المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

حضرة الشيخ المحترم،

قرأت باهتمام بالغ كتابكم : «من تجربة الحركة الإسلامية في تونس»، وقدّرت فيه ما أكّدتم فيه ودللتم عليه من إضافات للفكر الإسلامي المعاصر للحركة الإسلامية في تونس «ألا وهي الانتقال في التعامل مع الفلسفة الغربية وكيفية النظر فيها من مرحلة النقد المطلق الذي يفقد هذه النظريات أي وجه للحق باعتبارها باطلا محضا إلى مرحلة «الرفض النسبي» أو التعامل الموضوعي…».

لذا رأيت أن أتوجه إليكم بهذه الرسالة لدعوتكم العمل على المرور بحزبكم النهضة، وهو الآن في موقع السلطة، من مرحلة إلى أخرى يقتضيها اليوم ما بيده من سلطات وتفرضها مصلحة البلاد بصفة خاصة ومستقبل النهضة ومكانة الإسلام بها بصفة أعم.

من التغريب إلى التعريب دون تغريب جديد

باديء ذي بدء، لا بد من الإشارة إلى ما في تقييمكم لوضع التغريب بتونس من تحامل على التوجهات الحداثية لأن ضرورة التعريب لا تنفي البتة الحتمية الانفتاحية بالبلاد التونسية. وقد تنبهتم إلى ذلك واعترفتم به، ولكن كان ذلك في زوايا وحيثيات من تبسطكم في الصورة القاتمة التي رسمتموها للبلاد وتوسعتم في نقدها دون موضوعية كاملة، بلا استثناءات فيها.

نعم، لا مراء في أن التونسي اليوم غريب في لغته وفي دينه، ولكن لا يخص ذلك التونسي المتغرب وحده، المتناسي لمقومات ذاته، بل ويشمل حتى التونسي المستعرب، الآخذ بمباديء شخصيته وحضارته العربية الإسلامية، إذ هو يأخذ بها اليوم مع نزعة استبداية في التعريف بحقيقتها ورفض لكل ما للحقيقة من روافد هامة.

ولعلكم توافقوني الرأي في أن الحقيقة لا يمكن امتلاكها، حتى وإن كانت ربانية لأنها عندها تكون من نظر الله المحض، وأي عقل إنساني يقدر على الغوص بعصمة في سر المقاصد الإلاهية؟

إن الحقيقة، أساسا، بشرية بالنسبة لي، وهي لا تعدو أن تكون توجه صحيح نحو أفق هو دوما أمامنا، فلا يمكن البتة الاستحواذ عليه وادعاء الوصول إليه؛ ثم إن الكل بإمكانه التوجه إليه والمضي قدما نحوه، لا يستحق في ذلك إلا العزيمة الصادقة والنية الخالصة.

فالحق يبقى ما يبدو لنا في هذا التمشي والسلوك نحو ذاك الأفق؛ فانتفاء الوصول إليه دائم؛ والخطأ، إن حصل وكان صادقا ونابعا من الرغبة الأمينة للوصول إلى أفق الحقيقة، يقرّب منه ولا يبعّد عنه لأنه يمكّن من استكشاف الغلط والاقتراب من الصحة. ولا شك أن ذلك هو كالأفق تماما حين تغطّيه السحب ثم تنقشع؛ فليست الحقيقة تلك السحب العابرة، بل ما وراءها الذي هو دوما مقصد الساعي الحقيقي إليه، الراغب في البقاء على الاتجاه الصحيح.

فلا مجال عندها إلى تكفير توجه أو تلبيس رأي، كما جرت العادة به عندما تداعى الفكر الإسلامي نحو الأسفل وانغلق كالمريض المنكمش على نفسه، يخاف أي جديد فينبذه كبدعة حتى وإن كان ذاك الجديد نفس المريض ذاتها التي تتوق إلى شيء حديث في حناياها لتصحّ وتحيا مجدّدا، لأن ذلك من سنة الله في خلقه، برأه خالقه لكي يموت فيحيا ويموت ليحيا!

لقد ضحى العهد البورقيبي بشيء عزيز على التونسي ألا وهو ذاتيته العربية الإسلامية لأجل شيء عزيز آخر رآه أعز ألا وهو الانفتاح على الغير؛ هذا، وقد فعل ذلك غيره قبله، إذ فعل الرئيس التونسي الأول ما فعل احتذاء بالمثل التركي؛ وأنتم، وإن تحدثتم عن هذا المثل، لا تذكرون حيثياته هذه، بل لا ترون في المثل التركي اليوم إلا المثال الذي يُحتذى، وذلك لأكبر دليل عل صحة ما يلي من حديثي هذا.

فالخطأ كل الخطأ اليوم يكون في الردة إلى الوراء النابع من التمشي الضروري والمنطقي لاستعادة الذات بالتضحية بما هو امتداد طبيعي ومصيري لهذه الذات التونسية، أعني انفتاحها على الآخر.

لذا، سيدي الشيخ، أرى لزاما عليكم كمنظّر لحركتكم وقد رفعتها أصوات التونسيين إلى الحكم، وخاصة كشخصية فاعلة على الصعيد الاسلامي، مستنيرة وعلى قدر كبير من الذكاء والفطنة إلى التحديات الكبّار التي تجابه الإسلام بتونس، التنبيه على مثل هذا الخطر المحدق ببلدنا وعقليته الموغلة في القدم والعمل على تفادي هذا الذي أراه في صفوف حركتكم النابع من الغلوّ في ذاك الحق الذي ليس هو إلا مما يراد به باطلا.

