رغم الالتباس الكبير الذي يحيط بأنشطته التجارية والمالية فإن محمد العياشي العجرودي يصر على وصف نفسه بـ”رجل الأعمال الدولي”، ويبدي حرصا شديدا على البروز بمظهر الرجل العابر للقارات، من خلال نشر صور التقطها مع شخصيات سياسية واقتصادية مثل وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري والرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند.

هذه الصورة سعى محمد العياشي العجرودي إلى ترويجها من خلال البحث عن حواضن إعلامية وعبر الولوج أيضا إلى سوق الأحزاب والنوادي الرياضية. وطالما أن عوالم الإعلام والسياسة والرياضة تشهد منافسة وتشتد فيها حروب النفوذ والاحتكار في فترة مابعد 14 جانفي 2011، اختار اللاعب الجديد أن يشرع في بناء مدينته الإعلامية خاصة وأنه لم يفلح في بناء ارتباطات متينة في الإعلام المهيمن. الطريق نحو صنع المجد الإعلامي كان محفوفا بالسطوة على ممتلكات الآخرين وتضخيم مشاريع المستقبل التي لم تكن سوى وعودا وأوهاما أنجزتها بلاغة العجرودي العذبة. من قناة الجنوبية مرورا بموقعي «Tunisie Secret» و”العقل”، وصولا إلى “المدينة الإعلامية” المزعومة، يمكن الذهاب بعيدا خلف الواجهات اللامعة والبدلات الأنيقة لاكتشاف ميكانيزمات بناء الثروة عبر صناعة الصورة. هذه الصورة التي تخفي وراءها آثار السطو وتزييف الحقائق وربما تخفي وراءها أيضا أنشطة مالية وتجارية مشبوهة تشي بها كل الارتباطات والوثائق التي سيعرضها هذا التحقيق…

قناة الجنوبية: جعجعة بطحين فاسد

التطلع نحو البروز الإعلامي أوقع محمد العياشي العجرودي أول الأمر في شراك “الماركيتينغ الإعلامي”، فقد سبق وان تقدم بشكوى في التحيل في 30 أفريل 2013 ضد صاحب برنامج “لمن يجرؤ فقط” سمير الوافي، متهما إياه بإيهامه في الشروع في انجاز قناة تلفزية خاصة تعرّف بنشاطاته وأعماله مقابل الحصول على صك قيمته 150 ألف دينار. وحسب الرواية التي أذاعها محامي العياشي العجرودي آنذاك فإن سمير الوافي تقرب من موكله أثناء زيارة أداها إلى مقر حنبعل سنة 2011 بدعوة من مالكها السابق العربي نصرة، وقد سعى الوافي إلى توظيف برنامجه “الصراحة راحة” للحصول على أموال من العياشي العجرودي.

كشفت هذه الحادثة عن طموح كبير لمحمد العياشي العجرودي في تأسيس قناة خاصة تُلمع صورته، وقد وجد ضالته بعد مدة قليلة من مقاضاة سمير الوافي في قناة “الجنوبية”، التي ظهر على شاشتها لأول مرة بصفة المالك الجديد في أوت 2013،  متحدثا عن فتح ستوديوهات جديدة في الجنوب التونسي وفي باريس وعن تطوير الأجهزة والبرامج. قناة الجنوبية التي اشتراها العجرودي بسبب ظروفها المالية الصعبة من مالكيها الأخوين علي وربيع بعبورة ومن الفنان فرحات الجويني دخلت بعد مدة في نزاع قانوني طرفاه شركة “نزل المونديال” لمالكها فرحات الجويني وشركة FM3 التي يقف وراءها محمد العياشي العجرودي، وذلك بسبب رفض هذا الأخير تسديد معاليم تسويغ مقر القناة الذي تعود ملكيته إلى فرحات الجويني. وأثناء النزاع القانوني بينهما اكتشف الجويني أن العجرودي ووكيل الشركة المالكة لقناة الجنوبية، نزار الجنزوري (موظف سابق بوزارة التنمية)، قاما بتدليس عقد كراء للإيهام بأن معلوم الكراء يبلغ 1500 د شهريا وهو معلوم لا يتناسب مع قيمة الايجار الحقيقية للنزل المتكون من 5 طوابق ومساحته 1000 متر مربع بشارع 9 أفريل وسط العاصمة. (انظر نسخة من العقد المزور بالفرنسية). وهذا العقد المزور سبق وان استظهر به العجرودي في قناة الجنوبية، التي استغلها كفضاء دعائي لتصفية حساباته الشخصية.

