بقلم فرحات عثمان،
لا زال العديد من الناس في بلادنا يمانعون في رفع عقوبة الإعدام في تونس، رغم أن منع هذه العقوبة من المؤشرات على التطور الديمقراطي و ذلك لاعتقادهم أن هذا يخالف الدين الإسلامي وأخلاقياته. وهو من الخطأ الفاحش لأنه يجعل من دين الرحمة الذي هو إسلامنا دين النقمة وطغيان العقاب على التوبة والغفران.فالإسلام جاء رحمة للناس ودعا إليها. لذا، فقد حدد الحالات التي تقتضي عقوبة الإعدام تحديدا متشددا، داعيا دوما إلى العفو والمغفرة لأصحاب الحق في القصاص.
ولا شك في أن النزعة الأساسية في دين الإسلام هي الدعوة إلى العفو والمغفرة رغم تأكيده على القصاص وحق الأخذ به. فذلك من باب تأقلم ديننا مع طباع البشر وما كان سائرا عاديا في المجتمع الذي ظهر فيه، حيث كانت قاعدة السن بالسن وحق القصاص لا محيد عنها في ذلك الزمان.
ورغم أن العصر كان عصر ظلمة من حيث قيم المحبة والرحمة، فلقد جاء الإسلام داعيا إليها، حاثا على الإتيان بها دون تردد، مثيبا عليها، مؤكدا على الجزاء العظيم الذي ينجر لمن يرحم فيعفو ويتنازل عن حقه في الثأر.
ذلك لأن انتهاج سبيل العفو هو من الجهاد الأكبر الذي يدعو له الإسلام، أي جهاد النفس الأمارة بالسوء؛ وأي مجاهدة أعتى من مجاهدة النفس ونوازعها، خاصة تلك التي تدفع بنا للانتقام ممن أساء إلينا عوض محاولة ترويضها على قبول الإساءة والرد عليها بالحسنة؟
وأي حسنة أكبر من العفو عمن أتى بالإساءة العظمى، ألا وهي قتل النفس؟ بل لعلها أفضل ما يأتيه الإنسان في محاولة العمل بما يدعوه إليه الله من التشبّه به في العفو والمغفرة عند المقدرة ونبذ كل ما فيه من نوازع تأخذ به بعيدا كل البعد عن العواطف النبيلة والأحاسيس الطيّبة.
فهل هناك أعظم من العفو عن الظالم من طرف المظلوم صاحب الحق في القصاص؟ وهل هناك من هذا المظلوم أكبر دليل على استحقاقه الثواب الجزيل لصفاء نفسه وتعاليه على كل ما اختصت به النفس البشرية من وضاعة بتصرّفه كما علّمه ربه، أي بالتدليل على أنه يتمرّن بحق على أن يكون رحمانا رحيما كخالقه؟
لا شك أن مثل هذا التصرف من المؤمن، الذي يتنازل عن حقه في الانتقام لأجل التمسك أكثر وأشد بقيم دينه، لهو أكبر دليل على تشبّعه بأخلاقية الإسلام العالية وسماحة حكمته ونبل تصريفه لعلاقة البشر بعضهم ببعض.
هذا من ناحية المظلوم. أما من ناحية الظالم لنفسه ولغيره، فالعفو من شأنه أن يهز فيه هزة تجعل ضميره يستيقظ من غفلته ويفيق من غفوته، فيعترف بفظاعة ذنبه ويتوب إلى ربه ويعتذر إلى من أذنب في حقه وأساء إليه. أفليس العفو هنا مظنة لإعادة المذنب إلى حضيرة الإسلام التي تركها بفعله الشنيع والتي لا فرصة له ولا حــظ في العودة إليها بدون البقاء على قيد الحياة للتوبة؛ وبابها على الدوام لا يغلق في ديننا؟
ولعله لا يتوب ويمضي على عنجهيته؛ فهل نسارع في قتله وتنفيذ القصاص فيه فنسدي إليه هكذا خير خدمة بأن نمكنه من الفرار من وخز الضمير، وهو بحق من عذاب الجحيم عندما يستيقظ؟ فما من شك أن الموت أهون من عذاب الضمير الحي!