فلا شك أن أهم عقبة اليوم تكمن في تحصين المسار الإسلامي بتونس من مثل هذا الانزلاق وتمنيعه من آفاتها. فكيف يكون ذلك؟ أية حصانة يمكن لها أن تحمي التوجه العادل لتعريب ذهنية التونسي دون المساس بأس ّهام فيها وذلك بتغريبها عن الواقع المحيط بها؟ أي مناعة تمكّن من العودة إلى معرفة القرآن ودراسته كركن لا محيد عنه لاسترجاع مقومات ذاتيتنا دون أن تكون نبذا لركن آخر أساسي من هذه الذاتية وهو امتداد جذورها إلى ما قبل الإسلام وقبل بزوغ فجر العربية بربوعها وانفتاحها على كل الحضارات والتيارات الفكرية دون استثناء؟

نحو إسلام ما بعد الحداثة

رأيي في ذلك أنه حان الوقت لأن نمر برؤيتنا للإسلام من إسلام الحداثة، وقد اندثرت الحداثة كما عرفناها، إلى إسلام ما بعد الحداثة، وهو ما يميز زمننا الحاضر؛ وهذا يقتضي منا التجاوز بالتعامل الموضوعي أو _ حسب عبارتكم _ مرحلة الرفض النسبي لواقع الحال بتونس، إلى مرحلة جديدة هي مرحلة النقد الذاتي أو القبول النسبي والنظر والتعامل الموضوعي مع الأطروحات الإسلامية ذاتها؛ وطبعا ليست تلك الخاصة بالعقيدة، بل كل ما يخص المعاملات، ذلك الجانب الثاني الموازي للعبادات والذي يتكون الدين الإسلامي منه ببعديه الأساسيين، مما يحعله دين وسياسة في الآن نفسه.

ولكن لا سياسة إيديولوجية كما قُرأت إلى حد الآن، بل سياسة بالمعنى الصحيح، أي عمران بشري ومدنية. فيكون ذلك بحق ما سميتموه حلا تونسيا لما فيه من تفاعل حقيقي بين الفكر الإسلامي الحر وبين الواقع التونسي الذي أساسه البعد الحضاري والحرية المتغلغلة فيه، المغرقة قدما في التاريخ.

أما كيف يكون هذا؟ فباعتماد لفظكم، يكون بالعودة إلى «مرونة وعمومية وعقلانية النص الإسلامي وغياب مرجعية كنسية» في الإسلام. وأيضا، وكما ذكرتم، لأن «الحركة الإسلامية في تونس ذات خلفية فكرية متنوعة تداخلت فيها في محصّلة التحليل عناصر ثلاثة : التدين التونسي التقليدي المؤسس علي التصور أو المذهب المالكي (وأضيف أنا التصوف ومكانته بمختلف ثنايا المجتمع)، والثقافة الإصلاحية المشرقية، والثقافة العقلانية الحديثة».

نعم، إن الحركة الإسلامية بتونس، وقد نجحت في المرور من عقبات مراحل سابقة فتطورت ولاقت النجاح، لحري بها اليوم العبور بالفكر الإسلامي من فترة غدت شاهدا من الماضي إلى أخرى، ألا وهي الشاهد على الحاضر والمستقبل.

إن الفترة التي ولت وانقضت، لهي فترة الحداثة الغربية؛ أما الفترة الجديدة فهي تلك التي تنصهر فيها كل مقومات الحداثة بدون حدود _ بما فيه ما أسميته الحداثة التراجعية أو السابقة لأوانها Rétromodernité، وكانت تلك حداثة الإسلام عند ظهوره _ والتي هي اليوم من مكونات ما يعرف بما بعد الحداثة.

إن الإسلام ما بعد الحداثي لهو إسلام كوني وعلمي! فكونيته في أنه خاتم الأديان وأن الرسالة المحمدية لا ترفض ما سبقها من أديان الكتاب، بل تقرّها حتى أنه يمكن اعتبار الإسلام بمثابة العهد الأخير Ultime Testament من الله إلى عباده، ذرية إبراهيم.

والأحاديث النبوية كثيرة في هذا الميدان للتأكيد على أن الإسلام ليس إلا جزءا من الإيمان بالله وأن التوحيد لهو أساس الإيمان قبل أي شيء آخر من مظاهر العبادات رغم أنف كل من ضاق إيمانه فربطه بظاهر الشعائر؛ ولعل الحديث الصحيح المأثور عن الرسول مع أبي هريرة لأكبر الدليل على ذلك كغيض من فيض تسامح الإسلام وتفتحه على كل مظاهر الإيمان بالله.

أما علمية الإسلام، فحدّث ولا حرج، حيث تعددت الآيات الكريمة المؤكدة على ضرورة العقل وإحكامه في أمور الدنيا والتزام العمل به! فالدين يدعو الإنسان لاستعمال عقله في كل ما يخصه، عدا الأمور العقائدية. وقد سن الله الطريق لعباده في ذلك بمنهجية القرآن العقلية وبأن نسخ أحكاما فجاء بأحسن منها. أفليس ذلك منه أفضل الأدلة لانتهاج هديه من طرف خلقه في كل ما يخص حياتهم الدنيوية، فيهتدي الإنسان بالقدوة الإلاهية فينسى أو يتناسى العمل بأحكام لا علاقة لها بالعبادات، ولكنها تخص حياته اليومية، كالأحكام المتعلقة بحالة العبودية _ وكان ذلك فعلا من المسلمين _، ولكن أيضا بما يتعلق بمواضيع أخري كقطع اليد أو الرجم، تلك الإحكام التي، وإن كانت ثورية في زمن البعثة، طالتها سنّة الله في طبيعة البشر فبليت ولم يعد يستسيغها العقل؟

