تحمل هيئة الانتخابات الجديدة وزرًا ثقيلا منذ انطلاق أعمالها. فأعضاؤها مُعيَّنون بأمر رئاسي طبقا للمرسوم عدد 22 المتعلّق بتنقيح القانون الأساسي للهيئة العليا المستقلة للانتخابات. ومنذ انطلاق أعمالها فعليّا في 12 ماي 2022، برزت خلافات داخلها، ظاهرها تقني وباطنها سياسيّ، بدءًا بطريقة تسجيل الناخبين الجدد وكيفية توزيعهم على مراكز الاقتراع اعتمادا على التسجيل الآلي أو التسجيل الطّوعي، وصولا إلى تفعيل الفصل 15 جديد من المرسوم المنقّح لقانون هيئة الانتخابات، الّذي يوضّح إجراءات إعفاء أعضاء الهيئة. وبعيدًا عن خلافاتها الداخلية التقنيّة، تواجه الهيئة انتقادات من الأحزاب ومن المنظّمات غير الحكومية والجمعيّات حول سير عمليّة الاستفتاء والأرقام المتضاربة الصادرة عنها.

تهم بالتزوير وطعون في نتائج الاستفتاء

جبهة الخلاص المقاطعة للاستفتاء، شكّكت في النتائج الصادرة عن هيئة الانتخابات خلال ندوة صحفية عقدتها يوم الأربعاء 27 جويلية، فيما أشادت بنسبة العزوف عن المشاركة التي بلغت ما يناهز 75 بالمائة. أمّا الحملة الوطنيّة لإسقاط الاستفتاء الداعية بدورها إلى مقاطعة الاستفتاء فقد اعتبرت أنّ ما حدث في مرحلة الإعداد للدستور ”فضيحة كبرى“، رافضة نتائج الاستفتاء اعتبرتها ”مزوّرة“.

أمّا حزب آفاق تونس الّذي دعا إلى التصويت ضدّ مشروع دستور قيس سعيّد، فقد عبّر في بيان صدر يوم 29 جويلية عن تمسّكه في حقّه بالطعن في النتائج الأولية للاستفتاء ”لما شاب العمليّة الانتخابية من تجاوزات و إخلالات خطيرة“، مُشيرًا إلى ”التخبّط والارتجال اللّذان ميّزا قرارات الهيئة المشرفة على الانتخابات منذ بداية مسار الاستفتاء إلى لحظة إعلان النتائج“.
منظّمة أنا يقظ توجهت بدورها إلى المحكمة الإدارية، ”نيابة عن أحد الأشخاص الطبيعيين المودعين لتصريح المشاركة في حملة الاستفتاء، من أجل إلغاء نتائج الاستفتاء حول مشروع دستور جمهورية جديدة بتاريخ 25 جويلية 2022“، وفق ما ورد في بيان لها يوم 28 جويلية الجاري. كما دعت في بيان سابق إلى فرز الأصوات من قبل لجنة مستقلة دون مشاركة الهيئة، وهو ما اعتبره ماهر الجديدي نائب رئيس هيئة الانتخابات في تصريح لموقع نواة ”فوضى قانونية“ باعتبار أنّ ”هناك جهات رسميّة أوكل إليها القانون التفحّص من هذه العمليّة“، داعيا إلى مزيد ”ضبط النفس“.
موقف أنا يقظ الداعي إلى إعادة فرز الأصوات يتقاسمه مرصد شاهد لمراقبة الانتخابات ودعم التحوّلات الديمقراطية، الّذي دعا في بيان صدر يوم 27 جويلية إلى إعادة فرز الأصوات بإشراف رؤساء الهيئات الفرعية تحت رقابة محكمة المحاسبات وحضور الملاحظين المعتمدين وعدول تنفيذ، داعية هيئة الانتخابات إلى تحمّل مسؤوليّاتها والأطراف المشاركة في حملة الاستفتاء الى الإسراع في تقديم الطعون أمام المحكمة الإدارية وفق ما يقتضيه القانون الانتخابي.
هذا التشكيك في شفافيّة المسار الانتخابي ونزاهته تغذّى من أزمة داخليّة تعيشها هيئة الانتخابات بين العضو سامي بن سلامة وبقيّة أعضاء الهيئة، مردّها تدوينات بن سلامة المنتقدة لطريقة سير عمل مجلس الهيئة التي لم تحترم ”واجب التحفظ وكتمان السرّ المهني“.

التّهم الموجّهة لمجلس الهيئة

سامي بن سلامة، عضو الهيئة العليا المستقلة للانتخابات يعتبر أنّ مجلس الهيئة الحالي ”انتهى وهو غير جدير بالثقة“، على اعتبار أنّه ضالع، حسب رأيه، في الخطأ المُرتَكب في نشر النتائج الأولية للاستفتاء. ويقول في تدوينة له على موقع فايسبوك بتاريخ 29 جويلية الجاري، إنّ المدير التنفيذي للهيئة، الّذي يُشرف عليه مباشرة رئيس مجلس الهيئة فاروق بو عسكر، ”قد سيطر تمامًا على قاعة العمليّات ومنع فريق الإعلامية وعلى رأسهم عضو مجلس الهيئة نوفل فريخة (عضو الهيئة المختصّ في مجال المنظومات والسلامة المعلوماتيّة)، من الاطلاع على النتائج“، وهو ما حال دون التثبّت من النتائج بطريقة مستقلّة، وفق تدوينة بن سلامة. ”هو مجرّد صورة في الهيئة، والمدير التنفيذي هو الّذي يقرّر“، يقول بن سلامة في تصريح لشمس أف أم.

