المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
صورة لمالك خميري

راهنت قيادات بلدان العالم الثالث، بما فيها البلدان العربية، التي نالت استقلالاتها السياسية قبل تأسيس مجموعة دول الانحياز على النموذج الليبرالي، ولكن سرعان ما غيرت التوجه وتبنت ما يسميه البعض بـ”اشتراكية العالم الثالث” أو الدولة التنموية (the developmental state) أو رأسمالية الدولة أو ما يسميه سمير أمين بالمشروع الوطني الشعبي، لا الشّعبوي كما يؤكد أمين، (وهذا المشروع وطني بمعنى أنه معادي للإمبريالية ويدافع عن السيادة الوطنية، بدرجات متفاوتة طبعا وكل حسب قدرته وإرادته، وشعبي بمعنى أنه يخدم الطبقات الشعبية) خلال الستينات أساسا، وخلال السبعينات أيضا ولو بتراجع تدريجي في دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي. ليس الاسم ما يهم في المنوال الاقتصادي الذي اعتمدته دول العالم الثالث خلال فترة ما بعد الاستقلال، بل تفاصيله وخاصة دور الدولة التي كانت حاضرة بقوّة كفاعل اجتماعي اقتصادي يخطط وينفق ويستثمر ويشغل، كما يؤسس الشركات ويديرها، ويؤمّم أيضا. فخلال فترة ما بعد الاستقلال، انتشر التعليم والصحة واستثمرت الدولة في البنية التحتية وقد استفادت الطبقات الشعبية من تلك الإنجازات.

انهارت المناويل الثلاثة أو بدأت تنهار في نفس الفترة تقريبا، سبعينات القرن الماضي. وتنقسم أسباب انهيار المنوال الاقتصادي الذي اعتمدته أغلبية دول العالم الثالث إلى أسباب داخلية أو ذاتية (كسوء التخطيط مثلا كما يرى سمير أمين في تقييمه للتجربة الناصرية، وكما يرى ويليام إيسترلي في تقييمه لأسباب إخفاق تجربة نكروما في غانا، وكما يرى البعض في تقييمهم للتجربة الأمريكية الجنوبية) وخارجية أو موضوعية. وأرى بأن الأسباب الخارجية أهم ولذلك سأكتفي بشرحها هي دون الأسباب الداخلية.

النفط، العنصر الحاسم

كانت لحرب 1973 تبعات سلبية على دول العالم الثالث التي يستورد أغلبها النفط -الدم الذي يجري في شرايين الاقتصاد، والذي ينكمش ويعم الكساد بغيابه.  فبسبب الحرب ارتفعت أسعار النفط إلى مستويات قياسية خلال فترة قصيرة. واضطرت دول العالم الثالث إلى شراء النفط بأسعار أغلى. وبعد ست سنوات أدى التغيير السياسي الذي حدث في إيران سنة 1979 إلى ارتفاع أسعار النفط مرّة أخرى. وبحسب إحصائيات وزارة الطاقة الأمريكية بلغ سعر برميل النفط سنة ثمانين أكثر من ستة أضعاف سعره قبل سنة ثلاثة وسبعين.

وكما أدت هزة (shock) سنة ثلاثة وسبعين إلى ارتفاع مديونية العالم الثالث، فإنّ هزة العام تسعة وسبعين زادت الطين بلة إذ بلغت نسب المديونية مستويات مقلقة. ولئن سبّب ارتفاع أسعار النفط أزمة اقتصادية في العالم بما فيه دول الجنوب، فإنها كانت فرصة ذهبية للدول المصدرة للنفط لجني أرباح ضخمة تم إيداعها في بنوك الدول الغنية كأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. ولمواجهة الأزمة التي سببها ارتفاع أسعار النفط، احتاجت دول الجنوب إلى المزيد من القروض الّتي وفّرتها البنوك المذكورة آنفا من البترودولارات المتكدسة عندها.