حضرة الشيخ المحترم،

قلتم، في كتابكم، أنكم مررتم بحركتكم من الفكر السياسي لسيد قطب وتكفيره الشامل للأنظمة، إلى الكشف الخميني واستيعابه للصراعات الاجتماعية بمنظومة المستضعفين الإسلامية، وشعرتم عندها «كما لو أن الفكر الإسلامي من قبل لم يقرأ» آية من آياته (آية المستضعفين). أليس حان الوقت اليوم لأن يكون دوركم التاريخي، وبيد حركتكم مقاليد الحكم، إعادة الاعتبار لتفكير إسلامي ما بعد الحداثي من شأنه أن يبوأ الإسلام مكانته الحقيقية كدين كوني وعلمي، مؤكدا بذلك بأفضل الوسائل على صبغته الأزلية، بتفعيل دعوة القرآن الصريحة والملحة لإحكام العقل في كل شؤون الدنيا، والعمل على أن يقرأ المسلم أخيرا تلك الآيات التي لا تحصى ولا تعد التي إن دلت على شيء فعلى عقلانية الإسلام وعلميته بلا أدني شك؟

فلا غرو أن الأحكام الأزلية ليست تلك الأحكام التي كانت ثورية في عهد الرسول الأكرم ثم زالت ثوريتها مع تبدّل الأحوال نظرا لما يميز الطبيعة البشرية من الزوال والفناء وعدم الكمال؛ بل هي نتيجة العودة إلى روح الأحكام فتكون في الأخذ بمقاصد الشريعة وتفعيل روحها قبل نصها.

فالروح من الله، والله هو الوحيد الذي يبقى وجهه إلى الأزل؛ وروح أحكامه بالتالي أزلية بما أنها تعتمد على إحكام العقل، فتكون تلك الأحكام دوما مناسبة لزمنها ما دامت متأقلمة معه، متآلفة مع عقلية ذلك الزمن لا تخالفه.

فأحكام القرآن المتعلقة بالمعاملات وما يخص أمور الدنيا جاءت ثورية، متقدمة على زمن الرسول لتناغمها مع مقتضيات العقل، وهي تفقد هذه الصفة إذا لم تتأقلم مع مستجدات العصر اعتمادا على روحها العقلانية التي لم تتغير. ولعل الفقهاء الداعين إلى العمل بمقاصد الشريعة والمتصوفة المتمسكين بباطن النص كأساس لظاهر الشريعة ما ابتغوا غير ذلك!

إننا اليوم، من باب التمسك العلمي والعقلاني بديننا، علاوة علي صبغته الكونية، مدعوون لإعادة الاعتبار في تعاملنا معه لما للأخذ بالعقل من شأن كما يستنهضنا إليه الله، ويأمرنا به صراحة، مؤكدا على ضرورة ذلك القصوى! ويكون هذا، من ناحية ما يخص غير المسلم، بالعودة إلى الدعوة إلى كلمة السواء، وهي التوحيد، والتوحيد إيمان قبل كل شيء، فننبذ الإقصاء والتكفير ونعمل بعقلية التسامح الإسلامية. كما يكون، من ناحية أخرى، بالعودة إلى الدعوة لإعمال العقل في شؤون الدنيا، وإعمال العقل أقرب إلى التوجه الثقافي منه إلى الشعائري في فقهنا للدين وأحكامه، كل أحكامه، عدا العقائدية منها التي لا دخل للبشر فيها.

فلا شك أن مثل هذا الانتقال من مرحلة مرت وانقضت إلى مرحلة جديدة يقتضيها التاريخ ومصلحة البلاد تلزم الاعتراف بضرورة نقلة تعاملنا اليوم مع ديننا الحنيف من الشعائرية إلى الثقافية، فيكون الإسلام أولا وقبل كل شيء الحنيفية التي دعا إليها.

فليس المسلم الحق ذلك المعظّم لشعائره كما جاء بها الدين وحفظناها عن السلف، بل أيضا وخاصة الحنيف المؤمن بالله، الموحد له، أكان مسلما محمديا، أو مؤمنا يهوديا أو مسيحيا، أو حتى لا دين له _ إذ يهدي الله من يشاء ويغفر لمن يشاء _، مادام مؤمنا بالذات الأعلى، موحدا الإلاه باريء الدنيا وخلقها أجمعين.

ولا شك أن ذلك من معاني التوكل الإسلامي، أي حال القلب المؤمن الناشيء عن معرفته الحقيقة بالله والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير والعطاء والمنع؛ فما يشاء الله يكون وإن لم يشأ الناس، وما لا يشاء الله لا يكون وإن شاء الناس.

أما كيف نصل عمليا إلى ما ندعوكم إليه في الظرف الراهن الذي تعيشه بلادنا؟ فبالسهر على أن تحظى كتابة الدستور بمثل هذا التوجه المتفتح فتكرس بنوده المباديء المذكورة بآليات قانونية لا غبار على مصداقيتها وتوجهها الحضاري للرقي بتونس نحو المزيد من الحريات وتكريس التسامح المميز للبلاد وتفتح التونسي على الغير، كل الغير.

فإن قيل : ما معنى ذلك؟ يقال : معناه أن يُذكر بالدستور من المباديء ما يدعّم الحريات الفردية والجماعية دون أي تقييد عقائدي أو توجه ديني ضيق، كأن نربط ذلك بمفهوم معين أو تصرّف محدد يؤدي إلى تقليص الحريات باسم توجه مذهبي أو تصرف خُلقي حتى تبقى الحريات للجميع ويبقى الإسلام الدين القيّم، دين حرية وعقلانية لا إكراه فيه ولا تعصب.

