عشية الانتفاضة كان مستشارَي الرئيس الأسبق، عبد الوهاب عبد الله ومحمد الغرياني، يُسديان بعناية فائقة التعليمات الرئاسية لوزير الاتصال ولمديري التلفزة وإطاراتها، وأحيانا يتدخّلون لإعادة ترتيب الامتيازات واستبدال مُوظّفين بآخرين. من داخل هذا المنطق تشكّلت منظومة الدعاية الرسمية التي استغلّت المرفق العمومي لتثبيت مصالح العائلة الحاكمة. ويبدو أن الأمور لم تتغير طيلة الفترة التي عقبت الانتفاضة، فقد ظَلَّ الهاتف الحكومي زر الرقابة الناجع الذي تستخدمه الحكومات من أجل الهيمنة على الإعلام العمومي. منظومة الحكم الحالية استغلت سياسة التعيين كمنفذ للتحكم في مؤسسة التلفزة، فبعد إقالة الرئيس المدير العام السابق لمؤسسة التفزة إلياس الغربي في جوان الفارط قامت مؤخرا رئاسة الحكومة بإعفاء مديري القناة الأولى والثانية، إيهاب بالشاوش وشادية خذير، من منصبيهما. الإشكال الجوهري لا يكمن في طبيعة الأشخاص المُقالين أو في القرار في حد ذاته وإنما في خلفياته السياسية بشكل عام.

تزامنت الإقالات مع بروز مظاهر الدعاية النظامية داخل المضامين الإخبارية للإعلام العمومي، من بينها التغطية الدعائية لزيارة الرئيس الحالي إلى مدينة سوسة أول شهر أكتوبر 2017، مما اضطر الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري إلى إصدار بيان تنديد بهذه التغطية، مُلمّحة إلى طابعها الدعائي و”عدم احترامها لقواعد المهنة الصحفية”. وفي فترة ليست بالبعيدة أذاعت القناة الأولى في نشرة الأخبار الرئيسية تغطية لزيارة رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى الولايات المتحدة الأمريكية في 10 جويلية 2017، برز فيها بوضوح النفس الدعائي لنجاح الزيارة رغم حصيلتها السلبية، علاوة على الأخطاء المهنية التي ارتكبتها مراسلة الأخبار من خلال الإيراد الخاطئ لأسماء صحف وشخصيات أمريكية. تجاورت النزعة الدعائية المُحاكِية لنظام الحكم السابق مع استفحال الأزمة الإدارية والمهنية داخل مؤسسة التلفزة، والتي أعطى لمحة عنها البيان الصادر يوم أمس عن فرع النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، الذي أشار إلى وجود  “محاولات لتدجين الإعلام العمومي والعودة به إلى مربع التبعية والولاء للسلطة”، إضافة إلى “مصادرة حق الصحفيين في المشاركة في صنع المضامين الإخبارية من خلال عدم تفعيل اجتماعات التحرير بقسم الأخبار”.

السياسة الرسمية المُتبعة إزاء الإعلام العمومي، رَافقها استهداف لمنظومة ما بعد 14 جانفي، في مقدمتها دستور 2014 كمرجعية جديدة ناصّة على حرية الاعلام والتعبير في فصليه 31 و32، إضافة إلى الهيئات الدستورية المنبثقة عنه، من ضمنها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري. في هذا السياق بَرزت نزعة رئاسية مناهضة لاستقلالية هذه الهيئات في الحوار الذي أجراه رئيس الجمهورية مع جريدة الصحافة والمنشور في 06 سبتمبر 2017، وقد اعترض فيه الباجي قايد السبسي على صلاحيات الهيئات الدستورية التي وصفها بـ”المطلقة” و”الخارجة عن الرقابة”، وهو ما جعل الهيئات الثلاث ترد ببيان اعتبرت فيه التشخيص الرئاسي إنذارا بالعودة إلى ما قبل الحياة الدستورية. بالتوازي مع هذا عملت الحكومة على وضع تشريعات متعارضة مع دَسترة المشهد الإعلامي من خلال مشروع القانون المتعلق بإحداث هيئة الاتصال السمعي والبصري الذي صاغته وزارة العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني في جوان الفارط، وقد لقي هذا المشروع معارضة من 16 منظمة وطنية ودولية، اعتبرته منافيا لمعايير دستور 2014 والمواثيق الدولية المشرّعة لحرية الاعلام والتعبير.

إضافة إلى السياسات الإعلامية العامة، يبرز التعاطي الرسمي اليومي مع الفاعلين الإعلاميين كدليل آخر على انتهاك حرية الإعلام والتعبير. ويتسم هذا التعاطي أساسا بالتضييق على مسالك المعلومة واحتكارها بغية توظيفها الدعائي، وفي هذا السياق يصطدم الكثير من الصحفيين بانعدام ممكنات النفاذ للمعلومة في ظل عدم الالتزام الإداري بتطبيق قانون النفاذ للمعلومة الذي يعكس حقا دستوريا منصوص عليه في الفصل 32 من دستور 2014. هذا وقد دأبت المنظمات الوطنية والدولية على إذاعة التقارير حول الاعتداءات الجسدية الواقعة ضد الصحفيين أو تلك التي تُوثق لأحداث منع الفرق الصحفية من التصوير، من ضمنها التقارير الدورية التي ينشرها مركز تونس لحرية الصحافة والتي أوردت مؤخرا حادثة تعرض حمدي السويسي الصحفي بإذاعة “ديوان آف آم” يوم الاثنين 18 سبتمبر 2017 إلى اعتداء جسدي من قبل أعوان الأمن بجهة صفاقس، إضافة إلى منع فريق قناة “فرانس 24” من التصوير بشارع الحبيب بورقيبة من قبل أعوان الأمن يوم الثلاثاء 04 أكتوبر 2017.

كل هذه الوقائع تعمل السلطات على طمسها من خلال التعلل بطابعها الفردي والانعزالي. وفي بعض الأحيان تتخذ من “الانشغال التنموي” و”الاستقرار السياسي” و”الامن القومي” ذرائع لضرب استقلالية الفاعلين الاعلاميين والتأثير على مضامينهم المهنية. ولكن هذه المبررات تضمر استمرارا هيكليا للإرث الإعلامي القديم، الذي ينزع نحو هدم المساحات التشريعية والمدنية والمواطنية التي خلقها حدث الانتفاضة.