المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
تونس، 2021. صورة لطارق العبيدي

ومن المهمّ هنا أن نذكّر بما اتّخذه الرئيس من تدابير سابقة أدت إلى إعفاء الحكومة وتجميد مجلس نواب الشعب في مرحلة أولى ثم حله في مرحلة ثانية، ليمسك زمام السلطتين التشريعية والتنفيذية اضافة إلى فرض الرقابة على السلطة القضائية. وبدأ أفول دستور 2014 مع تعيين اللجان المتعددة التي انضوت تحت مسمّى “الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة”التي كُلّفت بالإشراف على الحوار الوطني وصياغة مشروع دستور جديد.

وبما أن ”عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه” على حد عبارة العلاّمة ابن خلدون، فإنه ومنذ الوهلة الأولى لنشره بالرائد الرسمي، اختلفت ردود الفعل بين مؤيّد ومعارض لما يحمله مشروع الدستور الجديد من توجّهات عامة تعلّقت أساسا بملامح النظام السياسي المعتمد ومآل الحقوق والحريات.وقد دفعت ردود الفعل الناقدة رئيس الجمهورية إلى إصدار الأمر الرئاسي عدد 607 في 8 جويلية 2022 المتعلق بإصلاح أخطاء تسرّبت إلى مشروع الدستور المنشور. وبغضّ النظر عن الوجاهة القانونية لهذا التعديل، فإنه يتعين الإشارة إلى أن الأمر الرئاسي عدد 607 لم يقتصر على إصلاح الأخطاء المتسربة، بل أدخل 46 تعديلا على النسخة الاولى، بعضها تغييرات جوهرية مست من روح النص المقترح.

لئن اعتُبر دستور 2014 مكسبا هاما في مجال الحقوق والحريات بما مثّله من قطع مع سلطوية النظام المؤسّسِ صلب دستور 1959، بتكريسه ضمانات فعلية للحقوق والحريات وارساء أسس دولة القانون رغم بعض النقائص النصيّة والواقعية، إلاّ أن ما حمله مشروع الدستور الجديد يحوي بعض التناقضات والمخاطر على ما خطّته الدولة التونسية وما قطعته من أشواط نحو إرساء ديمقراطية “حقيقية”وتدعيم أسس دولة الحق والقانون.

فهل يحمل مشروع الدستور تدعيما للحقوق والحريّات أم تراجعا عنها؟

إن الإجابة عن هذا التساؤل ليست هيّنة وتبدو أكثر تعقيدا في الوضع الدستوري الحالي وهو ما يتطلّب مقارنة ما عرفه التاريخ الدستوري التونسي القريب، وأساسا دستور 2014، مع مضمون مشروع دستور 2022، دون التأكيد على أن النظام الجمهوري يرتكز لا فقط على الاعتراف الصوري بالحقوق والحريّات وإنّما على توفير أقصى سُبل الحماية لها بداية من صياغة نصّ إعلانها، مرورا بقيود تعديلها وصولا إلى الآليات القانونية الكفيلة بحمايتها.

الباب الثاني بين دستور 2014 ومشروع دستور 2022

الباب الثاني من دستور 2014 المتعلّق بالحقوق والحريات و ما حمله من تعبيرعن إرادة صريحة لتكريسها دستوريا وتحصينها من كل محاولات المساس بها، وجب التذكير بأنهاكانت نتيجة ضغط مجتمعي حقوقي من أجل تدعيم قيم الديمقراطية وإرساء منظومة حامية للحقوق والحريات.

لقد حافظ مشروع دستور الجمهورية الجديدة بنُسختيه على بعض الفصول بنفس الصياغة، في حين عرفت فصول اخرى تدعيما لبعض الحقوق. حيث ضمن الفصل 26 حرية الفرد و بعد أن أكّد الفصل 52 أن الدولة تتكفل بالأطفال المُتخلّى عنهم أو مجهولي النسب، و ذلك قبل أن يعدل بالأمر لينص على أنحقوق الطّفل على أبويه وعلى الدّولة ضمان الكرامة والصّحّة والرّعاية والتّربية والتّعليم. وعلى الدّولة أيضا توفير جميع أنواع الحماية لكلّ الأطفال دون تمييز وفق المصالح الفضلى للطّفل كما نصّ الفصل 53 على ضمان الدولة المساعدة للمسنّين الذين لا سند لهم. مقابل ذلك، بَنَت فصول أخرى حواجز وأكّدت بعض التخوّفات في علاقة بمآل الحقوق والحريات في تونس.

