منتهى الخساسة أن تتحول السياسة إلى ضحك على الذقون. لأنه عندما يصبح التحيل على فرد جريمة يعاقب عليها القانون و يبقى اغتصاب إرادة شعب بأسره مهرجان تدق له الطبول و يحشد له المتزلفون لا بد لنا أن نعي تحول السياسة إلى مرادف للوضاعة و النجاسة حكرا على المتآمرين و المتواطئين و المهرجين في وعي عموم المواطنين.
هذا المفهوم الوضيع لسياسة التآمر على الشعوب و تكريس السلطة و التشريع لسحقها و الحيلولة دون وصولها إلى الإمساك بزمام أمرها لم يبقي من مبرر للسلطة سوى احتكار النفوذ في نهب خيرات البلدان المغلوبة على أمرها و سلب شعوبها مقابل الاضطلاع بدور الحارس الأمين المتحفز لقمع ثورة غضبها.
و لا يمكن اليوم النظر إلى هذه المناورات المسرحية و تعري مختلف المواقف الانتهازية لإكساء المهزلة “الانتخابية” ما فقدته من مصداقية من غير هاته الخلفية.[1]
فهذا النظام أنهى السياسة في بلادنا قبل ولادتها و أجهض كل الإرهاصات الصعبة لتحققها بعد أن حولها إلى جريمة انحراف وحول كل من تجرأ على تحديه بممارستها إلى مطارد منبوذ يهدر عرضه و تنهب أملاكه و تقطع موارد رزقه و يعتدى عليه و على أقاربه و تنتهك أبسط مقومات حقوقه و يسام العذاب في غياهب السجون حتى صار الفرار المخرج الوحيد من هذا الحصار يدفع اليائسون يوميا حياتهم ثمنا له غرقى في البحار و من بقى فللجوع و الطوى أو الرضاء بالذل مقبل ما يسخر له من عمل.
النتيجة التي انتهى إليها أحمد المستيري ومن اعتزل مثله منذ15 سنة هي التي انتهى إليها خلفه بعد 15 سنة للاقتناع بعجزه عن قيادة تحرر شعبه بالصفقات و التقلب و المناورات و هي التي أدركها عبد الرحمان التليلي و غيره من أنهم صنائع سيدهم و لم يبقى أمرهم بيدهم حتى يدافعوا عن بلادهم و التي سينتهي إليها غيرهم من المتهافتين و هي التي يرتهن من أجلها المئات في السجون يسامون أنكى صنوف الجور علهم يرضخون و يبقى بسببها آلاف المغربون محرمون من وطنهم لا لشيء سوى رفضهم دخوله أذلة خاضعين و التي نعيش من أجلها الحصار في الداخل تكاد تحسب علينا أنفاسنا و نعزل تماما عن مجتمعنا.
فبربكم عن أي انتخابات تتحدثون[2]
هذه البيعة الصورية التي تكرر للمرة العاشرة في تاريخنا الحديث كل ما حفظناه منها و خبرناه فيها أنها تذكرنا أننا شعب محروم من حقه في اختيار أولياء أمره و حكامه. شعب ممنوع من تقرير مصيره. شعب محجور عن الدفاع عن مصالحه. شعب يسام بقوته و قوت أبنائه إمضاء صك ولائه للمستبدين الظالمين.
هذه البيعة القسرية التي لازال هذا النظام يتوهم و هو يغالي في تزوير نسبتها المئوية أنها تعطيه شرعية غير شرعية شاوسيسكو و بينوشي و سالازار و فرانكو يدرك اليوم الخاص و العام أنه لم يعد يمثل في بلادنا سوى رمز إحباطها و الكابوس الجاثم عليها و الكاتم لأنفاسها.
كما ستضل التنظيمات الصورية التي أفرزتها الديكتاتورية أو التي أفرغتها من كل قاعدة جماهيرية نخبوية فاقدة لأي تمثيلية غير تمثيل العناصر القليلة التي تنخرط فيها ما لم تنصهر في القضية الأولية المطروحة عليها و التي تقتضي تحرير مجتمعها من الوصاية الدكتاتورية و هي مسؤولية تتطلب تحولات منهجية في تسييرها و في تحديد الأولويات المطروحة عليها و التخلص من التشويهات التي طبعها الاستبداد بها و لعلها تبدأ بإدراك أن ترتيبها في سلم التفاضلية و الأهمية في وضع الدكتاتورية يعيقها أكثر مما يكسبها شرعية حقيقية.