بداية أزمة السبعينات

شهدت اقتصادات الدول الصناعية المتقدمة خلال نفس الفترة، أي سبعينات القرن الماضي، ارتفاعا لنسب التضخم المالي. قدر مديرو البنوك المركزية في الدول المعنية أنه غير مقبول ويجب وضع حدّ له.  في شهر أوت 1979، عين بول فولكر مديرا للبنك المركزي الأمريكي. ولكبح جماح التضخم، عمد فولكر إلى رفع نسبة الفائدة بشكل دراماتيكي وتبعه في ذلك مديرو البنوك المركزية الأخرى في الدول الصناعية المتقدمة. وكان لهذا الإجراء تأثير سلبي إضافي على اقتصادات دول العالم الثالث. فبالإضافة إلى التأثير السلبي الذي سببته هزّتا السبعينات النفطيتين (the oil shocks of the 1970s)، أدى رفع نسبة الفائدة إلى ركود اقتصادي في البلدان الصناعية، وبالتالي إلى ارتفاع نسب البطالة وتدني حجم الإنفاق في تلك البلدان.

وباعتبار أن البلدان الرأسمالية المتقدمة تمثل أسواقا لبلدان الجنوب، فإن الأزمة الاقتصادية التي هندسها فولكر وشركاؤه في الدول الصناعية الأخرى أدت إلى تراجع صادرات دول العالم الثالث. وهكذا انتهى مشروع باندونغ أو اشتراكية العالم الثالث أو رأسمالية الدولة (أو سمّه ما شئت). مع بداية الثمانينات، بدأت دول الجنوب المثقلة بالديون تعلن الواحدة تلو الأخرى عجزها عن الإيفاء بالتزاماتها المالية تجاه المقرضين.

جدير بالذكر أن دولة الرعاية التي تأسست بعد الحرب في الدول الرأسمالية المتقدمة والتي اعتمدت الكينزيانية كإديولوجيا، انتهت هي أيضا في سبعينات القرن الماضي. أما المنظومة السوفياتية فكانت هي الأخرى تحتضر، إذ ظهرت بوادر أزمة عميقة في السبعينات، وقد قامت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بكتابة تقارير رفعت عنها السرية عن تلك الأزمة التي عرفها الإتحاد السوفياتي من السبعينات حتى انهياره وحله رسميا بداية التسعينات.

نهاية الدولة الراعية وبداية المشروع النيوليبرالي

قام كتاب وباحثون من تيارات فكرية وإيديولوجية مختلفة بتقييم المناويل الاقتصادية التي عرفها العالم خلال فترة ما بعد الحرب بما فيها التجربة التنموية في العالم الثالث. ورغم تعدّد التقييمات بتعدد المشارب والمدارس، فقد قررت السّياسة أن يعلو صوت تيار فكري بعينه على أصوات التيارات الأخرى وتمّ تبني أطروحات ذلك التيار كإيديولوجيا رسمية منذ بداية الثمانينات.

كان انتخاب ثاتشر رئيسة وزراء في المملكة المتحدة وريغين رئيسا في الولايات المتحدة الأمريكية اللحظة التي انتصر فيها المشروع النيوليبيرالي من جهة، ومن جهة أخرى اللحظة التي أعلن فيها موت الكينيزيانية ونظريّة دولة الرعاية. فمنذ انتخاب الثنائي المذكور، بدأت ترجمة النيوليبرالية من نصوص نظرية محفوظة في الكتب إلى سياسات تطبق في الواقع وتفعل فعلها في الناس وقوتهم.

قبل نهاية الحرب الإمبريالية الثانية بثلاث سنوات، قدم ويليم بيفردج تقريرا إلى البرلمان البريطاني شخّص فيه خمس علل يعاني منها المجتمع البريطاني سماها بيفردج “بالعقبات الخمس الكبرى في طريق إعادة البناء” وهي الحاجة والمرض والجهل والبؤس والبطالة. وبين سبر آراء حول التقرير أن أغلبية البريطانيين يريدون تنفيذ التوصيات الواردة في التقرير بسرعة. فكان ذلك وبدأت دولة الرعاية في بريطانيا وغيرها من البلدان الصناعية المتقدمة. ورغم أغلبية مساندة لم يكن الجميع راضيا عن العقد الاجتماعي الجديد ودولته دولة الرعاية. فمنذ البداية عارضت مجموعة من الكتاب والمفكرين المشروع الجديد، وأسست ما أصبح يعرف بالتيار النيوليبرالي.

يقوم النقد النيوليبرالي على فكرة أن دولة الرعاية كانت سخية وجعلت الفرد متواكلا لا يعوّل على نفسه، وخلقت ثقافة خنقت المبادرة الفردية. تقول النيوليبرالية أيضا إنه ليس دور الدولة الاستثمار والتشغيل وإدارة الاقتصاد، بل يجب أن يقتصر دورها على توفير بنية مؤسساتية وقانونية تشجع الاستثمار الخاص.

