تواتر في تونس استعمال مفردات مثل “الوحدة الوطنية” و”توحيد القوى السياسية” و”التوافق الوطني” منذ قيام الرباعي الراعي للحوار الوطني بتبني المسار السياسي في البلاد وإصراره على لعب دور الحكم في تصفية الخلافات العالقة بين الأحزاب المتنافسة. غير أن مظاهر التوافق السياسي التي تحاول بعض الأطراف تمريرها عبر بعض وسائل الإعلام سرعان ما دحضتها القرارات الحزبية التي اتسمت في أغلبها بتغليب مصالحها الضيقة وتمتين تحالفاتها غير المعلنة.
منذ أحداث اعتصام الرّحيل دخلت تونس في دوامة ‘افتكاك” السلطة المقنن والمغلف بمقولة التوافق الوطني والشرعية الانتخابية. هذا الإعتصام الذي قاد حزب نداء تونس برعاية الرباعي الراعي للحوار لتصدر المشهد السياسي والفوز لاحقا في الإنتخابات التشريعية والرئاسية، مثّل نقطة تحول جديدة في استراتيجيات البحث عن السلطة حيث كان مثلا جيدا لنجاح سياسة “فرّق تسد.”
الخلافات السياسية وسياسة “قطع الطريق” على المنافسين بلغت أوجها منذ قام حزب نداء تونس الفائز في الإنتخابات التشريعية بتكليف الحبيب الصيد بتشكيل الحكومة. هذه الحكومة التي يتطلب تمريرها الحصول على تصويت 109 نائبا في البرلمان الجديد سقطت في فخ المحاصصة الحزبية التي اعتمدت على تشريك هذا الطرف أو ذاك بحسب قدرته على ضمان مرورها في البرلمان بأغلبية مريحة. الأحزاب الفائزة في الإنتخابات ومن بينها أحزاب صغرى لم تدّخر جهدا في فرض شروطها بتقديم وعود بدعم الحكومة برلمانيا شرط إقصاء منافسين سياسيين بعينهم، والصراع الآن على أشده لافتكاك حقائب وزارية “مشروطة.”
قطّاع الطريق يتصدرون المشهد السياسي
اتخذ “قطع الطريق” على المنافسين السياسيين أشكالا عديدة منذ ان قررت بعض الأطراف السياسية التعويل على دهائها السياسي من أجل افتكاك السلطة أو الإستحواذ على حقائب وزارية.
البداية كانت مع اعتصام باردو حيث استغلت أحزاب تدعي بأنها “تقدمية” عملية اغتيال الشهيد محمد البراهمي لتقود انقلابا منظما على أحزاب الترويكا برعاية الرباعي الراعي للحوار الوطني الذي اشترط استقالة الحكومة مقابل مواصلة المجلس التأسيسي لأشغاله. اعتصام الرحيل نجح في قطع الطريق أمام أحزاب التروكا وفتح طريقا “للتحيل السياسي” من أجل المزيد من الإنتصارات الحزبية المشبوهة.
إثر تنفيذ المجلس التأسيسي لخارطة الطريق التي فرضت التسريع في المصادقة على الدستور وإجراء الإنتخابات، قام حزبي حركة النهضة ونداء تونس ب”قطع الطريق” أمام الأحزاب الصغرى خلال الإنتخابات التشريعية بترسيخ ما أطلق عليه ب “التصويت المفيد” لكليهما. التصويت المفيد تواصل أيضا في الإنتخابات الرّئاسية لصالح كل من الباجي قائد السبسي والمنصف المرزوقي اللذان فازا في الدورة الأولى من الرئاسية بنسب متقاربة تركت بقية المترشحين في ذيل القائمة بنسب ضعيفة جدا.