⬇︎ PDF

م فرحات الجويني في 20 أوت 2014 بعريضة إلى النيابة العمومية بتونس ضد العجرودي ونزار الجنزوري من أجل التدليس والمسك واستعمال مدلس، وقد أثبت الاختبار الفني أن العقد موضوع النزاع غير سليم (انظر نتائج الاختبار). اتخذت هذه القضية مسارا قضائيا مازال متواصلا، أثناءه تمكن العجرودي من إخراج فرحات الجويني بالقوة العامة من النزل في مناسبتين، الأولى في أوت 2014 والثانية في سنة 2016، ومن خلال تمطيط التنازع غنم أيضا التملص من دفع معاليم التسويغ أكثر من سنتين. وفي نهاية المطاف استرجع الجويني محله لتنتقل قناة الجنوبية إلى مقر جديد في السنة الفارطة، لا يعلم الرأي العام عنه الكثير ولا توجد لافتة تشير إليه، وحسب المعطيات الأولية التي تحصل عليها موقع نواة فإن قناة الجنوبية تبث برامجها من بناية كائنة وسط العاصمة، ولا تحتوي على أبسط مقومات الحماية للأجهزة والعاملين.

⬇︎ PDF

اشب بين العجرودي وفرحات الجويني تحصلت قناة الجنوبية على رخصة البث من الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري بتاريخ 20 أفريل 2015، وبعد مرور سنتين من إسناد هذا الترخيص طفت على السطح بعض النقاط التي تتعارض مع القوانين التي تنظم المجال السمعي والبصري ومع القوانين العامة للبلاد، من بينها:

-محمد العياشي العجرودي المالك الجديد لقناة الجنوبية سبق وأن أعلن عن تأسيس حزب سياسي في 8 جويلية 2013 أطلق عليه “حركة التونسي للحرية والكرامة”. ولعل امتلاك قناة تلفزية وترؤس حزب سياسي يتعارض مع الفصل 9 من كراس الشروط المتعلق بالحصول على إجازة إحداث واستغلال قناة تلفزية خاصة الذي ينص على أن “يلتزم الحاصل على الإجازة بان لا يكون منتميا لحزب سياسي”. ولئن أشارت بعض المعطيات إلى أن العجرودي أعلن استقالته من الحزب فإن هذه الخطوة ليست مسنودة بإجراءات قانونية واضحة.

ان فرحات الجويني سعى العياشي العجرودي إلى توظيف قناة الجنوبية للتأثير على خصمه من خلال الظهور في حوار تلفزي خاص تم بثه من منزله. وفي الحقيقة تواترت المناسبات التي استغل فيها العجرودي القناة التلفزية للترويج لصورته ومشاريعه الوهمية وهو ما يتعارض أيضا مع شروط منح الإجازة الواردة في الفصل الخامس من كراس الشروط الذي ينص على “عدم استعمال القناة التلفزية لغرض الدعاية أو التسويق لصورته الخاصة أو لصورة غيره أو لحزب ما”.

-الإمكانيات التقنية والبشرية والمالية لقناة الجنوبية يشوبها الكثير من الغموض حول مصادر التمويل والأوضاع المهنية للصحفيين، حيث تشير العديد من المعطيات إلى أنهم يشتغلون دون عقود عمل قانونية ويتلقى بعضهم أجورا لا تتجاوز الـ450 د.

