بسم الله الرحمان الرحيم

بقلم الأستـــاذ فتحــي نصــري

maitre_nasri@yahoo.fr

ماذا بعد إضراب الجوع؟ ظل هذا السؤال يطرح منذ انطلاق حركة 18 أكتوبر ، واليوم دقت ساعة الجواب بعد تعليق إضراب الجوع واعلان المضربون الثمانية في ندوة صحفية عن بديلهم بتكوين ” الهيئة الوطنية للمتابعة.

فمنذ ثلاثة أيام وجهت رفقة الأستاذ نور الدين ختروشي نداء الى من يهمه الأمر من سلطة ومعارضة ومنظمات دولية في محاولة لاستشراف مرحلة ما بعد إضراب الجوع و لعدم ربط حركة 18 أكتوبر بإضراب الجوع وقدرة المضربين على الاستمرار فيه، وتلقيت بعض الرسائل المستهجنة لهذا النداء، وكأن الخوض في مستقبل حركة 18 أكتوبر مسا بمسار وطني أو خوضا في شأن لا يهم إلا الذين عرضوا أجسادهم للجوع ، وهذا حسب رأيي مكمن الداء بتحويل حركة 18 أكتوبر الى ” أصل تجاري ” ، وفعلا قرر السادة المضربون عن الطعام مصير الحركة ، فهل يحق لنا الآن أن ندلي بدلونا بكل هدوء ؟ أم مطلوب منا تزكية الهيئة الوطنية للمتابعة بصمت ؟

إن المسؤولية الأخلاقية تفرض علينا جميعا فتح حوار هادىء حول مستقبل المشروع السلمي للتغيير ، فالمرحلة الراهنة تتطلب تخطيطا سليما تشارك فيه جميع الأطياف الوطنية ، ولا مجال لأي قفز غير محسوب للواجهة الأمامية أو استقراء خاطىء لحجم التحركات المساندة والمواكبة للحركة الإحتجاجية والفاعلين الأساسيين فيها حتى لا يذهبن الظن بالبعض أنهم قادرون على التحكم في حركة الإحتجاج أو يأخذهم الزهو فينصبون أنفسهم زعامات تملك مصير المعارضة برمتها.

ان المتأمل في البيان الختامي لإضراب الجوع يقف عند منعرجات خطيرة وتضاريس غير آمنة توحي بأن المناداة بهيئة وطنية للمتابعة لم يكن قرارا تشاوريا هادئا ساهمت في صياغته جميع الأطراف التي دفعت باتجاه بلورة وعي إحتجاجي قادر على تحريك الساحة الداخلية ولفت أنظار الفاعلين الدوليين ، وانما اقتضته إكراهات المحطة الأخيرة لشكل نضالي محدود في الزمان والمكان ، فكيف يعقل أن يفتح باب إضراب الجوع اللندني من طرف قيادة حركة النهضة مساندة لإضراب الرجال الثمانية ، في الوقت الذي يستعد فيه هؤلاء المضربين الى فك الإضراب ، فهل كانت قيادة النهضة على علم بانهاء الإضراب ؟ وهل كانت على علم بمبادرة الهيئة الوطنية للمتابعة ؟

فالدعوة لتكوين هيئة وطنية للمتابعة تتكون من المضربين السابقين وشخصيات تختارهم اللجنة الوطنية للمساندة بتشاور أيضا مع الرجالات الثمانية يطرح علامة استفهام حول مدى قدرة هذه الشخصيات حتى وإن كانت وازنة على رسم ملامح المرحلة القادمة ، فالأجدر أن تتم دعوة جميع أطياف المعارضة لتشكيل هذه الهيئة ان سلمنا جدلا بجدواها ، فتكون مكونة من أحزاب وحركات معارضة وجمعيات بصفتهم الحزبية والجمعوية لا بصفتهم الشخصية ، كما أن إلزام اللجنة الوطنية للمساندة بالتشاور مع أصحاب البيان الختامي حول اختيار أعضاء الهيئة الوطنية للمتابعة يمحور عملية استثمار نتائج حركة 18 أكتوبر بالإلتفاف حول الرجال الثمانية في حين أن المصلحة الوطنية تقتضي الإلتفاف حول الشعارات المرفوعة لا رافعيها.