بل وأذهب إلى أبعد من ذلك، لما يتصف به الوضع الحالي من شك وتشكيك في حسن نوايا حركتكم، فأهيب بكم أن تبادر النهضة بدون تأخير للتدليل على صدقها ومصداقيتها بعرض مشروع قانون على أعلى سلطة حاكمة بالبلاد للتأسيس لبنية الحريات العامة الجوهرية التونسية. فتعلن مثلا في نص ملزم يقع اعتماده والعمل به في أقرب الآجال :

1 – أن لا كفر ولا تكفير بتونس، بلد حرية الرأي والتفكير، بلد التسامح والتآخي؛
2 – أن لا مانع ولا ممنوع في حق استعمال شبكة الأنترنت، فحق التونسي في ولوج جميع مواقعها بكل حرية ودون أية رقابة حق مضمون لا استثناء له، وهو استحقاق من استحقاقات الثورة؛ أما ما من شأنه الإخلال بالنظام العام عبر الشبكة، فيبقى من نظر المحاكم حالة بحالة.
3 – أن لا إسلام يوظف بتونس لأغراض سياسية ومذهبية، فالإسلام أعلى من أن يقع الحط من سمو مبادئه ذات النزعة العلمية والكونية، فلا حدّ من روح الإخاء والمحبة والتسامح الإسلامية بتعلات متأتية من طوارىء النوازع البشرية وعوارضها، خاصة تلك التي تتخذ من الدين مجنة لتصرفاتها لتقييد الحريات الشخصية والميولات الذاتية.

إحياء إسلام صوفية الحقائق

حضرة الشيخ الكريم، لعلكم تردون على ما سبق بإثارة مسألة العقبة الكأداء التي تبقى قائمة في نظركم والمتمثلة في العلاقة المشكلة بين الرسم والمقصد أو كيفية التوفيق بين المقصد والنص أو علاقة العقل بالوحي، وقد كرست إلى اليوم إجهاض كل عملية تحديث للإسلام باسم الاحترام لقدسية النص القرآني ومرجعية السنة!

لقد تعرضتم في كتابكم لهذه المسألة، ولكن حديثكم لم يكن فيه شفاء للغليل إذ ترك الموضوع في حلقة مفرغة كأن التفكير فيه أساسا عقيم والحل فيه من رابع المستحيلات.

فنحن إن سلمنا بذلك، أي صرف مفهوم قدسية الوحي بالمعنى المتعارف عليه، والذي لا صحة علمية له، إلى جمود النص في حرفه وانتفاء كل روح فيه، كأن الروح في الإسلام غير أزلية، فأين تكمن عندها علوية العقل البشري كما أشاد بها القرآن، وأين قيمة هذا العقل البشري الذي إذا تعلقت به همة قوية ذهبت به حتما إلى ماوراء العرش؟

لعلكم لا تنكرون أن التفكير بهذا الشيء ليس بمستغرب وليس ببدعة إذ رأينا المتصوفة الأوائل قد عملوا به فحصلوا على الكشف وتحرروا من باطل الظاهر لصادق الباطن وقد كانوا (على الأقل زمرة متصوفة أو صوفية الحقائق حسب تعبير ابن تيمية الذي أقر بمنهجهم وهو آخر من يمكن الشك في سلفية إسلامه) من أفقه الناس وأحسن الفقهاء دينا وعلما وعملا بالدين الإسلامي على أفضل وجه وخير سنة. فمنهم من كبار الفقهاء من مختلف المذاهب ما لا يعد ولا يستهان به أمثال الجنيد الذي كان يدرس الفقه على مذهب الإمام أبي ثور، وعبد القادر الجيلاني الذي درس الفقه على المذهب الحنبلي، والغزالي الذي درس الفقه على مذهب الإمام الشافعي. ولكنكم أعلم من أن يقع تذكيركم بهذه الحقائق.

نعم، لقد كان رأي ابن تيمية أكثر تحفظا في بقية المتصوفة (صوفية الأرزاق وصوفية الرسم)، فعد البعض من الصنف الأخير من المتفلسفة الذين يصوغون مباديء ومذاهب فلسفية غريبة عن الإسلام سبق وجودها في أديان ومذاهب قديمة يونانية وبراهمية فاعتبرهم من الخارجين بالتصوف إلى مزالق الكفر والإلحاد، ولكن هذا هو رأيه واجتهاده، وهناك من يجتهد ولا يصيب؛ فقد رأينا غيره من الفقهاء الأجلاء لا ينحون منحاه فلا يكفّرون مثلا ابن عربي ونظرته التجديدية للإسلام التي تجعل منه بحق دين كوني علمي. ومن هؤلاء العالم الفقيه السيوطي والفقيه ابن حجر الهيثمي.

أفلا يكون اليوم الفقه الصوفي خير بديل للسلفية، والعالم الصوفي في صفائه الأول أقرب للإسلام الحق من الفقيه السلفي؟ رأينا هو أنه لا مناص للإسلام المابعد الحداثي من الأخذ من منبع إسلامي بحت، ثري وغزير، كالمنبع الصوفي لاستعادة روح الإسلام الزكية التي قضت عليها أو كادت عقلية التحجر السلفية.

ولعله مما يؤكد قابلية المسلمين بصفة عامة، والمسلمين بتونس بصفة خاصة، لهذا التوجه مركزية التصوف في التدين الشعبي التونسي؛ أفلم يؤكد على ذلك عبد الواحد ابن عاشر الأندلسي الفاسي، أبرز علماء الفقه المالكي، في المرشد المعين على الضروري من علوم الدين، منظومته التي تعتبر درة من درر مذهب إمام دار الهجرة إذ جمعت الفقه المالكي ورتبته أحسن ترتيب وقربته إلى المبتدئين أبدع تقريب.