فمثلا، تضمّن الفصل 41 من مشروع الدستور منعا صريحا للقضاة من حقهم في الإضراب. ولا يخفى على أحد أن هذا المنع جاء كردّة فعل على ما شهدته الساحة القضائية من مصاعب و”صراعات”انطلقت مع “حلّ”المجلس الأعلى للقضاء وتعويضه – لأجل غير معلوم – بالمجلس الأعلى المؤقت للقضاء وعرفت أوجها إثر إعفاء 57 قاضيا بموجب الأمر الرئاسي عدد 516 لسنة 2022. وقد عبر رئيس الجمهورية في وقت سابق على أن القضاء وظيفة وليس سلطة ولا يحق للقضاة الإضراب عن العمل معتبرا استمرارية مرفق القضاء من استمرارية الدولة. ويحيلنا هذا التغيير المفاهيمي إلى ما تضمّنه مشروع الدستور من اعتماد عبارة “وظيفة”عوضا عن”السلطة”كما درج أن تتضمّنه الدساتير على مستوى السلطات المؤسَّسَة. هل من تبعات قانونية لهذا التغيّر المفاهيمي؟ هل يحمل نتائج على مستوى العلاقة بين السلطات أو مجال تدخّلها وصلاحياتها الدستورية؟

كلاسيكيا، السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية هي سلطات مؤسَّسَة بمقتضى النصّ الأعلى للدّولة، منفصلة ومستقلة عن بعضها البعض تماهيا مع مبدأ الفصل بين السلط. وبتحييد الوظيفة القضائية التي يمكن أن نجزم أن استقلاليتها لن تكون رهينة التسمية الدستورية وإنما مدى التنصيص عن الاستقلالية الإدارية والمالية للهيكل الذي سيتولى الإشراف على تنظيم هذه السلطة، وهو ما تخلّى عنه مشروع الدستور.

من جهة أخرى، يظهر بوضوح إشكال المسمّى في علاقة بــ”الوظيفة التشريعية”. حيث درج فقهًا وفي فقه القضاء الدستوري اعتبار وظيفة التشريع جزءا – أساسيّا بالتأكيد – ممّا يُسند لممثلي الشعب المنتخبين من وظائف، حيث ترتبط هذه الوظيفة باقتراح ومناقشة النصوص التشريعية المعروضة على الجلسة العامة للمجلس النيابي لتدخل فيما بعد حيّز النفاذ بنشرها بالرائد الرسمي.

ويُخشى أن يكون تغيير هذا المسمّى الدستوري حطّا من القيمة الدستورية لبقيّة وظائف المجلس النيابي والمرتبطة بالرقابة على مؤسسات الدولة، سواء كانت دستورية أو إدارية مستقلة أو عمومية، فضلا عن مساءلة أعضاء الحكومة وفرضيّة مساءلة رئيس الجمهورية التي وقع التخلّي عنها ضمن المشروع الجديد.

وجدير بالذكر أن فصول مشروع الدستور في نسخته الأولى التي أوردت عبارة “سلطة”ترتبط فقط بمسألتين. الأولى تتعلق بالسلطة الترتيبية العامة الممنوحة إلى رئيس الجمهورية بوصفه مُمَارِسَ الوظيفة التنفيذية خارج مجال القانون. أما الثانية، فقد وردت بالفصل 129 الذي يكرس إلزامية الأحكام التي تصدرها المحكمة الدستورية لكل السلطات. فهل أن رئيس الجمهورية له سلطة سن التراتيب العامة المجردة والملزمة في حين أن المشرع له وظيفة سن القوانين؟ وهل استعملت كلمة “سلطات”في الفصل 129 سهوا نتيجة لاستنساخ الفصل 121 من دستور 2014؟ وهل ستكون أحكام القضاء الدستوري ملزمة فقط للسلطة الترتيبية العامة؟

الإجابة على هذا التساؤل تأتينا من خلال ما أوضحته التعديلات، موضوع الأمر الرئاسي عدد 607 المذكور آنفا، المدخلة على المشروع الأصلي بأن استعمال كلمة “سلطات”كان سهوا وقع التخلّي عنها والاكتفاء بأن قرارات المحكمة الدستورية تكون ملزمة للجميع.

رغم ما تضمّنه الباب الثاني من مشروع الدستور من إضافات للحقوق والحريات، تعدّدت الإحالات إلى قوانين لاحقة قد تحمل في طيّاتها حدودا متنوعة: إمّا أن يتأخر صدور النص التشريعي بطريقة تجعل من التمتع الكامل بالحق أمرا مُؤجّلا وإما يأتي النصّ بحدود تمسّ بجوهر الحق.