ولا شك أيضا أن مثل هذا العذاب يكون أشد وقعا على المذنب إذا عملنا على إفاقة السريرة النائمة فيه وإحياء الذمة الميّتة عنده بمساعدة هذا المذنب على رياضة النفس والعمل على تزكيتها بالعودة إلى ديننا الحنيف وتعاليمه.
فنحن عندما ندعو إلى منع عقوبة الإعدام ببلادنا، ندعو في نفس الوقت إلى أن تنقلب أروقة الموت، التي ينتظر فيها المحكوم عليهم بالإعدام الخلاص من عذاب الانتظار أو ربما استفاقة الشعور، إلى أروقة للروحانيات تتكفل الدولة فيها بإعطاء المحكوم عليهم بالسجن المؤبد الغذاء الروحي الذي ينقصهم وكان سببا في ما أقدموا عليه، وذلك مما من شأنه أن يعود بهم إلى ظلال إسلامنا الوارفة وروحانيته النبيلة.
وهكذا نعمل بما أوصانا به ديننا من الحث على الحسنى والتشجيع على انتهاج محجة الدين القيم بالاغتراف من منابعه التي لا تفنى. وأن يكون ذلك مع من فقد كل شيء في الدنيا بعمله الشنيع لهو من الجهاد في سبيل الله، إذ نعمل بهذا على ألا يفقد إمكانية التوبة، أي أفضل ما من شأنه أن يعيد له الاعتبار باسترجاع إنسانيته. بهذا، يستحق عفو من أساء إليه وعفو ربّه؛ وفي نفس الوقت، يصير من جديد آدميا؛ كل ذلك بفضل ديننا، دين الرحمة والغفران.
وبهذه الصفة، بفضل منعنا لعقوبة الإعدام بتونس في دستورنا الذي نكتب، نكون في مصاف الدول المتحضرة التي تمنع مثل هذه العقوبة ونبيّن في الآن نفسه أننا أوفياء لديننا في دعوته إلى مكارم الأخلاق والعمل دوما على ابتغاء المعروف والحسنى على الدوام.
فهل في ذلك أفضل من التدليل على أننا نعمل لتلك الغاية سواء بالعفو والمغفرة عندما نُظلم، مع قدرتنا على استيفاء حقنا، وبمجاهدة النفس أو المساعدة على ذلك لإحياء الضمير والمرور من وخزه إلى تزكية النفس بالعودة إلى السبيل القويم، سبيل الحنيفية المسلمة؟
إنها لتذكرة لمن يمانع خطأ من نواب مجلسنا التأسيسي الموقر في منع عقوبة الإعدام بتونس؛ فهم بذلك لا يخدمون حقا الإسلام ودعوته، بل يتصرفون تماما على عكس ما دعا إليه وحث عليه. فلتكن هذه المقالة تذكرة لمن يذّكر!
الإسلام ترك حرية العفو للمظلوم و أنت تريد أن تقيد هذه الحرية و تجادل في حكم إلاهي و تتغطى بغطاء الإسلام و أنت في ضلال
“لا شك في أن النزعة الأساسية في دين الإسلام هي الدعوة إلى العفو والمغفرة رغم تأكيده على القصاص وحق الأخذ به. ”
الكاتب يؤكد في هذا المقال أحقية صاحب الحق فالقصاص إذاً الاصل هو القصص وعفو هو الإستثناء وبذلك قانونا لايمكن منع القصاص : ” ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون 179 ”
نعم الجزاء كل الجزاء لمن يعفو ويصفح و لكن هذا يخصه فليس من الوسطية منع القصاص من الضالم ولا من العدل ففي القصاص حياة بحيث يمكن أن يردع الكثيرين عن السوء بمجرد رؤيتهم العقاب وبذلك نتفادى الكثير من الجرائم التي تغشي الانسان لبشاعتها ولا رادع لها سوى العقاب الشديد على أعين الناس وبذلك أيضاً يفكر المجرم ألف مرة قبل جرمه.