يقول الماركسي دايفد هارفي في شرحه للإيديولوجيا النيوليبرالية إن من مهام الدولة النيوليبرالية “ضمان مصداقية العملة وجودتها، مثلا. وحماية حق الملكية الخاصة بالجيش والبوليس والقانون، وضمان سير السوق الحرة وحمايتها ولو بالعنف (أي عنف البوليس والجيش) إن لزم الأمر.”

بين الليبرالية الكلاسيكية والنيوليبرالية

يقدم النيوليبراليون أنفسهم على أنهم ورثة المدرسة الليبرالية الكلاسيكية، أي مدرسة آدم سميث وجون ستووارت ميل وغيرهما من المنظرين. ولكن يرى كثيرون أنه ثمة اختلافات جوهرية بين النيوليبرالية والليبرالية الكلاسيكية. فمثلا يرى ناقد النيوليبرالية فيلب ميروفسكي “أن الليبرالية الكلاسيكية كانت مهتمّة بمسألة الحرية الفردية والمساواة السياسية وحقوق الإنسان، في حين أن كلّ ما يهمّ النيوليبرالية هو إقامة الأسواق الحرة ومنع تدخل الدولة فيها. وهكذا فإن النيوليبرالية هي أولا وأساسا نظرية في كيفية تنظيم الاقتصاد، وليست أيديولوجيا سياسية بمعنى الليبرالية السياسية.”

معلوم أن مؤسسي الإيديولوجيا النيوليبرالية أوروبيون وأمريكيون أساسا. ولكن هذه الإيديولوجيا سرت سريان النار في الهشيم وانتشرت في كل مكان معلنة نهاية التاريخ وانتصار السوق على الإنسان في كل أصقاع الأرض تقريبا. انتصبت السوق كمسيح جديد، فهي الطريق والحق، القيامة والحياة، منصفة عادلة فمن آمن بها وزرع حصد (بالمناسبة إن زرعت ولم تحصد، والأغلب أنك لن تحصد خاصّة إن كنت في أسفل السلم الاجتماعي، فتلك مشكلتك كما تؤكد النيوليبرالية التي ما انفكت تردّد أن السوق منصفة وعادلة). تلك السوق هي الإله الجديد. أما الإنسان فقد انغمس في عبادة المادة واللهث وراء جنة مفاتيحها حسنات تقدّر بكمية الممتلكات المادية. ويحرس معبد هذا الدين الجديد ويشرح نصوصه المقدسة ويجددها كهنة نجدهم في الجامعات ومراكز البحوث والإعلام وغيرها من الميادين.

النيوليبرالية الاقتصادية ومكانة القطاع الخاصّ

دخلت الإيديولوجيا النيوليبرالية العالم الثالث من باب برامج الإصلاح الهيكلي. فمع انهيار المنوال الاقتصادي الذي اعتمدته دول الجنوب خلال فترة ما بعد الاستقلال، اتّهم النيوليبراليون الدولة محمّلينها أسباب الفشل، وقالوا إنّ الاستثمار والتشغيل وإنتاج السلع والخدمات وظيفة القطاع الخاص لا الدولة. إذ تقول الإيديولوجيا النيوليبرالية إنّ القطاع الخاص، على عكس الدولة، يهمه الربح لا المكاسب والمناصب السياسية ولذلك هو أكثر حذرا من الدولة ولن يجازف بالاستثمار في مشاريع غير مضمونة.

نحت النيوليبرالي ويليمسون عبارة إجماع واشنطن آخر ثمانينات القرن الماضي ليشير إلى السياسات التي تقترحها وتشرف على تنفيذها المؤسسات المالية الدولية في أمريكا اللاتينية ومن بعدها بقية العالم الثالث. ولخّص ويليمسون إجماع واشنطن في عشر نقاط تركز على التقشف وتخفيض الضرائب على الشركات والأرباح (يقال لتشجيع الاستثمار وهذه مغالطة) وتحرير صرف العملة وتشجيع استثمار الأجانب وتحرير الاقتصاد وضمان حق الملكية الخاصة.