مدنية الدولة رهينة “مقاصد الإسلام الحنيف”

مع تعبير رئيس الجمهورية عن رؤيته لمسألة دين الدولة وتوضيحه المتكرّر أن لا دين للدولة بوصفها ذاتا اعتبارية معنوية، توقعت شريحة هامّة من أفراد الشعب التونسي وكذلك من المتابعين للحياة الدستورية فصلا تاما للدين عن الدولة. إلا أن ما جاء به مشروع الدستور كان مختلفا تماما عمّا كان مُنتظرا. فتمّ التخلي عن مدنية الدولة وتعويضها بأحكام تمسّ عمق المدنيّة التي ميزّت “الجمهوريات”التونسية وأوضحت كثرة التناقضات الهوياتية التي أضعفت الصياغة الدستورية وانسجام النصّ الدستوري، “وهو نصّ مشحون بالسياسة”[1]، ولكن أيضا حاملٌ لتصورات المجتمع التونسي وانتظاراته.

تكمن أهمية تكريس مدنية الدولة في الضمانات التي توفرها للمواطن. فالدولة هي تنظيم سياسي وقانوني تسمح بالفصل بين ظاهرة السلطة والأشخاص الحاكمين وتوفر إقامة مؤسسات تخضع لقواعد وأحكام تعبر عن إرادة الأشخاص[2]. أمّا ‘مدنية الدولة فهي تعني أنه لا يمكن أن تكون إلاهية بل هي دنيوية باعتبار أن الانسان مدني بطبعه كما أكد ذلك ابن خلدون، فالقانون له صبغة دنيوية معبرة عن إرادة الشعب[3]. وبالتالي، الدولة المدنية عمادها الحرية وإرادة الشعب وعلوية القانون والقائمة على المواطنة، فاصلة بين المقدس والسياسة ومبنية على أسس عقلانية وعلمية ومنطقية مما يجعل المدنية لا صفة للدولة فقط وإنما شرطا لاكتمالها.[4]

وإن كان اعتبار التنصيص على مدنية الدولة مكسبا هاما من مكاسب دولة القانون في دستور 2014 في الفصلين الأول والثاني منه مع تحصينهما من أي تعديل دستوري، فإن مشروع دستور 2022 تخلّى عن التنصيص الصريح على مدنية الدولة واكتفى بتفتيت مضمونها ومقوّماتها على فصول متعددة.

وفي المقابل، نص الفصل الخامس من المشروع على أن تونس جزء من الأمة الاسلامية وأن الدولة تعمل وحدها، في ظلّ نظام ديمقراطي، على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية، ضاربا بذلك مقوّم الفصل بين السياسة (التي ستتمظهر في مؤسسات الدولة) والدين. حيث يُستشفّ من هذا الفصل بأنه ستكلّف “الوظائف”بالعمل على تحقيق مقاصد الإسلام حتى وإن تعارضت مع ما تضمّنه نفس النصّ من حقوق وحريات. والمُلاحظ أنّ إقحام تركيب “نظام ديمقراطي”لا ينفي عن التناقضات التي يتضمنها مشروع الدستور في هذا الجانب شيئا، خاصّة و أن الصياغة المعتمدة تُحيل إلى التشارك في تحقيق مقاصد الإسلام (وهو ما يتناقض مع عبارة “وحدها”) لا التخلّي التامّ عن هذا الالتزام.

إن حذف التكريس الصريح لمدنية الدولة قد يشكّل تهديدا لما ترسّخ من مبادئ المواطنة والمحافظة على الحقوق والحريات التي نادى الشعب التونسي بها منذ ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011 خاصّة إذا ما تم تغليب مقاصد الإسلام المذكورة صراحة في الدستور على حساب مدنية الدولة.

إضافة إلى ذلك، ورغم اشتراك الفصل السادس من دستور 2014 والفصل السابع والعشرين والثامن والعشرين من مشروع الدستور الجديد في تكريس حرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، فإن الاختلاف يكمن في تنصيص الفصل السادس على أن الدولة ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي ملتزمة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدسات ومنع النيل منها ومنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف والتصدي لها. وبالتالي، فإن للدولة دور جوهري في إرساء قيم التسامح والتصدي لكل تطرف عنيف من شأنه أن يهدد مدنية الدولة، في حين أن الفصل الثامن والعشرين يضمن ممارسة الشعائر الدينية طالما لم تخالف الأمن العام. وهو ما يدفعنا للتساؤل هل أن محافظة الدولة على الأمن العام يحمل في طياته ما كرسه الفصل السادس من دستور 2014 صراحة أم أنه يمكن الاستناد على هذا الفصل للحد من ممارسة الشعائر الدينية للديانات الأخرى خاصة في إطار دولة منتمية إلى الأمة الإسلامية وتعمل على إرساء مقاصد الإسلام كما جاء بذلك الفصل الخامس؟