إننا نعتقد اليوم أن مقياس الشرعية – حتى تأتي الانتخابات الحقيقة – لا يمكن أن ينبثق إلا عما نحمله من رمزية لأمل وطن و أمة في التحرر من الاستبداد و من تناقض مع الظلم و الفساد و ما نجسده من قطيعة نهائية مع أصحاب المصالح الأنانية و الحسابات الضيقة الآنية.
إن خلافنا حول ما يحصل هذه الأيام لا يتعلق بالإستراتيجية التي يتوجب التعامل بها مع هذه القضية و لا حول التوصيف الذي ننطلق منه في التعامل معها و لا حول تقييم دور المنظومة السياسية الحالية التي سمحت بإفرازها الدكتاتورية في المرحلة الانتقالية و لا في مسألة التعامل مع القوي و المنظمات الدولية في تحقيق الديمقراطية بل في الأخلاقية السياسية.
فهل أن المنادون بالمشاركة يجهلون أنهم بمشاركتهم يزكون مناورة، الخصم فيها هو الحكم و قد أثبت على مدى نصف قرن احتكاره لكل شيء و عدم استعداده للتنازل عن أي شيء.[3]
و هل أن المنادين بالمقاطعة يدركون ما يقولون أم يتجاهلون كيف تحشى صناديق الاقتراع و كيف يتم التصويت للمتغيبين. و الساعون للاضطلاع بدور مراقبة كذلك هم يفعلون.
هذا الاختلاف يبدو بسيطا لأول وهلة و لكن الذين ينادون بالمشاركة مثل الذين ينادون بالمقاطعة ينطلقون من توصيف خاطئ لما يحصل بكونه انتخابات و الحال أنها ليست كذلك لأن تجربة العشرة دورات السابقة و على مدى 50 سنة أثبتت أنها لا يمكن أن تعطي نتيجة غير حصول الحزب الحاكم على تزكية كل المعينين باسمه و إعادة انتخاب رئيسه بنسبة 99 بالمائة.
هذا المنهج لا يمكن أن يقود سوى إلى مواقف ذرائعية للتفصي من المسؤولية و تحميلها على المجتمع المغلوب على أمره في غياب قيادة حقيقية تدافع عنه و تتحرك باسمه. فالمشاركون سيتذرعون بكونه لم يساند بالتصويت لمعارضتهم و المقاطعون بأنه لم يلبى الدعوة للمقاطعة الصادرة عنهم.
و هذا المنهج في التعامل مع القضية الوطنية سيكرس الأمر الواقع الذي تراهن عليه الدكتاتورية و الذي لخصه الصحفي برهان بسيس عندما قال: ” في سياق الفضاء الخصوصي الذي تصنع فيه السياسة يقف نظام الرئيس بن علي –رغم أماني البعض-قويّا متوازنا مستفيدا من تحكّمه في العصب الاجتماعي الحسّاس قاعدة أي توازن مهما كان نوعه بما يسمح له بالبقاء سيّدا منفردا بإدارة اللعبة خاصّة وأن العبث الدولي المحيط منحه موقعا مريحا وسّع له دائرة إعادة إنتاج السلطة والتحكم في الهامش … ما لم يفهمه البعض أن العالم وفق تشريطاته الحاليّة لا يزال في أفقه مريحا لنظام الرئيس بن علي أمّا الداخل فرغم جيوب الانفلات الطبيعي اجتماعيّا (بطالة – تسريح عمال – هجرة سريّة …) فان حالة الاستسلام الاجتماعي الكامل لطموحات الكدح و الرفاه الماديّين قد أعطت وبشكل حاسم وصلب شرعيّة وقوّة هذا النظام .”[4] باعتباره يتوقف في محصلته النهائية على غياب الإرادة الاجتماعية لتحقيق الديمقراطية و تصبح بذلك الوصاية التي تمارس بها السلطة منذ خمسة عقود منطقية و قائمة الشرعية. فنحن أمام نظام منبوذ لا يجد أمامه غير بديل مرفوض.