كما أن المتأمل في الأهداف المرسومة للهيئة الوطنية للمتابعة المعلن عنها في البيان الختامي يطرح سؤالا جوهريا حول المقصود بالحفاظ على ” وحدة العمل” فهل هي دعوة لتحالف ميداني عبر تشكيل لجان عمل مشتركة ؟ أم هي تحالف مواقف مع تحرير الأحزاب والحركات والجمعيات للتحرك وفق أجندات خاصة بقاسم مشترك هو تحقيق الشعارات المرفوعة ؟ كما أن مهمة فتح حوار وطني دون تحديد خارطة الأطراف المعنية بهذا الحوار تعتبر دعوة مفتوحة لكل من يرى في نفسه فصيلا وطنيا قد تؤدي إلى تمييع الحوار وتفتح الباب على مصراعيه لمزايدات أخال الساحة التونسية في غنى عنها ، فضلا عن أن ما أسماه البيان الختامي ” بمشروع البديل الديمقراطي ” هو ضرب من الطوباوية السياسية ، فالديقراطية بما هي أداة للتداول السلمي على السلطة أو بما هي نظام سياسي يحدد اختصاص السلط الثلاث ويرسم خطوط اللاتداخل بينها ، أو بما هي تقنينات تحفظ الحريات العامة والخاصة لا اختلاف حولها والمعضلة الحقيقية في تعطلها ، لذلك فالمطلوب ليس صياغة بديل ديمقراطي بل صياغة برنامج عمل مشترك لإزالة مكبلات تعطيل الديمقراطية.

وحتى لا يفهم من كلامي أنني أحمل بيمناي قلما وبيسراي حجرا ، أرى حسب رأيي المتواضع أن المرحلة الراهنة بملامحها الداخلية المتأججة وقابلية المجتمع الدولي للإنصات والضغط باتجاه حلحلة الوضع الحقوقي بتونس تتطلب تكوين ” جبهة عمل وطنية ” أو ” جبهة قوى وطنية ” تنضوي تحتها جميع مكونات المشهد السياسي المعارض وأطياف المجتمع المدني تكون نواتها الصلبة بالداخل وذراعها الفعال بالمهجر بحكم مساحة الحرية المتاحة للتحرك الميداني والإعلامي طبعا في إطار تحالف مواقف والتقاء حول أجندة عمل ميداني مشترك مع احتفاظ كل فصيل بهياكله ومؤسساته وبرنامج عمله الداخلي ، وهذه الجبهة تساهم في استثمار لجان المساندة التي تكونت داخل البلاد وفي عديد دول المهجر وتعطيها أسباب استمرارها إلى غاية تحقق الشعارات المرفوعة وعدم رهنها بشكل محدد مثل إضراب الجوع.

ومن أجل تنزيل فكرة ” جبهة العمل الوطنية ” من يسر التنظير الى عسر التطبيق يجب انبثاق لجنة عليا ممثلة لمكونات الجبهة تتولى تمثيل الجبهة سياسيا وإعلاميا داخليا وخارجيا ، وفتح المجال لتكوين لجان عمل مشتركة تتولى تنفيذ البرنامج العملي المتدرج والمتفق عليه ولجان إعلامية لتحقيق الشعارات المرفوعة ، وبذلك تكون جميع التحركات بالداخل والخارج تتم تحت يافطة وطنية معارضة ذات ثقل سياسي من شأنها تضييق مساحة توالد المبادرات المشتتة للفعل المعارض ، كما ان انضواء أطراف عديدة من المعارضة ذات اتجاهات ومشارب إيديولوجية مختلفة تحت لواء جبهة العمل المشتركة يرفع من أسهم مصداقيتها وجديتها ويجعل منها طرفا قادرا على تمثيل المعلرضة التونسية بالخارج ، ويجعلها طرفا محاورا ذا ثقل داخليا استنادا لحجمها ولمشروعية مطالبها وهذا ما أشرت اليه سابقا في مقال ” حركة 18 اكتوبر وقافلة العودة والوصايا العشر ” بخلق استقطاب ثنائي جديد طرفاه السلطة والمعارضة مجتمعة حول برنامج عمل واضح ومحد.

هذه بعض الملاحظات الأولية وهي حقيقة ليست وليدة قراءة سريعة للبيان الختامي لإضراب الجوع وانما نابعة من تخوفات كانت قائمة قبل فك الإضراب ولكن الظرف لم يكن يسمح باثارتها ، أما مقترح ” جبهة العمل الوطنية ” فهي ليست الا دعوة لاستثمار تبعات وتتاليات حركة 18 أكتوبر وعدم حصر التحركات فيما هو حقوقي مطلبي فقط بل يتعداها الى تأسيس نواة معارضة صلبة قادرة على تحمل مسؤوليتها مستقبلا وتسهل عملية التحول السياسي.

وأخيرا فان مسألة بلورة مقترح ” جبهة العمل الوطنية ” وتحويله الى مشروع قابل للتحقق رهين بمدى جدية التعامل معه وتطويره خاصة وان الحالة المعارضة التونسية غير مستعصية على تحقيقه.


معــا مــن أجــــل الـــــوطــــــن