مواقع للدعاية الزائفة

أمام القدرة التأثيرية الجديدة التي باتت تحظى بها الصحف الإلكترونية وأمام انفلاتها من عقال الضوابط المهنية، سعى العجرودي كعادته إلى استمالة بعض المدونات من بينها مدونة “الثورة نيوز” ولكن يبدو أن الصفقة بين الطرفين انتهت بخصومة، ليصرّح محمد العياشي العجرودي في إحدى إطلالاته على قناة الجنوبية بأن مدير تحرير “الثورة نيوز” طلب منه أموالا مقابل تلميع صورته ولكنه رفض. من هذا المنطلق سعى إلى بعث موقعين بإمكانه التحكم في خطيهما التحريري هما موقع ناطق بالفرنسية “تونيزي سكري” Tunisie secret الذي انطلق على الأرجح في العمل في 30 أكتوبر 2012، تُنشر فيه مقالات بأسماء مستعارة وأخرى بأسماء معروفة من ضمنهم توفيق بكار آخر محافظ بنك مركزي في نظام بن علي. أما الموقع الثاني”العقل”، يديره بوبكر الصغير، أحد أعمدة الدعاية في النظام السابق ومؤسس مجلة “الملاحظ” التي اندثرت بسقوط رأس النظام.

يُعنى هذان الموقعان بالترويج لتدهور الاقتصاد التونسي وتعطل مشاريع الاستثمار بسبب “الاضرابات والنزعة المحافظة للإدارة”، إضافة إلى مساندة مشروع قانون المصالحة الاقتصادية. وتنسجم هذه الأفكار مع طموحات محمد العياشي العجرودي الذي يسعى إلى الظهور بصورة المستثمر المتحسر على حال الاقتصاد والحال أنه لا يملك مشاريع في تونس وخارجها، عكس الدعاية القائلة بأنه يدير عشرات الشركات عبر العالم. في هذا السياق كثيرا ما تنسب هذه المواقع لقاءات وهمية للعياشي العجرودي بمسؤولين كبار استنادا على بعض الصور التي التقطها هذا الأخير مع بعض القيادات السياسية الدولية، وفي بعض الأحيان يتم نشر بعض الأخبار الزائفة، من الأمثلة على ذلك الخبر الوارد بموقع “العقل” الذي يحمل عنوان “العجرودي يلتقي بفريق ترامب وشخصيات عالمية أخرى” (انظر الصورة).

إنزالها على موقع العقل بتاريخ 24 جانفي 2017، يظهر فيها العجرودي صحبة زوجته وأحد أبناءه وأصدقاءهم، كما يظهر فيها المحافظ الأسبق للبنك المركزي توفيق بكار. علاوة على هذا يظهر في الصورة رجل مسن مُقعد يجلس على يمين العجرودي، هو عدنان خاشقجي، الملياردير السعودي وتاجر السلاح المعروف بصفقاته ونشاطاته الغامضة. وقد برز اسم الخاشقجي في الاعلام الدولي في أوائل الثمانينات بصفقاته الدولية في مجال الأسلحة، خصوصا فيما يعرف بقضية إيران-كونترا التي لعب فيها دور الوسيط في صفقة أسلحة بين إدارة الرئيس الأمريكي السابق ريغان وحكومة جمهورية إيران الإسلامية. ولعل الجلوس مع عدنان الخاشقجي يكشف عن جانب آخر من الارتباطات الخارجية لمحمد العياشي العجرودي، التي يلوح فيه الانخراط في عالم الصفقات الدولية والأنشطة الغامضة.

حرص العجرودي أيضا من خلال صفحاته المدعومة (sponsorisés)على موقع التواصل الاجتماعي “الفايسبوك” إلى الترويج لعلاقات وهمية مع كبار صناع القرار في العواصم الغربية، إذ يستغل التقاط بعض الصور الهامشية مع رؤساء الدول الكبرى للادعاء بأنه محل ترحيب لدى مراكز التأثير العالمي. (انظر الصورة)

التقطها العجرودي مع الرئيس الفرنسي “فرانسوا هولاند” على هامش حفلة عشاء سنوية نظمتها “الكريف”، المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية بفرنسا، والمعروف بمساندته المطلقة للكيان الصهيوني وتأثيره في مراكز القرار الفرنسية. وقد علّق العجرودي على هذه الصورة “حل السيد محمد العياشي العجرودي كضيف شرف حيث كان محلّ حفاوة وترحيب كبيرين من قبل الرئيس الجديد لمؤسّسة ” الكريف ” فرانسيس خليفة و قد كان له بهذه المناسبة لقاء مع الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إستعرض خلاله الطرفان عددا من القضايا المحلية و الدولية”.