إنه عندما يتحدث عن “الاستسلام الاجتماعي” ينمق وضعية القهر السائدة التي يرتهن من أجلها المئات من المساجين السياسيين و يشرد من أجلها آلاف المعارضين و تمنع من أجلها كل الجمعيات و الأحزاب الحقيقية التي ترفض الدخول تحت وصاية الدكتاتورية و الرضا بديمقراطية الأحكام العرفية. . و عندما يؤكد أن “العالم وفق تشريطاته الحالية لا يزال في أفقه مريحا لنظام الرئيس بن علي” لم يعي حقيقة ما يجري. و إذا كانت مكافحة الإرهاب أكبر تحدي يواجه العالم اليوم فإن الجميع قد اقتنع أن أصل الداء يكمن في هذه الأنظمة القائمة على إرهاب شعوبها و الباعثة على يأسها و إحباطها بما يجعلها سبب هذه الظاهرة و المغذية لها.
المنظومة السياسية التي أفرزها نصف قرن من الاستبداد و الدكتاتورية يسارية في مجملها عدى حركة النهضة الإسلامية التي تواجه بالقمع و الاستئصال منذ ربع قرن فالحزب الحر الحاكم تحول إلى اشتراكي منذ بداية الستينات و ديمقراطي مع نهاية الثمانينات و كل الأحزاب و المجموعات المعترف بها أو المتغاضى عن نشاطها اشتراكية و ديمقراطية على منواله و لكنها خلافا لما يميز أحزاب اليسار عادة من جماهيرية انغلقت في أوساط نخبوية تحمل في سياق نشأتها و في تركيبتها و طريقة تسييرها و خطابها جميع السمات التي تجعل منها إنتاجا لنظام لا يتعدى طموحها أن تكون بديلا عنه أو هامشا لتوسعه و لا علاقة لها بالمجتمع أو بالتعبير عن حقيقة مشاغله. مجتمع يبادلها التوجس و الإزدراء لا تنفك غربتها تتعمق داخله.[5]
الأزمة التي تردت فيها المنظومة السياسية الحالية حيّدت السياسة عن الفعل في عكس التطلعات الاجتماعية لنظام أكثر عدالة و حرية و تعددية و حيوية و سدت منافذ تحقيقه. و بقيت السياسة شعارات جوفاء متناقضة مع مدلولاتها بعجزها عن التحول إلى مشاريع مجتمع تنتج سلطتها الذاتية حتى انحسرت صياغتها في شكل نداءات ظرفية للسلطة أو القوى الخارجية الداعمة لها لا يتعدى صداها التجاهل التام لها. وفي المقابل يتعمق الاتجاه نحو تكريس حكم أوتوقراطية فردية تحمل قيما تسلطية موغلة في الرجعية و لا تتلاءم مع المفاهيم الحديثة لحكم القانون و الشرعية الدستورية قدر عجزها عن التمييز بين القانون و إرادتها الذاتية في غياب أي رادع لها.
هذا الانغلاق الذي يستوي فيه الحزب الحاكم مع معارضيه في العجز عن إفراز إرادة مستقلة و التحكم في إدارة حوار وطني حول القضايا الأساسية يرتهن البلاد بإرادة فرد هو في محصلته النهائية حقيقة الدكتاتورية و ما تبحث على تكريسه بصفة أبدية.