ففي هذا المتن القيّم والمرجع الهام في الفقه المالكي، يذكّر ابن عاشر بمركزية السلوك الصوفي بالإضافة إلى الفقه المالكي والخصوصية الأشعرية، ويؤكد ذلك بمقطع شهير، كما ذكّرتم به بكتابكم، إذ يقول في مقدمته :

يقول عبد الواحد ابن عاشر | مبتدأ باسم الإله القادر
الحمد لله الذي علّمنا | من العلوم ما به كلفنا
صلى الله وسلم على محمد | وآله وصحبه والمقتدي
وبعد فالعون من الله المجيد | في نظم أبيات للأمي تفيد
في عقد الأشعري وفقه مالك | وفي طريقة الجنيد السالك
ومن المهم الإشارة هنا لورود باب كامل في هذا المتن عنوانه : كتاب مباديء التصوّف وهوادي التعرّف إضافة للأبواب الفقهية المعهودة ككتاب أم القواعد وما انطوت عليه من العقائد، وفصل في قواعد الإسلام، ومقدمة من الأصول معينة في فروعها على الوصول.
ولعله يكون من المفيد التذكير ببعض من أبيات هذا الباب المخصص للمباديء الصوفية التي يختم الإمام متنه بها، فيقول مثلا :
وحاصل التقوى اجتناب وامتثال | في ظاهر وباطن بذا تنال
فجاءت الأقسام حقا أربعة | وهي للسالك سبل المنفعة
يغض عينيه عن المحارم | يكف سمعه عن المآثم
كغيبة نميمة زور كذب | لسانه أحرى بترك ما جُلب
يحفـظ بطنه من الحرام | يترك ما شبّه باهتمام
يحفظ فرجه ويتقي الشهيد | في البطش والسعي لممنوع يريد
ويوقف الأمور حتي يعلما | مالله فيهن به قد حكما
يطهر القلب من الرياء | وحسد عُجب وكل داء
واعلم بأن أصل ذي الآفات | حب الرياسة وطرح الآتي
رأس الخطايا هو حب العاجلة | ليس الدواء إلا في الإضطرار له

فليتكم، سيدي الشيخ، تذكروا سالكي الإسلام في حركتكم بهذه الحقائق حتى يعملوا بها بل ويتقيدوا بشروطها لمصلحة البلاد كما تعهدتم به، ونحن لا نشك في صدق نواياكم وحسن سريرتكم!

لنضع الشونيز على الحروف

ومما قلتم في كتابكم، تعيبون فيه ما كان خصومكم يفعلون : «ولأن الزمن زمن الديمقراطية، فلا بأس من الأخذ بطلاء منها»؛ فلا تفعلوا ما عبتموه على من حاربتم طويلا، وقد قلتم أيضا تفنّدون نواياهم الحسنة : «ولو أن الإسلام راج سوقه لما ترددوا في إطلاق بخوره». فها نحن أولاء نرى البعض من رجال حزبكم، وقد وصلت النهضة إلى الحكم، وهم لا يترددون في إطلاق البخور تقديسا لنظرة معينة للعمل السياسي تقصي العديد من مقومات المجتمع التي تعرضتم إليها في كتابكم واعترفتم بحقها في الوجود، وبالأخص منها تعدد الرؤى ونبذ التزمت والإقصاء والعزوف عن تهميش الغير والتنكيل بالآخر لا لشيء إلا لأنه مختلف المآرب والهوى!

إنكم تقولون في كتابكم أن «رأسمال السياسة ليس الشطارة والمناورة وإنما ميزان القوة»، وذلك لعمري عين الحقيقة في دولة ديمقراطية مغرقة في هذا النموذج السياسي الحي في الحكم؛ أما من كان حظه منها الهشاشة مثل ما هو الحال بتونس، فلا يكفي هذا الميزان لوحده، إذ وجب تعديل كفتية بالعدل ونسبية الرؤى وبالتوافق حتى يكون بحق ذلك الميزان الإسلامي، ألا وهو القسطاس المبين على العدل والإنصاف لأخذ القوي _ بالرغم عن قوته النابعة من مشروعيته الإنتخابية _ برأي الضعفاء سياسيا من الأحزاب والحركات المستقلة لما لها من حق في الوجود على الصعيد السياسي لمجرد وجودها على المستوى الإجتماعي حتى وإن لم تسعفها الآلة الإنتخابية بالوزن اللازم.

بهذا الشرط وبه فقط يكون مجتمعنا مجتمع تآخ وسلم وتكون أمتنا بحق خير أمة أخرجت للناس، لا لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالمفهوم الديني فحسب، بل أيضا وأساسا بمفهومه السياسي والإجتماعي، بل وقل الحضاري، ألا وهو الأمر بما هو معروف في أخلاقيات الديمقراطية والوسطية والنهي عن منكر التزمت في المعتقدات، كل المعتقدات بما فيها الدين، والإجحاف في التصلت على الغير لاختلاف مشاربه وتوجهاته السياسية والمذهبية وحتى الشخصية. فلا مندوحة لأن يكون حظه _ وقد اعتُرف بحقه في الوجود بمجتمعات أقل حظا في الصلاح من مجتمع هو خير أمة أخرجت للناس _ أوفر وأعظم بمجتمعنا نظرا لقيمه العالية ومثاليته الكبرى وخلقه السني حتى لا تكون هذه الخاصيات مجرد شعارات باهتة لا حقيقة لها كعبادة التزمت للمظهر والشعائرية وجهل باطن الشرع وأدبياته، ومنها حسن المثال واحترام الآخر ونبذ الغلو في كل شيء.

إن أخشى ما أخشاه اليوم أن كل ماسبق من مباديء وما دعوتم وتدعون إليه من تصرف سياسي متحضر يبقى في بلدنا، وحسب تعبيركم، «مجرد أماني وألعاب بهلوانية» عند الحزب الحاكم المتفرع عن حركتم. لذا كتبت لكم هذه الرسالة المفتوحة كواجب وطني.

فكل ما يجري اليوم ببلادنا، كما قلتموه بأنفسكم في أعدائكم السياسيين، «يكشف عن قدر غير قليل من ضعف الوعي السياسي إلى حد السذاجة وضعف المبدئية الأخلاقية إلى حد الانتهازية بما (يجعل) السياسة تبدو وكأنها مجرد ميدان مناورات وليس مجالا محكوما بقوانين صارمة أهمها قانوم ميزان القوى (وذلك حسب المنطوق الصحيح الذي بيناه أعلاه) أو مباديء العدالة والمصلحة الوطنية العليا».