الحدود على الحريات: أي توجه؟

انطلاقا من مقولة إيمانويل كانط: في القانون، الإنسان مذنب عندما ينتهك حقوق الآخرين. في الأخلاق مذنب إذا كان يفكر في القيام بذلك“، يمكن أن نتبيّن ظهور الحاجة، منذ عقود من وجود الدولة الحديثة، إلى إيجاد قواعد تبيّن حدود ممارسة الحق أو الحريّة بطريقة تضمن عدم المساس بحقوق الآخرين. وتبلورت هذه الفكرة فيما مُنح للسلطة التشريعية من قدرة على تنزيل التكريس الدستوري للحقوق والحريات في قوانين تبين كيفية ممارسة الحق، وعلى رسم حدود ممارسته.

في هذا السياق، تبيّن القراءة الأولّية لمشروع الدستور تواتر الإحالات إلى نصوص تشريعية لاحقة،ما يمنح المشرّع دورا كبيرا في تحديد مآل الحقوق والحريات المكرسة دستوريا حتى بوجود الفصل 55 الذي يحصن جوهرها من أي نيل. ورغم التشابه بين روحَي الفصل 49 من دستور 2014 والفصل 55 من مشروع دستور الجمهورية الجديدة، فإن النص الجديد يحمل في طيّاته تراجعا ملموسا.

حيث اعتُبر الفصل 49 من دستور 2014 حصنا منيعا للحقوق والحريات أمام كل محاولة نيل من جوهرها، بأن أرسى جملة من الضوابط والمبادئ التي تنظم كل حد من الحقوق والحريات ومقيّدا لسلطة واضع النصّ التشريعي عند تدخّله في مجال الحقوق والحريات – فردية أو عامّة – مؤكّدا بذلك على أن الحرية هي المبدأ والحد منها هو الاستثناء. حيث ينص الفصل 49 على أن الحد من الحقوق والحريات لا يكون إلا بقانون وألاّ ينال الحدّ من جوهرها (أي ألاّ يفرغها من محتواها) ولضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية بهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة. كما ينص الفصل صراحة على مبدأ التناسب بين الضوابط وموجباتها جاعلا من سائر الهيئات القضائية العين الساهرة على احترام هذه الأحكام وخاصا القضاء الدستوري بضمان عدم التراجع عن المكتسبات في صورة اللجوء إلى أي تعديل.

ولئن حافظت النسخة الأولى من الفصل 55 من مشروع الدستور على جزء كبير مما جاء به الفصل 49، إلا أنه حذف مدنية وديمقراطية الدولة من بين أهداف التدخل التشريعي في مجال الحقوق والحريات. حيث اكتفى الفصل الجديد بالتعداد الحصري لمقتضيات الأمن العام والدفاع الوطني والصحة العامة وحقوق الغير كمحددات للحقوق والحريّات حتى وإن لم تتلاءم مع أسس الدولة المدنية الديمقراطية الذي أحلنا إليه سابقا ومتخليّا عن التناسب بين الحدّ وموجباته المذكورة. فأيّ ضمان لصاحب الحقّ بألا يُسلّط على حقّه قيدٌ مبرّر بالضرورات ولكن ينال من جوهره؟

تبدو المسألة معقدّة بطريقة تجعل من الضروري التذكير بأنّ مبدأ التناسب ينقسم الي ثلاث عناصر وهي الملاءمة والضرورة والموازنة. وهذا التمشّي الثلاثي لا يعدّ “بدعة تونسية”بل هو تمشّ ضارب في القدم، حتى على المستوى الدولي. ففي سنة 1999، بيّنت اللجنة المعنية بالحقوق المدنية والسياسية في تعليقها على المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بأنه “يجب أن تتماشى التدابير التقييدية مع مبدأ التناسب، ويجب أن تكون مناسبة لتحقيق وظيفتها الحمائية، ويجب أن تكون أقلّ الوسائل تدخّلا مقارنة بغيرها من الوسائل التي يمكن أن تحقق النتيجة المنشودة، ويجب أن تكون متناسبة مع المصلحة التي ستحميها”[5].