و في ضل هذا الجمود السياسي و الاجتماعي المليء بالإحباط و الاستقالة الجماعية يستهدف النظام العمل على تحوير البنية الاجتماعية تماما بما ينسجم مع بنيته الأوتوقراطية عن طريق تحويل الثروة الوطنية و احتكارها في أوساط عائلية ضيقة تربطها فيما بينها علاقات قرابة و مصاهرة و انتماءات جهوية يكرس لها الادخار الوطني عن طريق إيثارها بالقروض البنكية عدى عدم تحديد سقف لها و عدم مشاغبتها بطلب سدادها. كما تحظى بالأولوية إن لم نقل احتكار التفويت لها في أراضي الدولة الفلاحية و البلدية و تستأثر بما يقع التفويت فيه من المؤسسات العمومية بعنوان الخصخصة عدى الصفقات و اللزمات الهامة بأثمان تفاضلية لا علاقة لها بقيمتها الحقيقية و يتم ذلك تحت غطاء كامل من عدم المسائلة القانونية و الجبائية و الجمركية مما سمح لها باكتساح المدن و القرى بالأسواق الموازية و إغراقها بالبضائع التي تزودها بها مسالك التهريب المحمية. بما يدمر النسيج الصناعي و التجاري للاقتصاد الوطني.
هذا السطو المنظم الذي تكرس له الدولة في الحقبة الحالية من خلال تغذية النزعة التّملكية لبطانتها يستهدف أساسا الطبقة الوسطى من خلال تقويض مقومات استقلاليتها المادية لبناء إقطاعية حداثية تحت شعار اللبرالية بعد أن أخفقت في تمريرها بواسطة التعاضد في بداية الاستقلال عن طريق الاشتراكية.
إن ما يفسر ما يبدو كظاهرة “استسلام اجتماعي” يذكرنا إلى حد بعيد بما عاشته بلادنا قبل نهاية حقبة التعاضد في أواخر الستينات بعد ما صودرت الحريات الاقتصادية ووقع إلغاء حق الملكية.
إن تونس اليوم تعيش على مشارف نصف قرن من استقلالها أزمة سلطة حقيقية تأتي “الانتخابات الرئاسية و التشريعية” الحالية أحسن تجسيم لها في غياب البديل القادر على تحقيق مبدأ التداول على السلطة أو حتى مجرد التأشير على قابليته للتحقق في ضل حكم وصائي يسوس المجتمع على أساس الولاء و الاستعداء. فشتان بين نخب بداية الاستقلال رغم أنها لم تكن تتعدى بضعة آلاف و ما كانت تزخر به من طاقات و انغماسها كليا في الشأن العام و تجندها لخدمة القضايا الوطنية و نخبنا اليوم وقد أصبح المجازون بالملايين حيارى مسحوقين مستقيلين تماما يغلب عليهم العجز عن الوفاء لأي قضية إن لم يتحولوا إلى مهرجين مغالين في تنميق الظلم و الاستبداد لترويج الدكتاتورية. لقد نجح هذا النظام الشمولي في إحداث الفراغ من حوله بتهميش كل ما تزخر بلادنا من طاقات إبداعية و تيارات فكرية و سياسية كان لها أن ترسي تعددية حقيقية على تراث حركة إصلاحية تعود إلى أكثر من قرن و نصف. فصودرت الكلمة الحرة و الرأي الناقد النزيه و جرم العمل من أجل المجموعة حتى وصلنا إلى حد أصبح فيه الاستبداد البديل الوحيد عن الاستبداد.
لقد درجت الأجيال المتعاقبة من النخب المتعاقبة منذ الاستقلال على النظر للسلطة نظرة ولائية عتيقة عفى عنها الدهر يتداخل فيها مفهوم النظام بالدولة و مفهوم الدولة بالوطن و مفهوم السياسة الوطنية بالوصاية على المجتمع و لم تطمح من معارضتها إلى غير الإعتلاف و الوجاهة من توظيفها في جهاز الحكم الذي سرعان ما تتكيف مع إطلاقه و تتورط في إغراءاته لتصبح رهينة لمصالحها منه و تنتهي إلى بطانة صاغرة متضامنة في الدفاع على تجاوزاته واحتكاريته لم يداخلها الشك قط في أن السلطة وقف خالص لها. و لم يجد النظام بدوره صعوبة تذكر في القضاء بالترهيب على من لم تأتي سياسة الترغيب على معارضتهم له.
