منذ الصباح ، انطلقت الفتاتان في رحلة بحث مضنية عن الغاز، حملتا القارورة الفارغة وبدأتا بالبحث في محلات قريبة من شقتهما، كان “عم إدريس” أملهما في أن يمن بقارورة غاز لكنه قال بجملة باردة خالية من الصدق” وراس بنتي لا عندي”، حين ابتعدتا بضعة أمتار عن المحل، شاهدتا امرأة تخرج من هناك حاملة قارورة غاز معبأة. صاحت شادية “يا له من منافق”، تجادلتا بخصوص مواجهته بكذبه، و اقترحت على صديقتها الاتصال بمنظمة الدفاع عن المستهلك أو ربما الشرطة، ضحكت هالة بسخرية وقاطعتها بالقول”ارفعي القارورة ولننطلق، هل تعتقدين أن أحدا ما في هذه الدولة يهتم لأمرنا؟ ويمكن  للشرطة أو منظمة الدفاع عن المستهلك اللتان ستستنجدين بهما أن يسخرا منك”.

البرد والجوع أو الإختناق !

بدأت الفتاتان تيأسان من إيجاد قارورة غاز، إلى أن اعترضهما أحد “الوشاة” الذي دلهما على محل يبعد مسافة غير هينة يملك قوارير غاز يعطيها لمن يشاء، وقررتا الوقوف بحزم في وجه صاحب محل بيع المواد الغذائية، دخلتا  في مفاوضات مع صاحب المحل، الذي أشار إليهما بغمزة أن تنتظرا بضع دقائق. قالت هالة “لا مجال للخروج دون قارورة غاز.. قضينا أربعة أيام كاملة دون غاز في شقتنا وكدت أفقد حياتي بسبب ذلك”.

قبل يومين عادت هالة من عملها وكانت مرهقة جدا. قررت النوم قليلا لكنها استيقظت بعد موعد حظر التجول، لا تملك شيئا في الثلاجة وكل محلات الأكل أغلقت، فقررت الاستنجاد ب”كانون” لطبخ شيء تأكله. لا تتذكر هالة ما حصل لها بالضبط وجدت نفسها نائمة على الأريكة طيلة ليلة كاملة لم تعد قادرة على تمييز اتجاهات الغرف وأيقظتها صدمة أنها قضت حاجتها في ملابسها، حينها حاولت الوصول إلى الشرفة ووقفت جامدة تحت الأمطار الغزيرة، تغالب أوجاع رأسها. بكت رفيقتها في السكن كثيرا حين روت لها الحادثة وقالت “أرواحنا مسؤولية هذه الدولة، إذا حصل شيء ما لصديقتي سوف أقاضيهم. أعلم أن تونس تنتج البترول والغاز لكن ما لم تنهبه الشركات ينهبه المسؤولون. أتمنى أن يحاسب المسؤولون عن الأزمة التي نعيشها”.

أزمة الغاز.. من المسؤول؟

تنتج تونس يوميا 3051 ألف متر مكعب من الغاز الطبيعي في الحقول النفطية التي تملك فيها المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية نسبة فيها، ويبلغ معدل إنتاجها قرابة 5 مليون متر مكعب سنويا من الغاز، حسب أرقام نشرتها وزارة الصناعة والطاقة في شهر ماي الماضي، والتي أشارت إلى تراجع إنتاج الغاز الطبيعي بنسبة 13 بالمائة على المستوى السنوي، وتوقعت وزارة الصناعة والطاقة اضطرابا في الإنتاج بسبب “تعليق أو تأجيل حفر أو صيانة عدة آبار ، ما سينعكس سلبا على الإنتاج خلال الأشهر القادمة” حسب تقرير الوزارة الذي صدر في شهر ماي الماضي.

حسب معطيات إحصائية تخص عام 2018، تذهب 74 بالمائة من كميات الغاز لإنتاج الطاقة الكهربائية فيما تخصص نسبة 17 بالمائة منه لكبار ومتوسطي وصغار الصناعيين، ويوجه 9 بالمائة منه للاستهلاك المنزلي والحرفي.

لا تغطي تونس حاجتها من الغاز وتستورد قرابة  40بالمائة من احتياجاتها المحلية،  وتقنيا، لا يمكن تعبئة الغاز في القوارير وتوجيهه للاستهلاك الفردي إلا بوجود  تركيبة ثلاثية تستخرج مكوناتها الثلاثة من الغاز بعد فصل البترول والماء في عملية أولية عند استخراجه من البئر. لا يمكن ضمان وجود دائم لهذه المكونات الثلاث داخل الغاز المستخرج، ويؤدي غياب مكون أو مكونين إما إلى تصديرها  أو حرقها . يؤثر غياب أحد هذه المكونات في كميات الغاز الذي تتم تعبئته في قوارير في ثلاث محطات وهي محطة غنوش بقابس والتي تقوم بتعبئة قرابة 60 بالمائة من الغاز وتوجه بقية الكميات إلى مصنع ستير لتكرير النفط بجرزونة وإلى رادس.

عوامل الأزمة

تعود أزمة التزود بقوارير الغاز التي مست عائلات كثيرة في أغلب الولايات إلى ثلاثة عوامل أولها اعتصام الكامور الذي أوقف إنتاج المحروقات لمدة ثلاثة أشهر في حقول تنتج ما يقارب 37 بالمائة من الغاز، والذي أثر ضرورة على كميات الغاز الموجه للتعبئة إذ انخفض الإنتاج اليومي من 2 مليون و315 ألف متر مكعب قبل إغلاق الصمام  إلى 670 ألف متر مكعب بعد إرجاعه في نوفمبر الماضي حسب تصريح سلوى الصغير وزيرة الصناعة والطاقة والمناجم. وأثر اعتصام الصمود 2 الذي دام قرابة أسبوعين أمام وحدات تعبئة الغاز المنزلي على قدرة بعض الولايات على التزود بالغاز المنزلي. ما جعل تنسيقية الاعتصام تعلق إضرابها وتعتذر من العائلات التونسية التي تضررت بطريقة مباشرة من الاعتصام. لكن الأزمة أدت أيضا إلى احتكار بيع الغاز المنزلي وصل إلى حد تخزين عدد منها وبيعها بقرابة  25دينارا للقارورة الواحدة حسب شهادات نشرت على موقع فايسبوك.

يجني التونسيون جميعا ثمار سياسات التهميش التي انتهجتها الدولة منذ عقود، والتي لم تترك خيارا للمطالبين بالتنمية أو التشغيل سوى الضغط عن طريق إيقاف الإنتاج في وحدات صناعية حيوية. خيار يصعب تصنيفه في خانة الصواب أو الخطأ، لكن ما يمكن الفصل فيه هو المسؤول عن إنتاج الأزمات الاجتماعية والتي تستحوذ الدولة على النصيب الأكبر منها.