هذا، وإن كنتم أكدتم على أن إرادة الشعب لا تقهر، فالخطأ كل الخطأ اليوم هو في العودة بها، كما يفعل السلفيون وتأثيرهم يبقى من الأهمية بمكان على أتباعكم، إلى إرادة الله، لا لشيء إلا لأن ذلك أولا من البديهيات و ثانيا من الحق الذي يريد به البعض الباطل بتكييفه وتوجيهه حسب توجهاته المذهبية.

فالأحرى والأصح اليوم القول أن إرادة الله هي إرادة الشعب لأن الله فوّض لعباده حكم أنفسهم وبيّن لهم كيفية الرشاد في ذلك بالاعتماد على العقل والتزام المصلحة العامة في توجه كله تسامح ومسالمة كونية. فإن أخطأ المجتهد، فله مع ذلك الأجر الحاصل لكل اجتهاد صادق لأنه، كما قال ابن حزم (ونذكر هنا قوله بتصرف)، أفضل للمسلم الحق أن يخطأ عن اجتهاد على أن لا يخطأ عن تقليد لمن سبقه خوف البدعة، فما التقدم والتطور سوى نتاج البدع المتتالية. أما إن لم يجتهد وأخطأ فلا كفر يلحقه ما دام يؤمن بضرورة الاستكانة لحكم الله وقبول المحنة المسلطة عليه من طرف خالقه بصدر رحب لعدم إصابته الحق بإعمال العقل وتحمل كل تبعات ذلك حتى يخلص إلى ما هو خير منه بالعمل الدؤوب على تخليص نفسه من كل الشوائب، و تحطيم أصنامها. فالشيطان يكمن في كل النفوس البشرية، مؤمنة كانت أم لم تكن، وتلك لعمري ما يسميه علماء الإجتماع المحدثين بحصة الشيطان في كل نفس بشرية (Part du diable).

حضرة الشيخ المحترم،

أنتم تؤكدون في كتابكم على تحوّل حركتكم «من المشروع الدعوي المحدود إلى المشروع الحضاري الشامل»، وليس بالإمكان إلا تحية هذا التوجه والتنويه به. ولكن إلى أي مدى يا ترى تترامى حدود النهضة الحضارية؟

فحتى نتعرف على ماهية هذا المشروع الحضاري على أرضية الواقع التونسي المعاش، ونتعرف على ماهية هذا البرنامج الحضاري حقيقة، أستسمحكم قبول الرد على بعض المسائل الإجتماعية التي قد تكون محرجة ولكنها نابعة من صميم الحياة اليومية للتونسي، وهي من قبيل ما يسمى عند علماء الإجتماع بالمنهج النوبي حيث يدفع استعمال البرهان إلى ذروة ما به من تدليل Paroxysme والتي يستحسنون اللجوء إليه لاستكشاف مكنون الواقع والتعبير عنه على حقيقته، لأنها من المسائل المنتظمة اليوم في مسلك التحضر والتي لا مناص للعبور بها كمحطة من محطات الرقي إلى رتبة أعلى من التقدم وإلى المزيد من الحرية في مجتمع ديمقراطي ديدنه التسامح وتكريم الذات البشرية على ماهيتها واحترام حقوق كل فرد منه كما هو لا كما يقننه حاكموه ويبتغيه منظرو أي مذهب.

وإليكم هذه الأسئلة الثلاثة، وهي محورية للتدليل على توجهكم الديمقراطي :

_ هل تكفّر حركتكم من لا يؤمن بالله كما تؤمنون به فلا ترمونه بالبدعة أو الفسق أو الكفر؟ بل هل تقبلون أن يكون من التونسيين ما يسمّى بالزنديق دون الانتقاص من حقوقه المشروعة في المواطنة، أو أن يكون للمسلم بالوراثة الحق في إمكانية الارتداد عن الدين الإسلامي إن عن له ذلك دون استباحة دمه؟

_ هل تتعهدون بأن لا تسن حركتكم قوانين تعاقب الإلحاد أو التمييز بين العقائد أو تنتقص من حقوق المواطنين غير المسلمين؟ بل هل أنتهم مستعدون لتحيين القوانين التعسفية في كل ميادين الحريات الخاصة إضافة إلي الحريات العامة كجزء لا يتجزأ منها؟

_ هل تقبل النهضة بالحرية الجنسية كحرية شخصية أساسية لا دخل للمنظومة العمومية والدينية فيها، فلا تنكر حق الفتى والفتاة في اللواط أو السحاق مثلا إن اقتضت الطبيعة أن يكونا من عداد المثليين؟ فهل تتعهدون بأن لا تدين حركتكم ما يسمى بالشذوذ الجنسي، بل وأن تنقض ما سنّه من سبقها من تجاوزات في هذا الميدان، مخلة بحقوق الإنسان؟

لقد ذكّرتم في كتابكم أيضا، وهذا يُحسب لحركتكم، بشهادات صادقة على تعقل الإسلاميين التونسيين حيث رفضوا الرد «على عنت السلطة بمثله» حسب تعبير الرئيس الحالي للبلاد. فهل كان هذا التعقل مجرد خاصية للحركة وقتية في زمن المعارضة أم هي من خاصيات نموذجها، فتبقى ولا تزول مع وجودها اليوم على سدة الحكم، وتبقى غدا أيضا إن دامت لها أصوات الشعب؟

فإذا كانت الحال تلك، كيف يكون ذلك؟ فقد بينتم أن الحركة لم تتردد في الاعتراف بأخطاء ارتكبتها، وإقدامها «على تقويم صارم» لتجربتها؛ فهل هذا من قبيل الماضي المندثر أم يبقى إلى اليوم، ونحن نرى من التصرفات والأقوال عند بعض الوجوه في حركتكم ما ينذر بخطر الانزلاق بكم من التنديد بإرهاب علماني إلى التنظير لإرهاب أصولي أدهى وأمر لأنه يستغل الحق في خدمة الباطل بينما لا يعدو الأول أن يكون من باب تصريف حق مشوه في خدمة حق مموه؟

وبالتالي، هل أنتم مستعدون للقول بالعلمنة كما عرّفناها في مقالات سبقت على هذا الموقع حسب اشتقاق الكلمة، أي الزمنية بمعنى تزامن نظريات حركتم مع واقع الزمن بالبلاد من خلال المُعطى الإجتماعي؟ هذا، وقد سبق للسيد رفيق عبد السلام في ملخص أطروحته الذي نشرها أخيرا بالعربية أن فكك مفهوم العلمانية الصحيح في الدين والديمقراطة بما فيه الكفاية.