و قد و جدت أنظمة كثيرة شأن النظام القائم في بلادنا نفسها طليقة اليد لعقود في التنكيل بشعوبها و قمع طموحاتها المشروعة و نهب ثرواتها. كما سمحت لنفسها بممارسة أبشع وسائل الاضطهاد و التعذيب لكبت كل نفس حر يتبرم من شناعة ما يقف عليه من تجاوزاتها مما جعل المجتمع الدولي ينتبه إلى سياسة إرهاب الشعوب التي تمارسها مثل هذه الأنظمة في بلدانها بما أدت إليه من كوارث إنسانية و مجازر عرقية و بما أنتجته من أجيال يائسة ناقمة يستوي لديها الموت بالحياة تشكلت منها مجموعات منظمة للإرهاب الدولي صدمت ضمير العالم بمدى النقمة و اليأس الذي تنم عنها أفعالها و أدرك الجميع أن هذه الأنظمة هي المغذي الأساسي لحقدها و المعين الذي لا ينضب لتزويدها باليائسين المهيئين لتبني أطروحاتها و تنفيذ مخططاتها.
واعتقد الطغاة في كثير من بلدان العالم أن هذه الظاهرة ستطبل من عمر أنظمتهم و طفقوا يسوقون خدماتهم لضمان أمن العالم المتحضر بما يتقنونه جيدا من فنون قمع شعوبهم وهم لا يسعون في الحقيقة إلا إلى إخماد تأجج شعور الغضب من الظلم الذي يمارسونه ضدهم.
و لكن ما حدث حقيقة خلال السنوات الأخيرة هو افتضاح الطبيعة الرهيبة لهذه الأنظمة و تسلط الأضواء عليها بما شل إطلاق يدها في كبت وقمع أصوات معارضيها. و ساعدت وسائل الاتصالات الحديثة على إحداث شروخ في الستار الحديدي للتعتيم على ما يحدث حقيقة في بلدانها عن طريق نقل شهادات حية عن الجرائم التي ترتكب باسم السلطة فيها. و وجدت كثيرا من النخب المحلية و المعارضة الحقيقية قدرا كبيرا من الحماية الدولية لم يكن متاحا لمن قبلها وفر الظروف الموضوعية لبدء بناء البدائل اللازمة عن هذه الأنظمة التسلطية.
و كانت تونس من أول الدول التي عرفت مؤشرات واضحة عن انكسار الأداة القمعية للدكتاتورية المتحكمة في نظامها في خضم التحولات الدولية انطلاقا من تحدي الصحفي توفيق بن بريك لنظام القضاء الجائر و تشهير الصحفية سهام بن سدرين اسميا بقضاة الدكتاتورية و الصرخة التي أطلقها محمد مواعدة و رفض الدكتور المنصف المرزوقي المثول أمامه و احتقاره علنيا لأحكامه كما جاءت حملة التضامن التي تبعت الرسالة التي وجهتها شخصيا لرئيس الجمهورية و الفضيحة التي حصلت بمناسبة التحدي الذي قام به المناضل الشيوعي حمة الهمامي للقضاء بالخروج من السرية. و بان جليا عجز هذا النظام على تجريم المعارضة الديمقراطية و لم يشذ عن هذا الاستثناء سوى سجناء حركة النهضة الإسلامية الذين ذهبوا ضحية تواطؤ مريب حكمته حسابات سياسوية سمح للدكتاتورية أن تستشرس في حقهم داخل السجون و ضد عائلاتهم و من أتموا قضاء مدة عقابهم كما حصل في حق الصحفي عبدالله الزواري و الدكتور عبد اللطيف المكي من تجاوزات يندى لها الجبين.
لقد حرص الاستبداد على أن لا يعطي أي مؤشر على انفراط الأمور من بين يديه و زاد انغلاقا و تعنتا سواء على المستوى الإعلامي و الحق في التنظيم و حرية النشاط الجمعياتي و السياسي و النقابي و حول كل أجهزة الدولة إلى أدوات تحكم و ترصد و يقظة و استنفار لمعاضدة ترسانته الأمنية الرهيبة بعد أن عززها بالتشريعات الاستثنائية التي ضاعفت العقوبات عن كل نشاط و ألغت بصفة فعلية كل الضمانات الشكلية التي كان يموه بها المحاكمات السياسية مراهنا على هذه الدورة الانتخابية عسى أن تطيل من عمره و تكسبه شرعية يجابه بها الانتقادات الدولية و التي سيخرج منها أكثر اهتزازا لشرعيته و فاقدا لمصداقيته لم يبقى أمامه سوى مجابهة تحدي خوض انتخابات حقيقية.