تعتبر الملاءمة مقارنة توافق الإجراء الجديد للغرض الذي لأجله تم الحد من الحرية، فتقتضي بذلك التثبت من الصلة المنطقية بين التقييد والهدف المنشود منه. أما الضرورة فهي مقارنة بين الاجراء والغرض من حيث الضرورة وتسعى هذه الخطوة الى تحقيق التقييد الذي يكون ضرره” أقل ضرر ممكن”على الحق المحمي. أما بالنسبة للموازنة، فهي تتمثل في تقدير “الكلفة”بالنسبة إلى الحرية والمنفعة بالنّسبة الى المصلحة المحمية وحجم الخطر على الحق أو الحرية موضوع التقييد، مما يفرض ألاّ يكون انتهاك الحرية جسيما مقارنة بضآلة المصلحة التي ستحصل من انتهاك هذه الحرية [6].

ورغم أنها لم تنصّ صراحة على مبدأ التناسب، فقد تضمّنت النسخة الأولى من الفصل 55 من المشروع فقط إحالة إلى عنصرَي الملاءمة بالتنصيص على أنّ القيود على الحقوق والحريات يجب “أن تكون مبرّرة بأهدافها ومتلائمة مع دواعيها”.

من هذا المنطلق، يمكن الإقرار بالتراجع الملحوظ الذي سيكرّسه الفصل الجديد لمنظومة الحماية الدستورية للحقوق والحريات بسبب الحد من أهداف التدخل التشريعي بحذف مقتضيات الدولة المدنية الديمقراطية من جهة، والتخلّي عن مبدأ التناسب بين الحدود وموجباتها بمختلف عناصره من جهة أخرى. ويبقى الأمر موكولا إلى الهيئات القضائية، وأساسا القضاء الإداري والدستوري، في المُضي فيما رسخ في فقه قضائهما من تمسّك بهذه الضوابط واعتبارها ذات قيمة دستورية، وإن لم تُذكر، خصوصا وأن مشروع الدستور قد حافظ على الدور المحوري للهيئات القضائية في المحافظة على الحقوق والحريات من أي انتهاك.

ويُشار إلى أن ردود الفعل العديدة حول التراجع عن التنصيص على مدنية الدولة وديمقراطيتها، دفعت رئيس الجمهورية إلى تلافي هذه النقائص،من ذلك الإدراج الصريح لضرورة احترام مبدأ التناسب في كُليّته وبأن صارت ديمقراطية الدّولة محُدّدا لضرورة التدخل التشريعي على الحقوق والحريّات مع التمسّك بالتخلّي عن مدنيتها، تماهيا مع التوجّه إلى تحقيق مقاصد الإسلام – وتحديدا مقاصد الشريعة – التي تتعارض مع مدنية الدولة كما عرّفناها أعلاه.

عموما، راوح مشروع الدستور الجديد بين النقل والإضافة والتراجع، فاستُنسِخت عديد فصول الباب الثاني المتعلق بالحقوق والحريات الواردة بدستور 2014 وتغيّرت صياغة بعضها بطريقة تخلّى فيها واضع الدستور عن بعض المحدّدات الخصوصية. وأضاف المشروع بعض الضمانات في بعض الحقوق والحريّات وفصّل دور الدولة المنتظر فيها. ولكن تراجع المشروع عن حقوق وحريّات أخرى مع تحصين صاحب النصّ التشريعي المستقبلي من محدّدات تدخّله.


[1] ناجي البكوش، “إرساء المحكمة الدستورية”، دراسات قانونية عدد 22، 2015، منشورات مجمع الأطرش للكتاب المختص، ص. 18.

[2] عبد الغتاح غمر, الوجيز في القانون الدستوري, مركز الدراسات و البحوث و النشر’ 1987, ص,92

[3] لمياء ناجي، “مدنيّة الدولة”، قراءات في دستور الجمهورية الثانية، منشورات مدرسة الدكتوراه بكلية الحقوق بصفاقس، عدد 4، 2014، ص. 23.

[4] لمياء ناجي، “مدنيّة الدولة”، المرجع السابق، ص. 23.

[5] التعليق العام عدد 27 للجنة المعنية بالحقوق المدنية والسياسية حول المادة 12 (المتعلقة بحريّة التنقل) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966، 1999، الفقرة 14.

[6] انظر كوثر دباش، الفصل 49 والحريات الفردية: هل من قراءة أخرى؟، دراسة في إطار أنشطة المشروع المتعلق بتطبيق الفصل 49 من الدستور، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، 2021.

https://www.idea.int/sites/default/files/publications/article-49-and-individual-freedoms-is-there-another-reading-ar.pdf