جدير بالذكر أن إجماع واشنطن النيوليبرالي لا يهمه الفقر ولا الفوارق الاجتماعية، كل ما يؤكد عليه هو تحفيز الاستثمار الخاص وبذلك تحلّ كلّ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية عملا بمبدأ trickle-down economics، أي لو زاد الأثرياء ثراء فسيستثمرون أكثر وبذلك سيخلقون مواطن الشغل وسيعمّ الرخاء. ولكن هذه مغالطة، إذ لا يمكن في اقتصاد حرّ توجيه المستثمر الخاص أو مطالبته بالاستثمار أكثر. من جهة أخرى، تراهن الإيديولوجيا الاقتصادية السائدة على الاستثمار الخاص كقاطرة للنمو الاقتصادي. وبالتالي فعلى الدولة التخفيض في استثماراتها لفتح المجال أمام القطاع الخاص الذي سيملأ الفراغ ويستثمر ويخلق مواطن الشغل وينتج السلع والخدمات ويعمّ الرخاء. لكن الإحصائيات تشير إلى أن الاستثمار على مستوى البلاد ككلّ متناسب إيجابيا مع استثمارات القطاع العام، أي إذا ارتفعت استثمارات الدولة ارتفع معدل الاستثمار في البلاد كلّها وإذا انخفضت انخفض.

يشير الرّسم البياني أدناه عن الاستثمار في تونس إلى العلاقة الإيجابية بين إجمالي الاستثمار في البلاد واستثمارات القطاع العام. ويناهز التناسب (correlation) السبعين في المائة وهي نسبة عالية جدا.

أسطورة اقتصاد السوق

بلغت النيوليبرالية اليوم الأربعين أو أكثر بقليل، وبحسب أطروحاتها فعلى العالم الثالث أن يكون أفضل حالا اليوم بعد أن فتح المجال للقطاع الخاصّ وخفف من الدور الاجتماعي الذي كانت تلعبه الدولة خلال فترة ما بعد الاستقلال. ولكنّ الحقائق العنيدة لا تؤيد ذلك. يقول الاقتصادي الكوري الجنوبي ها دجون تشانغ بأن إفريقيا مثلا، سجلت نسبة نموّ خلال الستينات والسبعينات (أي فترة ما بعد الاستقلال) أعلى من النسب التي حققتها القارة خلال الفترة النيوليبرالية. ويقول تشانغ “إنّ السبب الحقيقي للركود الاقتصادي الذي عرفته إفريقيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة هي سياسات السوق الحرّة التي فرضت على القارة خلال الفترة المذكورة […] فبتعريض المنتجين غير المتمرّسين (في إفريقيا وغيرها من العالم الثالث) فجأة إلى المنافسة العالمية، أدت سياسات السّوق الحرة إلى انهيار القطاعات الصناعية القليلة التي تمكنت هذه البلدان من بنائها خلال الستينات والسبعينات.” جدير بالذكر أن هذه الظاهرة لم تكن حكرا على دول الجنوب. فبناء على إحصائيات رسمية ومتاحة للجميع، استنتج ها دجون تشانغ بأن الدول الصناعية المتقدمة شهدت انهيارا لنسب النمو الاقتصادي خلال الفترة النيوليبرالية مقارنة بفترة ما بعد الحرب التي لعبت فيها دولة الرعاية دورا اجتماعيا مهما. ويقول تشانغ إنّ هذه الدول حققت نسبة نمو خلال فترة ما بعد الحرب أعلى مرتين من نسبة النمو خلال الفترة النيوليبرالية.

مشكلة النيوليبرالة الأساسية أن الواقع لا يدعم أطروحاتها. فهي مجوعة من النظريات مبنية على الإيمان (بالمعنى الديني للإيمان، أي مجرد تصديق) بأن السوق الحرّة هي أفضل نظام اقتصادي على الإطلاق وأن أي تدخل للدولة فيها كتعديل الأسعار والدعم والاستثمار في الصحة والتعليم يفسد حسن سيرها ويؤدي إلى هدر الموارد.

ولكن الوقائع العنيدة تعلمنا أن كوريا الجنوبية، مثلا، بدأت نهضتها الصناعية بداية ستينات القرن الماضي. وعلى عكس مصر التي كان لها مستوى دخل قريب من المستوى الكوري نهاية الخمسينات وبداية الستينات كما يبين الرسم البياني أعلاه، تقدمت كوريا التي طبقت سياسات حمائية وقاومت الضغوط النيوليبرالية، وتدهور وضع مصر بعد أن دمّر إنفتاح السادات ومن بعده فساد مبارك ما بناه عبد الناصر.