هذا التحول النوعي في أوضاعنا الداخلية يؤشر بعمق على تغير المعطيات و انقلاب التوازنات بصفة نهائية. تحول أدركه العاملون على إيجاد البديل يمكن قراءته في مواقفهم و مبادراتهم و يفضح غياب الوعي به تخبط مواقف الفاقدين للدليل و عجزهم على القطع نهائيا مع الحقبة الاستبدادية. إن كل ما بقي من النظام الحالي اليوم لا يتعدى نمرا من ورق رغم حجم التعتيم و المغالطات الذي وظفت له أجهزة الإعلام الرسمية و محاولات صرف الأنظار عن الشأن الداخلي وتأليب المواطنين حول نعرات قومية مستغلة أوضاعا استثنائية في العراق و فلسطين لمزيد تمكين الاستقالة و الإحباط و اليأس من قرب زوال كابوس الظلم و الإنعتاق من الدكتاتورية.
لقد كان منطلق الحوارات التي دارت مند صائفة 2001 بين شق هام من المعارضين تهدف إلى بناء تيار وطني يقطع نهائيا مع المعارضة التقليدية باعتباره لا يهدف إلى التنافس على التواجد على هامش الدكتاتورية بل يسعى إلى أن يكون بديلا لها عن طريق إنهائها و إعادة بناء السلطة وفق قواعد الحكم الحكيم ( Bonne gouvernance ) و تعزيز دور المجتمع المدني و تركيز دعائم دولة القانون و المؤسسات و ضمان ممارسة الحريات الفردية و الجماعية و علوية القانون و استقلال القضاء و مرجعية الإرادة الشعبية في اختيار من يتولون السلطة من خلال انتخابات حقيقية تضمن منافسة تعددية تسمح بالتداول على السلطة بصفة سلمية و دورية. و قد كانت إرادة القطع مع رياء الخطاب الرسمي و معطلاته التسويفية و التبريرية تلتزم بقراءة الممارسة الفعلية للسلطة كأداة قمع سياسي و حيف اقتصادي في خدمة أقلية على حساب الأغلبية.
و قد أثمر هذا التيار إثراء النسيج الجمعياتي بتأسيس مركز تونس لاستقلال القضاء و المحاماة و الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين و فتح الفضاء الدستوري.
كما كان المقصود من هذا التيار أساسا التصدي للنزعة الإقصائية داخل السلطة أو في بعض أوساط المعارضة التقليدية اقتناعا بأن أي تيار يضع شروطا مسبقة للعمل السياسي لا يمكن أن يكون إلا وصائيا و يقود إلى الدكتاتورية.
إلا أن مختلف المحطات التي شهدنها الحركة الديمقراطية خلال هذه الفترة اصطدمت بنزعة إقصائية تبناها التيار اليساري التقليدي و بالحسابات السياسوية المتخوفة من حصول تحول في موازين القوى بين مختلف التيارات التقليدية يخاط الأوراق و يعيد رسم خريطة المنظومة السياسية.
و كانت الندوة التي انتظمت بمقر الحزب الديموقراطي التقدمي حول تحوير الدستور في ماي 2002 كشفت و جود تيارات انتهازية تناور لصفقة ضمها إلى المعارضة الوفاقية أكثر من انشغالها بالقضية الدستورية. كما تبين أن تنظيمات غيرها تحكمها استراتيجياتها الذاتية الخاضعة لخطوط حمراء أو سقف حقوقي لا يمكنها تجاوزه مما أفرغ الندوة من مضامينها السياسية.
هذه الوضعية أحدثت انشطارا داخل المعارضة الديمقراطية سرعان ما تحول رهانه إلى البحث عن الهيمنة على مكونات المجتمع المدني المستقلة. حيث و قع رفض انضمام مركز تونس لاستقلال القضاء و المحاماة و الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين إلى ائتلاف الجمعيات المستقلة الذي اكتفت فيه جمعية المحامين الشبان في هيئتها السابقة أيضا بحضور شكلي و التي دفعت ثمن موقفها بإسقاطها في انتخابات تجديدها لصالح هيئة تجمعية و انحسر العمل المشترك حول قضايا خارجية اختزلت في بيانات حول فلسطين و العراق.