الترويج لمشاريع وهمية

الغموض الكبير الذي يحيط بأنشطته المالية والتجارية استغله محمد العياشي العجرودي في الترويج عبر قناة الجنوبية والمواقع الالكترونية لامتلاكه عدد من المشاريع في قطاعات الطاقة والنقل والبيئة والسياحة عبر العالم. ومن خلال الحوارات الخاصة التي ظهر فيها في قناة الجنوبية حرص العجرودي على تقديم نفسه بوصفه “خريج المدرسة العليا للمهندسين بفرنسا” وأنه “يسير مئات الشركات ذات الأهمية الاقتصادية العالمية” و”أنه اكتشف أفضل تكنولوجية عالمية في تحلية مياه البحر”. وبالمقابل لا يعرف أحدا شيئا عن هذه المشاريع والقدرات لأنها محض افتراءات من صنع الآلة الدعائية للعجرودي، فعلى الأرجح الرجل لا يمتلك حسابا بنكيا في تونس وإنما يستخدم حسابات زوجته وأبنائه.

عند شرائه قناة الجنوبية في  أوت 2013  ابتدع العجرودي فكرة تأسيس “مدينة إعلامية ضخمة” على شاكلة المدن الإعلامية الموجودة في ولاية كاليفورنيا الأمريكية. وتبدو هذه الفكرة مغرية لبعض الطامحين والمتسلقين وقد استخدمها العجرودي لإسالة لعاب بعض الإعلاميين لأن المدينة الإعلامية المزعومة لم تنطلق أشغالها إلا في ذهن العجرودي. في نفس السياق سعى العجرودي إلى إشاعة خبر “الشروع في تنفيذ مشروع لتحويل النفايات إلى طاقة في سلطنة عمان بعد أن رُفض في تونس”، وفي الحقيقة هذا المشروع لا علاقة للعجرودي به إذ أُسندت أشغاله منذ سنة 2016 إلى شركة رجل الأعمال الأردني هشام ظبيان.

مؤخرا وفي ندوة صحفية انعقدت يوم 1 أفريل 2017 وأشرف عليها والي نابل منور الورتاني، تم استعراض مشروع سياحي ضخم يضم فنادق ومجمعات سكنية وتجارية ومراكز ترفيهية. هذا المشروع المزعوم حسب  العياشي العجرودي “سيمتد على 500 ألف متر مربع، يخلق حوالي 5 آلاف موطن شغل” و”نحن بصدد انتظار الرخص، الفريق جاهز، التمويل جاهز، الاستثمارات ستفوق 800 مليون أورو”. حسب تصريحاته لقناة الجنوبية. ولكن في الحقيقة لا أحد يعرف من أين سيتم جلب هذه الأموال؟ ومن هي الجهات المستثمرة؟ وكيف سيجري الحصول على الرخص خصوصا وأن المنطقة المستهدفة بالمشروع توجد في حزام ساحلي يحتوي على غابات متوزعة بين الهوارية وتاكلسة وقربص وسليمان. ولكن المُلفت للانتباه في هذه الندوة الصحفية التأييد الكبير الذي يحظى به المشروع من والي نابل رغم الغموض الكبير الذي يحيط به، والوالي نفسه يدرك أن العجرودي لديه نزاعات عقارية مع مواطنيين تونسيين في ولاية نابل منشورة لدى المحاكم، من بينها النزاع القائم مع الناشر سيف الله البليلي الذي تفطن في جوان 2012 إلى أن محمد العياشي العجرودي استولى على أرضه الكائنة بهنشير الفوراة من منطقة الحمامات والتي تبلغ مساحتها 6536 متر مربع، وقد عمد فيها إلى إقامة ملعب كرة سلة رغم ان الارض تحمل صبغة فلاحية.