نعم الاسلام دين رحمة لايختلف في \لك مسلمان ولكنه دين لايقفز على حقوق الناس قي القصاص يا اولي الالباب ..العقاب ليس غاية بل هو عقاب يتناسب والجرم ،هو عقاب لمنع تكرار الفعل هو حماية للمجتمع لامانه هو استرداد لحق وتعويض عته ..من يقتل عمدا وعن قصد نقول له الاسلام دين عفو ورحمة سنسجنك بعض الوقت وبعد مضي مدة سنعفو عنك .
يا إخوتي في الإسلام،
ليس الإسلام مجرد نص، فهو روح قبل كل شيء، وصفوة صفوته هي بالأساس في روحه التي هي أزلية في حكمتها، وهي في مقاصد الشريعة التي ينص الأئمة الذين فهموا دينهم كما ينبغي بالعودة إليها، كما دعا إلى ذلك الإمام الشاطبي.
@ imed : لست أنا الذي يريد تقييد حرية هي مقيدة ضمنيا من طرف الشارع الذي حث مرارا على العفو. فأليس الحث من الله بمثابة الأمر لمن يقدس حقا الذات الإلهية مترفعا عن نوازع الانتقام في نفسه؟ فما منع الله أن يكتفي بالقصاص إذا لم يكن مقصده الوصول تدريجيا لمنع القصاص؟ إنى لأسأل من هو الذي في ضلال حقا : ذاك الذي يأخذ بمجامع كلم القرآن وروح نصوصه أم الذي يكتفي بظاهر نص يعارض اليوم تلك الروح؟ فهل يجب أن نقطع الأيدي اليوم أو نستعبد الناس مثلا؟ قل لي ولك الأجر!
@ rafik : أنا لا أكتب عن أحقية أحد، لا أهل المقتول ولا آلقاتل؛ أنا أدعو إلى تطبيق مقصد الشريعة في تصفية النفس من كل غل وإعانة الذي ظلم نفسه قبل أن يظلم غيره بالتوبة التي دعا إليها الله وترك بابها مفتوحا. ذلك أن الأحقية، كل الأحقية، للعبد هي في رحمة الله بالنسبة للمذنب إذا اجتهد في التوبة وللمسامح الكريم بالإثابة الجزيلة. إن المسلم الحقيقي اليوم لهو الذي يحاكي الله في رحمته وغفرانه فلا يترك نفسه تذهب لا لنازع الانتقام، ولا تبقى على الشر إن زلت فأرادته وفعلته، بل تعود إلى الله فتكفر عن ذنبها بالمغفرة والتوبة الصادقة. هذا هو الإسلام الذي أؤمن به، وهو الإسلام الحق، الإسلام الذي هو سلام. أما ما يخص ترك الفعل والخوف من العقوبة، فكل الأبحاث العلمية تبين أن لا تأثير في ذلك على نفسية القاتل. فهل تعتقد أن القتل هو نتيجة عملية حسابية في تقدير الفائدة المرجوة؟ لنكن موضوعيين وعلميين ولنحكّم العقل كما يدعو الله إليه. إن القتل وأفظع الجرائم هي نتيجة عوامل عدة لا دخل للتفكير فيها، بل هي نتائج عوامل اجتماعية ونفسية لعلنا بمنع الإعدام نساهم في تصفيتها بروحانيات ديننيا، هذا إضافة إلى العدل التام إذ تقع الأخطاء ولا شيء يمنعها أو يمكن الحكم بالأعدام لأسباب غير عادلة كما كان الحال بالنسبة للعديد ممن هم في الحكم اليوم. فهل كانوا سيحكمون البلد إذا نفذ فيهم حكم الإعدام؟ وأما سؤالك حول ما منع الله أن يطرح جانبا هذه العقوبة، فذلك نظرا لتدرج الإسلام في أحكامه. فما الذي لم يحمله على منع العبودية مثلا؟ أجبني على هذا وعلى ما سبق، هداك الله إلى المحجة السليمة!