و جاء صدور البيان المشترك للجمعيات المستقلة في غياب الرابطة بعد انتخاب الأستاذ محمد نجيب حسني على رأس المجلس الوطني للحريات بمثابة دق لناقوس الخطر بالنسبة لأصحاب النضرة الأحادية في المعارضة و الذين يحملون نفس النضرة الوصائية التي تحملها السلطة على المجتمع المدني كنسيج تابع يدور في فلك النظام الأحادي السائد. فوقعت الإطاحة به بطريقة تذكرنا إلى حد بعيد بالمناورات التي تعمد لها السلطة لاسترجاع إي منظمة تحاول الخروج عن طوقها و إخضاعها لإرادتها. كما وقت مقاطعة الهيئة التنفيذية لمركز تونس لاستقلال القضاء و المحاماة من طرف العناصر المنتمية لهذا التيار و أصبح الترويج للتصدي للتغلغل الإسلامي في المجتمع المدني يتم علنا و يروج له في البرلمان الأوروبي و شبكات التضامن الدولية ووصل المدافعون عن حقوق الإنسان حد التوجه للنظام لمطالبته بمزيد الحزم في التصدي لظاهرة انتشار الزي الإسلامي في وقت كانت حملة الاضطهاد تطارد النساء في الطريق العام و تمنعهم من الدراسة و العمل متدخلة في أخص خواصهم الذاتية و هي اختيار لباسهم في بلاد لازال ينص دستورها أن دينها الإسلام.
و بدا جليا أن هنالك قضايا أولية أساسية بحاجة إلى الحسم لتفعيل الحركة الديمقراطية يحاول الكثيرين تفادي عرضها للنقاش العام ليس دونها مسألة الشرعية التي يستمدها البعض من اعتراف السلطة بهم كأحزاب و جمعيات لبسط هيمنتهم على المجتمع المدني و المعارضة المستقلة و لممارسة الإقصاء و المحاصرة عل كل من يخالفهم و التي تثير تساؤلات جدية حول تمثيلية المنظومة الحالية لحقيقة القوى الفاعلة في الساحة الوطنية فاليسار التقليدي يواجهه ظهور يسار جديد تميز بحضوره و حيويته في كل المستويات و على جميع الجبهات كما أن الاستثناء الإسلامي الذي تتقوقع حوله المعارضة التقليدية لا يريد أن يستوعب التحولات التي تمر بها الحركة الإسلامية التونسية وانخراطها الفعلي في النضال من أجل دولة القانون و المؤسسات كما أن سمة اليسار التقليدية التي طبعت المعارضة التونسية لم تعد تعبر عن أطياف قوى المعارضة المتواجدة بصفة فعلية على الساحة الوطنية و أصبحت تشكل عامل يحول دون انفتاحها على الأجيال و التيارات الصاعدة و يحكم عليها بالتقوقع و الجمود خارج سياق التطور الطبيعي للظروف و الأفكار التي يفرضها السياق التاريخي و لم تعد تعطي صورة مشرقة و حية عن الديمقراطية التي تروج لها من خلال ممارساتها الفعلية.
و قد جاءت ندوة إيكس التي انعقدت في فرنسا لتقريب وجهات النظر و تدارك هذا الوضع بالوصول إلى أرضية مشتركة للمشروع الديموقراطي و الفصل بين المستوى الحقوقي الذي ينشط فيه المجتمع المدني المستقل و المستوى السياسي الذي يجب أن تضطلع به أحزاب المعارضة و الارتقاء بأداء هذه الأخيرة من المعارضة الاحتجاجية إلى المشروع السياسي التعددي المتكامل. إلا أن الانسحابات التي حصلت في آخر لحظة و الزوبعة التي أثيرت حول عقدها أكدت استحكام الحسابات السياسوية الضيقة في كل إستراتيجية عمل مشترك و عدم استعداد القوى المهيمنة على المنظومة الحالية للمعارضة بالمجازفة بمواقعها و خوض اللعبة الديمقراطية بكل شفافية و تلاؤم مصالحها الخاصة مع المجال الضيق الذي رسمته لها الدكتاتورية. و أكد هذا الوضع نجاح السلطة في أن تجعل من سياسة الاستئصال القاعدة المشتركة التي تلتقي عليها مع المعارضة “الديمقراطية”
ثم جاءت مسألة التحالفات حول الموقف من انتخابات العميد و الهيئة الوطنية للمحامين لتزيد الأمور تعقيدا و تخلط الأوراق بصفة نهائية.