هذه الاتهامات التي وجّهها سامي بن سلامة ليست إلا جزءًا من أزمة حادّة داخل هيئة الانتخابات. فحرب التدوينات والتصريحات المضادّة انطلقت منذ فترة، حين وجّه مجلس الهيئة تنبيها رسميّا إلى العضو سامي بن سلامة يتّهمونه فيها بإرباك الإدارة ”تمهيدًا لعزله“، وفق ما جاء في نصّ تدوينة على صفحته الخاصّة. ويعود السبب في ذلك، وفق بن سلامة، إلى المنهجية التي أرادت الهيئة فرضها في تسجيل الناخبين الجدد وتضمينهم في سجلات الهيئة، إذ ينصّ المرسوم عدد 34 على اعتماد التسجيل الآلي أو الإرادي لغير المُسجَّلين، وعلى توزيع المُسجَّلين آليّا على المراكز الأقرب إلى مقرّات إقامتهم. ولكنّ سامي بن سلامة اعتبر أنّ الهيئة لم تمتثل لما جاء في المرسوم ووزّعت المسجَّلين الجدد على مراكز بعيدة عن مقرّات سكنهم. ودعا في تدوينة له يوم 26 جويلية، يومًا بعد الاستفتاء على مشروع الدستور، إلى ”محاسبة من تسبّب في إفشال مشاركة الشباب فوق 18 سنة وتسجيلهم عمدًا خلافًا لأحكام المرسوم بعيدًا عن مقرّات إقامتهم“. ووصل الأمر إلى التلميح بأنّ أعضاء الهيئة يُريدون إفشال الاستفتاء بشتى الطرق، ومن ”أخطرها تشتيت الناخبين“.
كما شكّك سامي بن سلامة في استقلالية عدد من أعضاء الهيئات الفرعيّة وفي عدد من القرارات التي تمّ اتخاذها دون حضوره خلال عدد من الاجتماعات، ودعا في أكثر من مناسبة إلى إجراء جرد لمختلف ممتلكات الهيئة.

مجلس الهيئة يردّ الفعل

وفي خطوة تصعيديّة إزاء تدوينات سامي بن سلامة، أصدر مجلس الهيئة تقريرا في شأنه لرئاسة الجمهورية حول الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها، والمتمثّلة أساسًا في ”خرق واجب التحفّظ والحياد وكتمان السرّ المهني وواجب الاحترام للهيئة وأعضاء مجلسها وللسّلط الرسمية للدولة“. ومن بين التّهم التي تمّ توجيهها لعضو الهيئة، نجد مثلا ”إبداء رأي خاص في موضوع التمويل العمومي لحملة الاستفتاء قبل مداولة المجلس، والحضور في الوقفة الاحتجاجية التي نظّمتها تنسيقية الأحزاب الرافضة لمسار 25 جويلية أمام مقر الهيئة“. ”الواضح أنّهم يريدون استبعادي تمامًا“، يقول بن سلامة.
وبمقتضى الفصل 15 جديد من المرسوم المنقّح لقانون هيئة الانتخابات، فإنّ مقترح الإعفاء يُرفَع من قِبل رئيس الهيئة أو من خمسة أعضاء على الأقل بناء على تقرير معلل وبعد تمكين المعني بالأمر من حق الدفاع. ويرفع مقترح الهيئة إلى رئيس الجمهورية لاتخاذ قرار الإعفاء من عدمه.

”نحن مجبرون على الحياد وكتمان السرّ المهني“، يقول ماهر الجديدي، نائب رئيس هيئة الانتخابات في تصريح لنواة، مضيفًا أنّه ”تمّ اتخاذ الإجراءات المناسبة في شأن عضو الهيئة سامي بن سلامة“ وأنّ القرار تمّت إحالته إلى جهة التسمية، وهي رئاسة الجمهورية. ”القانون هو الفيصل بيننا“، يؤكّد ماهر الجديدي، مشدّدًا أن ”لا مكان للفوضى“ وأنّ القرارات تمّ اتّخاذها بالإجماع من أعضاء الهيئة.

وفي 25 جويلية، تاريخ انعقاد الاستفتاء، تمّ منع سامي بن سلامة من دخول قصر المؤتمرات، حيث تعقد الهيئة نقاطًا إعلامية حول سير عمليّة سير الاقتراع. ”منعوني بقوة أمنية من دخول قاعة العمليات، ومنعوني من دخول قصر المؤتمرات، وخالفوا مرة أخرى القانون. ولم يرسلوا لي دعوة رسمية لجلسة إعلان النتائج“، يدوّن سامي بن سلامة على صفحته الخاصّة، معتبرًا أنّ قرار منعه من دخول قصر المؤتمرات والالتحاق بأعضاء هيئة الانتخابات أمر غير قانوني.

زوبعة الخلافات والتصريحات هذه جعلت الهيئة محلّ تشكيك. فأي أهلية ومسؤولية، أخلاقية قبل تقنية، لها في الاشراف على حدث سياسي في حجم الاستفتاء. وإزاء عزم الرئيس تنقيح قواعد اللعبة الانتخابية، قبل الاعداد للانتخابات التشريعية المزمع عقدها في 17 ديسمبر القادم، تُطرح الأسئلة حول المصداقية التي مازالت تتمتع بها هذه الهيئة، و قدرتها على مواجهة التشكيك الذي طالها بعد نشر النتائج الأولية، لا فقط من معارضي مسار الرئيس، بل حتى من مسانديه الذين ملوا تبرير هفواتها.