@ مواطن : كيف يكون الإسلام دين رحمة اليوم وقد امتاز، في زمن العنف والحقد، عن الأديان الأخرى بطلب العفو بينما كانت كلها تدعو للقصاص؛ وها هي اليوم تمنع هذه العقوبة التي كان الإسلام سباقا في التحضير لمنعها بالتدريج بينما نرى أهل الإسلام يتمسكون بها؟ إنهم في ذلك ليتمسكون بتوجة جاء مع الإسرائيليات التي دخلت ديننا لا بروج الإسلام! إنك تتجاهل مقصد من مقاصد الشريعة ألا وهو الوصول تديريجا بالعبد إلى استيعاب حكمة الله بالأخذ بأخلاقيته في الرحمة والتوبة.إن منع عقوبة الإعدام ليس فيها أي قفز على حقوق الإنسان لأن القصاص هو قانون الغاب، لذا سعى الله في الحد منه تديرجيا. فلا يجب الوقوف في «ويل للمسلمين» رحمك الله! إقرأ كلام الله في مجموعه بخصوص القصاص وسترى أن الدعوة إلى العفو أكبر من السماح بالقصاص. ثم لا تنسى أن الأصل هو ملكية الأرواح لله، فلا يقبضها إلا هو حتى وإن منح الحق في ذلك لأهل قتيل في انتظار نضج عقل المسلم لقبول المنع؛ وإلا لما حث بتاتا علي المغفرة. ثم أنظر، يا أخي، هل تركيا مسلمة أم غير مسلمة؟ إنها منعت عقوبة الإعدام. ثم هذه العقوبة لا تنفذ في تونس منذ عديد السنين، وذلك ضمنيا من باب رفض القصاص. فأين الشجاعة في الذهاب إلى آخر المطاف ومن باب مجرد المنطق على الأقل؟ خذ لك المثالين المذكورين آنفا أو كيفية منع الخمرة بالتدرج؟ فلعله لولا قبض الرسول الأكرم، لمنع الوحي القصاص. ولكن سيد الآنام ترك في المسلمين كتاب الله وسنته الصحيحة للعمل بهما حتى لا يضيعوا، وهذا لا يكون إلا بالأخد، لا بالنص فقط، بل خاصة بروحه على ضوء مقاصد الشريعة. ذلك أن إسلامنا يبقي سطحيا إذا اكتفينا بمجرد حرف الإسلام ورسمه وتغاضينا عن لب لبابه الذي هو في روحه وهي في مقاصده التي تتلاءم ضرورة مع الظرورف البشرية. أما ما يخص موقفنا مع القاتل، فليس هو ما تقوله، لأن عدم عدم قتله ليس ضرورة رحمة به، لأن القتل لحظة عذاب فتمر، فهي حقيقة الهرب من العذاب، لأن العذاب الحقيقي هو في وخز الضمير عندما يستيقظ، وهذا ما أدعو إليه، أي أن الحكم بالمؤبد لا بد أن يرافقه عمل روحاتي بالسجون لحمل المذنب أولا على التوبة من ذنبه وطلب المغفرة والتكفير، وثانيا على العودة إلى دين الله بفضل نشر روحانياته بين من فقدها فزل، وذلك من طرف جمعيات تكون مختصة في ذلك بمرشديين نفسانيين واجتماعيين وديننين. وبذلك نفتح باب الدين لكل الناس، خاصة من هم في حاجة إليه لأنهم أذنبوا. ولعل كل مسلم حقيقي لا يرفض مثل هذا العمل الخيري في زرع روحانية ديننا في قلوبٍ زاغت عن الطريق السوي فهلكت وأهلكت. فليفكر المسلم اليوم فيعمل عقله للأخذ بحكمة ديننا فلا يمر عليها مرور الكرام مكتفيا بالمراءات وهي ليست من ملتنا!
[…] […]