وهل بحق قولكم «بتاريخية الظاهرة الإسلامية وخضوعها شأن كل الظواهر لقانون التطور في علاقة لا تنفصم مع بيئتها بما يفرض تمايزها من موقع إلى آخر«؟ فإذا كان ذلك كذلك، كيف يتم اليوم هذا التطور إذا واصلتم إعتماد نظرة جامدة للموروث الديني وتعاملتم مع النص القرآني، كل النص، ومع السنة المحمدية، كل السنة، بنفس المنهاج، أي منهاج الأخذ بالحرف بحذافيره، فيكون بذلك التقديس للنص وشكله لا لروحه ومقصده؟ فنواصل عندها إقامة أصنامنا الجديدة وتماثيلنا لتصور منا للحكمة الإلاهية، مع أنكم تقرون بأن العقل البشري يبقى بداهة قاصرا على الولوج إلى الحكمة الإلهية لضعته مهما علت مكانته، وإن رام ذلك وكاد ينجح في مسعاه!

إعادة التأسيس لفهوم الإسلام بتونس

حضرة شيخنا الكريم،

الآن وقد انتفى هاجس الخطر الأصولي عند أهم أصحاب الثقل في تمرير القرار الحاسم على الساحة العالمية وانفتحت ببلدنا تجربة واعدة مع النهضة كأسّ لها، لنحرص حتى لا تكون سياسة حركتكم في الجسد التونسي مثيلة لسابقيكم فلا تأخذ بعادة الدكتاتوية البغيضة في «إعمال المبضع في الجسد» حسب عبارتكم، لأن الجسد وإن اختلفت الرؤى يبقى واحدا، فلا هو إسلامي محض ولا هو علماني بحت، بل فيه من كل المكونات التي وإن لم تكن خالصة الجوهر فهي بالرغم _ أو من أجل _ ذلك رفيعة المعدن، ما يجعلنا نؤذيه وننتهك حرمته إذا آلمنا جزءا منه أيا كان صغره، حتى وإن كان ذلك بحجة الأغلبية وبمنطق الديمقراطية. فلعلكم لا تنازعوني إن قلت أن أخلاقيتنا الإسلامية تعلمنا أن مجتمعنا يجب أن يكون متلاحما، متآخيا، لأن أي آبسط عضو به تألم تداعى له كامل الأعضاء بالسهر والرعاية، وأفضل الرعاية ما يفرزه القلب من إحساس وعطف وحب لا نهاية له!

فحتى لا تكون مداواة «الإسلام الجريح» بتونس من باب الطب المعروف بالرعواني، منطلقه التشفي مما تركه ولا شك التطرف العلماني من قروح، لتكن عودتنا إلى هويتنا وعودة وعينا بمقومات ذاتيتنا على قاعدة سليمة تساهم النهضة بالقسط الأوفر في بناء صرحها، آخذة بما تختزله العقلية التونسية من تراث تليد ينضاف إلى الإثراء الطارف الإسلامي، مكونا بذلك ثوابت لا محيد من الأخذ بها إذا عزمنا العمل بما يتفق مع أعظم القيم الإسلامية قدرا _ إضافة إلى التوحيد _ ألا وهما مبدأي العدل والإنصاف حتى وإن كان ذلك على حساب أركان وعقائد أساسية غيرها.

أفلم يعاتب الله القدوة العظمى في ديننا، محمدا، عندما وجب ذلك تصرف منه رغم عصمته وسناء خُلُقه؟ أنكون أفضل من الرسول الأكرم فنعبس ونتولى دون ارتداع إذ جاءنا اليوم الشعب يطالبنا الاغتراف من أحلى وأعذب ينابيع الإسلام الحق، حتى وإن كان على حالة العمى التي أصابته من ويلات النظام البائد فلا يرى بجلاء وصفاء روعة هذه الينابيع ولربما يكتفي للارتواء من شدة الضمأ إلى العكر من تلك المياه ما من شأنه تعريض حياته لخطر المرض بله الهلاك؟

إنه من الخطأ الفاحش أن نعتبر مثل هذا التعطش الذي نلمسه في المجتمع التونسي للهوية وللمعنى والقيمة، وخاصة على مستوى الشباب، دليلا على أسلمته على منوال واحد ونهج ضيق تنتفي منه كل تلك الصفات التي لا محيد عنها لأصحاب العقول الواعية المتزنة لأنها أسست للعقلية التونسية؛ تلك الصفات التي إن اختزلناها بمنظور إسلامي أصولي تتراءي لنا من قبيل البدع في أفضل الحالات، بل الزندقة وحتى الكفر المحض عند بعض المتزمتين. أما إن أردنا فهمها على حقيقتها، فهي تتلخص في التسمية المعروفة للبربري، ساكن تونس القديم، ألا وهي : الرجل الحر!

إن الأوكد اليوم في هذه الفترة الحساسة، والعصيبة في الآن نفسه، أن لا نضع مكان الاغتراب لدى الحكم الذي كان ساريا اغترابا لدى الشعب باسم تعريبه وأسلمته، لأن التونسي، وإن كان عربيا مسلما بحق، فهو أيضا في عربيته وإسلاميته من الشذوذ أو الطرافة بمكان حيث تغترف عربيته من ينابيع أعجمية عديدة تغذيها وتزيدها بلاغة ورونق، ويتلون تدينه بما أفرزه العقل الإسلامي من إبداع، يكفينا أن نرمز إليه بالمكانة التي أحرزها فيه، رغم كل العراقيل والتضحيات، التصوف الذي ألمحنا إليه آنفا، كما أحرزه في العالم أجمع جالبا التقدير لمنبعيه الأساسيين، ألا هما كتاب الله وسنة رسوله، ولكن بعيدا كل البعد عن تحجر أهل الرسم من السلفيين.