الدورة الثانية من الإنتخابات الرئاسية شهدت محاولة ملموسة من الجبهة الشعبية ل”قطع الطريق” أمام المترشح المنصف المرزوقي حيث نادى زعيم الجبهة حمة الهمامي بعدم انتخاب المرزوقي متعللا بما أسماه فشله في آداء مهامه كرئيس سابق للجمهورية. واعتبرت هذه التصريحات دعما واضحا للمترشح الباجي قائد السبسي و ساهمت في فوزه برئاسة الجمهورية. الجبهة واصلت الإعلان عن عدائها لمكونات الترويكا بتهديدها المعلن بعدم دعم حكومة الحبيب الصيد في صورة مشاركة حركة النهضة فيها.
وفعليا، قام حزب “آفاق تونس” بقطع الطريق أمام التشكيلة الحكومية التي اقترحها الحبيب الصيد بإعلانه الإمتناع عن منحها الثقة مما أعاد المشاورات حولها إلى نقطة الصفر. فهذه التشكيلة الحكومية التي انحصر تكوينها على أعضاء منتمين لحزبي نداء تونس والإتحاد الوطني الحر لم تبلغ، بعد رفض حزب آفاق تونس دعمها، العدد المطلوب من أصوات نواب البرلمان، مما أجبر الصيد على تشريك الغاضبين في المفاوضات من جديد بغية الحصول على التوافق المطلوب.
من جهته يعود الإتحاد العام التونسي للشغل، الطرف الأهم في مكونات الرباعي الراعي للحوار الوطني، للتهديد بقطع الطريق أمام الجميع والأخذ بزمام الأمور في حال عدم تمكن الأحزاب السياسية من تكوين حكومة تحظى بموافقة البرلمان. حيث قال الأمين العام المساعد للإتحاد العام التونسي للشغل المولدي الجندوبي في تصريحات إعلامية مؤخرا أن “الإتحاد يتابع عن كثب وبكل اهتمام عملية تشكيل الحكومة ويرقب ما ستفرزه المشاورات دون التدخل. هذا مع امكانية أن يبدي الاتحاد رأيه في موضوع تشكيل الحكومة إذا ما لاحظ حدوث إخلالات أو أمور لا تنسجم مع طبيعة المرحلة،” دون أن يحدد الحالات التي يمكن أن يتدخل فيها.
الأزمة و”سياسة الترقيع”
تشكيل حكومة تحظى بالتوافق، تحول من مدعاة للفخر بعد نجاح تونس في تنظيم انتخابات حرة وشفافة، إلى مصدر للسخرية على المواقع الإجتماعية والإعلامية أيضا. في البداية كان الأمر أشبه بإجراء ديمقراطي ينافس ما يحدث في أهم الدول المتقدمة حيث أكد حزب نداء تونس انتهاء مهمته بتكليفه الحبيب الصيد بتشكيل الحكومة وعدم التدخل في اختياراته، مع فتحه المجال لجميع الأحزاب بتقديم برامجها لاختيار أعضاء الحكومة حسب الخيارات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية للأحزاب المشاركة. وفي مبالغة في إظهار انفتاحه على مكونات الساحة السياسية، لم يمانع حزب النداء في تشريك حزب حركة النهضة، منافسه السياسي الأول، في المشاورات. النهضة بدورها رحبت بهذا الإنفتاح المزعوم حيث أكد القيادي في الحركة، العجمي الوريمي، في تصريح سابق لنواة رغبة حزبه في المشاركة في حكومة الصيد وقدرته على اقتراح عدد هام من الكفاءات لتقديم الإضافة خلال الفترة القادمة ضمن حكومة وحدة وطنية.
باستثناء الجبهة الشعبية، شاركت أغلب الأحزاب الفائزة في الانتخابات التشريعية في مشاورات تشكيل الحكومة على أمل الحصول على حقائب وزارية اعتمادا على وعود من الحبيب الصيد بإمكانية تشريكه لأكبر عدد ممكن من الاحزاب. غير أن نتيجة المشاورات جاءت مخيبة لآمال أغلب هذه الأحزاب التي عبرت عن غضبها برفضها الموافقة على منح الثقة لهذه التشكيلة الحكومية مما وضع الصيد في مأزق دستوري.
