمكن أن تقوض السلم و التقدم الإجتماعي إذا تم مخاطبتها في نزوعها الفطري للعادات و التقاليد. أود هنا أن أوسع تعريف هذا المصطلح ليشمل الطبقة الفقيرة إقتصاديا وثقافيا الساكنة للحاضرة أو الريف على السواء. هذا التوسع في التعريف مهم لأن نتائج الإنتخابات الأمريكية كانت غير متوقعة حيث تفاجأ أغلب الملاحظين بكثافة تصويت الناخبين الأمركيين البيض المنتمين للطبقات العمالية الفقيرة و الساكنين للقرى والريف لصالح ترامب. هذا طبعا ليس نقدا طبقيا فالتركيز يتجه لفهم أهمية البروليتارية السفلى الساكنة في الريف والمدن الصغيرة إنتخابها لمرشح ما بقدرته على تعزيز نظرتها للوطن والسياسة القائمة على أهمية الدين والعادات والتقاليد. أرى أن فوز ترامب يرجع أساسا للتصويت المكثف لهذه المجموعة له كنتيجة لتماثل فكرة ”لنجعل أمريكا عظيمة من جديد“ مع نظرتها التقليدية لذاتها على أنها قوة عالمية ذات سطوة وذات إرث ديني بروتستاني أبيض.

نفس الإستنتاج يمكن استخلاصه من علاقة الطبقات الشعبية في تونس وفي العالم العربي عموما بالأحزاب التي تروج للدين والتقاليد المحافظة. في مقال مهم جدا في القدس العربي5 بعنوان ”شرف العائلة“، تطرقت إبتهال عبد العزيز الخطيب إلى ”ظاهرة شخصية الارتباط بين المسلم والدين الإسلامي“ والحساسية المفرطة التي تربط نقد الإسلام بالنقد الشخصي للمسلم وتتسائل ”ما الذي لا يزال يبقينا في حيزنا الأثري القديم، من أين نتحصل على صكوك الملكية الدينية التي تجعل أي حديث عن الدين مساساً شخصياً وإصابة «لشرف العيلة»؟“ إن التصويت المنحاز للحركات الدينية كالنهضة في تونس أو الاخوان المسلمين في مصر (لمحمد مرسي قبل الإطاحة به) أو حزب العدالة والتنمية في المغرب هو دليل على العلاقة المتينة التي تربط السياسة المحافظة بالفئات الشعبية ذات توجه ديني تقليدي. إن التصويت للأحزاب الدينية  لدى البروليتارية السفلى هو أساسا تصويتا لما يعتقد أنه درء الخطر عن الدين وحمايته. هذا ما أدى مثلا إلى متانة وعضوية العلاقة التي تربط النهضة كحزب يروج لنفسه على أنه الحامي للإسلام ولجان حماية الثورة.

في الختام، أرى أن فترة الضبابية السياسية والثقافية التي افرزتها الما بعد واقعية أدت إلى تصاعد الثقل السياسي للبروليتارية السفلى داخل الديمقراطيات القديمة والجديدة على السواء. إنه عصر المحافظين الجدد كترامب أو الغنوشي لقدرتهم على إيصال رسالة إنتخابية بسيطة و واضحة: نحن هنا للمحافظة على هويتكم الدينية كما تفهمونها وترسيخ عاداتكم وتقاليدكم. هذه طبعا توجه سياسي ايديولوجي اعتمده الفاشيون والديكتاتوريون على مدى العصور ونجحوا به في الوصول إلى السلطة في أزمنة غلبت فيه الضبابية السياسية والغموض المعرفي كزمننا هذا.

هوامش