فأنتم تؤكدون «أن الوسطية والاعتدال هما السمت العام في مجرى التيار الإسلامي وليس التشدد والعنف». وبما أنه، كما لا يخفى عليكم _ وأنتم السياسي المحنك _ أنه ليس أقسى من تسلط مظالم ذوي القربى، فهل بإمكانكم ضمان حماية حركتكم من تعسف ذوي قرباها من التيارات السلفية، سواء كأداة أو كضحية لها، والنهضة (وهذا لا يخفى على أحد) بحاجة لأصواتها للحملة الانتخابية المبرمجة؟

فإن كان الجواب بنعم، فهلا تعملون بما فيه شفاء لغليل تطلعات الجانب العلماني من المجتمع على أن لا يقع استدراج حركتكم رغم شعاراتها إلى حمأة الفتنة والتقاتل الداخلي بحجة العودة إلى الإسلام أو تعلة احترام مقدساته، خاصة وأن عدد المصطادين في الماء العكر لا يستهان به؟

أفلا يكون ذلك بالتدليل على أن الإسلام، إن كان بحق واحدا، فبعلميته وكونيته، وإلا فهو متعدد المشارب، غزير المعاني، متنوع المظاهر، ليس في معتقداته وشعائره غلو أو هيمنة إرهابية؟ وبذلك يكون للنهضة شرف السبق إلى تبيان الرشد من الغي وإفشال مساعي كل من يسيء للإسلام باسم الدفاع عنه؛ فذاك حال كل مسلم سلفي يرفض الغير لمجرد اختلافه دون الوعي بأن واجبه الأول كمسلم حق هو احترام الذات الانسانية بصفة عبوديتها لله ولكون الدين لخالقها وحده لا لعباده المتساويين أجمعين في الاسلام والتسليم له، وإن ميزت بينهم التقوى.

وطبعا ليست التقوى إلا تقدير الله حق قدره، وما الحكم في ذلك إلا من امتيازاته تعالى، إن بدا له عاقب وإن بدا له غفر، وهو الرحمان الرحيم! فكم من معصية غدت تقوى وكم من ذنب فتح باب الولاية بفيض من الله ورحمة منه، وهو دائم الفيض، لا تنقطع رحمته ما دام العبد يقطع بوحدانيته. وقد أكد الرسول على أن في ذلك تتلخص رسالته.

فلا شك أنكم بمثل هذا التوجه والعمل تحققون ما كنتم تنادون به من قبل الصعود إلى سرير الحكم من «توفير مقوّم أساسي من مقوّمات التغيير، ألا وهو ردم الهوة بين جناحي الحركة الوطنية : العلماني والإسلامي… ولا غرو أن البلاد أحوج ما تكون لهذه الخطوة رغم الثمن الباهض الذي يمكن أن يدفعه الطرفان، ولكنها خطوة في اتجاه التاريخ… (بشهادتكم وشهادة غيركم ممن صفت نيته) بما يجعل أي تضحية مجزية المردود…» وذلك بصريح عبارتكم التي لا فائدة في التعليق على بلاغتها إلا للتأكيد على ضرورة المرور من القول الصريح إلى الفعل الملموس والتصرف النزيه في واقعيته.

فليكن الإسلام التونسي وفيا للثلاثية التي تميزه، وقد لخصها ببلاغة ابن عاشر في منظومته السالفة الذكر؛ ولندعم بعدها الصوفي كأفضل جُنة لحفظه من الخطر السلفي وثقافته المحببة في التكفير.

وفي هذا السياق، نختم رسالتا هذه _ مع استسماحكم العذر للتطويل الذي لا مناص منه في مثل هذه المواضيع الحساسة _ بقولة الجنيد في أن «التوكّل عمل القلب، والتوحيد قول القلب» و قول أبي العباس السياري في أن «عطاء الله على نوعين : كرامة واستدراج، فما أبقاه عليك فهو كرامة، وما أزاله عنك فهو استدراج؛ فقل : أنا مؤمن، إن شاء الله!»

فالتصوف، علاوة على كونه العنصر الأهم من ثلاثية الذاتية الإسلامية في تونس، بله في سائر بلاد الإسلام، لهو المنظومة الوحيدة التي من شأنها القيام في وجه السلفية لمقارعتها بسلاحها في مبارزة مصيرية لمستقبل الإسلام لما لها من مشروعية مذهبية (ونحيل هنا على القولة المأثوة عن الجنيد : علمنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة)، وتاريخية إسلامية وتجذر في الهوية مع انفتاح على العالم لكونيتها، وعلى الروح العلمية في مفهومها الحالي أو ما بعد الحداثي.

ولكم مني، سيدي الشيخ، أحر السلام وأطيب الأماني للمضي قدما بحركتم نحو الأفضل، لا بالمفهوم السايسي والحزبي الضيق، بل بالمعنى الصحيح الآخذ بالمصلحة العامة للبلاد خاصة في هذه الظروف العصيبة.

فبقدر قليل من الحكمة والحنكة السياسية، التي برهنتم عليها إلي اليوم، يمكن أن نجعل هذه الظروف من أفضلها على بلادنا وعلى عالم الإسلام، بله على الدين نفسه، فنكون ممن قيض الله لتجديده على رأس هذا القرن الجديد حتى لا يصبح غريبا كما بدأ، كما ينذر بذلك المفهوم الشائع للإسلام اليوم الناقض، نصا وروحا، لأس أسسه : علميته وكونيته.