إضافة إلى ذلك عرفت تشكيلة حكومة الصيد رفضا من طرف شريحة هامة من التونسيين الذين احتجوا من خلال المواقع الإجتماعية على عدد من الأسماء المقترحة من بينها محسن حسن في منصب وزير السياحة، وخديجة الشريف في منصب وزيرة المرأة، وماجدولين الشارني في منصب كاتبة دولة مكلفة بملف جرحى وشهداء الثورة. وقد أصدر المكتب التنفيذي لجمعية القضاة بيان استنكر فيه تعيين القاضي السابق محمد ناجم الغرسلي وزيرا للداخلية متهما إياه بالعمل سابقا لصالح نظام بن علي من أجل الإنقلاب على جمعية القضاة وتشويهها.
بمساعدة من مجلس نواب الشعب الذي تعلل بعدم إتمام المصادقة على نظامه الداخلي لتأجيل جلسة المصادقة على الحكومة، يجري الحبيب الصيد “الشوط الثاني” من المشاورات لتشكيل حكومة “ترضية” تحظى بالعدد المطلوب من الأصوات الضرورية لمنحها الثقة. عودة المشاورات شهدت تصريحات إعلامية لمختلف الأطراف تنبئ بتحول المشاورات حول البرامج التي ادعى لحبيب الصيد حصولها سابقا إلى مشاورات “حسابية” و”ترقيعية” يسعى القائمون عليها إلى استرضاء كل من الجبهة الشعبية وحزب آفاق تونس وحركة النهضة ب”إهدائهم” حقائب وزارية مقابل ضمان مصادقتهم على الحكومة في البرلمان. نذكر هنا أن المصادقة على الحكومة المنتظرة سيتم يوم الإثنين القادم بما سيضع حدا ربما للعبة المحاصصات الحزبية والشروع في حرب “الأحزاب الحاكمة” و”المعارضة”، التي ستلعب دورها الأطراف التي سيتم إقصاؤها من التشكيلة الحكومية.
في بلدان العربان الجرذان، تنطبق مقولة أحد طغاة إفريقيا جنوب الصحراء الذي سألته صحفية فرنسية عن مزاعم تعذيب وسجن معارضيه فقال بعفوية: “سيدتي، إن حكموا فنحن في السجن وإن حكمنا فهم في السجن!”. إقصاء العربان لبعضهم البعض بأية وسيلة كانت، بدءًا بالقانون ووصولا إلى السجون والمنافي وحتى القتل عادة قديمة وتقليد عريق لا محيد عنه. إنهم مستعدّون لتدمير بلدانهم على رؤوسهم جميعا مقابل ألاّ يصل خصومهم إلى السلطة. وهذا ينطبق على الجميع دون استثناء سواء تشدّقوا بقيم “الحداثة” و”الليبرالية” أو أقنعوا مريديهم وأتباعهم بأنهم مبعوثون من فوق سبع سموات لإقامة الدين في الأرض! العربان والدكتاتورية قصّة حب أبديّة. العربان والهمجية وجهان لعملة واحدة. ولقد عبّرت بشكل ألق وجذاب -أيتها الكربولة اللطيفة- عمّا يحدث هذه الأيام في أحد ربوع العربان المنكوبة، تونس، بوصفه ب”قطع الطريق”! تعبير مناسب ولا شك. لكن إن عرف السبب بطل العجب، فمتى توقّف العربان عن قطع الطريق مذ أن كانوا قبائل متناثرة في الصحراء، متناحرة على أبسط الأشياء، وحتى يوم الناس هذا؟ هل يعني “الوطن” أي شيءعند قوم جهلة، غلاة وسفّاكي دماء؟ أو هل تعني “المدنيّة” شيئا آخر عند هؤلاء غير بدلة أوروبية أنيقة وربطة عنق باريسية؟ “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد 11) والعربان أقوام محافظة تكره التغيير، لذلك من الصعب في أمد قريب أن نرى هؤلاء ينزعون عنهم غشاوة جهلهم ويتغلبّون على نوازع الشر التي تسكنهم ويعتنقون بعضا من قيم الإنسانية المعاصرة كبقية البشر. الأمر صعب.. صعب جدّااااااااا