و لئن قدم اليسار مرشحين للعمادة و لرئاسة فرع تونس مدعومين من الخلية التابعة للحزب الحاكم بعد أن نجح في إسقاط الهيئة المستقلة للجمعية التونسية للمحامين الشبان عن طريق نفس التحالف فأنه حافظ على مساندة لفظية للعميد المتخلي.
بينما اختلفت التقييمات في تناول القضية في بقية الأوساط بين منادي بعدم التفريط في هذه المؤسسة و الالتفاف حول العميد السابق للتصدي لمخططات السلطة لإسقاطه و بين من يرى أن الائتلاف الذي أوصل العميد السابق لم يعد قائما و أنه يجب النظر إلى القضية من مصلحة عموم المحامين و التي لا تقتضي بالضرورة التجديد و من وجهة نظر ديمقراطية و التي تتطلب عدم القبول بتواصل تحويل منظمات قومية إلى منابر لتيارات سياسية.
لذلك تغلب الرأي الداعي لتكريس مبدأ التداول و ذلك من خلال البحث على شخصية وفاقية لمجابهة مرشح السلطة.
إلا أن إعلان الأستاذ عبد الرؤوف العيادي ترشحه و إصراره على التمسك به رغم توضح عدم قابليته لجمع جبهة قادرة على أن تجعل منه مرشح جدي للمراهنة على العمادة زاد في تعميق الشرخ داخل الأطراف الساعية إلى بناء تيار وطني مستقل قادر على تعديل الكفة داخل المعارضة التونسية و ذلك بين من يبحث على إخراج التيار الوطني من التقوقع داخل الأطر الهامشية ( Microcosme ) التي سقطت فيها المعارضة التقليدية و ذلك عن طريق مرشح مستقل من خارج هذا التيار في شخص الأستاذ عبد الجليل بوراوي أو الأستاذ محمد المكشر يكون مقدمة لانفتاح التيار الوطني على أوساط واسعة من غير المعارضة التقليدية و بين من يرى أنه لا معنى للرهان على العمادة خارج دعم مرشح ينتمي للمعارضة الحقيقية و تتوفر فيه كل الضمانات المبدئية. و قد رفض أصحاب هذا الرأي الأخير حسم المسألة بصفة ديمقراطية رغم وضوح انحسارهم في أقلية.
و قد انعكست المحصلة النهائية لهذه التجاذبات على المواقف من الانتخابات التشريعية و الرئاسية الحالية بين حدين :
اليأس نهائيا من أي دور للمعارضة في الفترة الحالية و اختيار الانضواء تحت لافتة النظام بصفة علنية
اليأس من قيام جبهة ديمقراطية وطنية و الدعوة لمقاومة الدكتاتورية و جعل هدف إسقاط الرئيس الحالي مدخل لكل تغيير حقيقي في اتجاه الديمقراطية.
و يتنزل بين الموقفين “المبادرة الديمقراطية” التي تلتقي مع النظام في استئصال النزعة الإسلامية و تختزل الحداثة في قيام دولة علمانية. وبين الداعين لانتخابات حقيقية و المزدرين للمهزلة الحالية.
و لعل أي تقييم تفاضلي لهذه المواقف الظرفية في المرحلة الحالية غير مجدي باعتباره لا يمكن أن يعكس سوى المقاييس الذاتية و التبريرات الخاصة التي دفعت كل طرف لاختيار إستراتيجيته الحالية. ذلك أن المطلع عن قرب على المحددات التي قادت إلى مختلف هذه المواقف لا يجد اختلافا بين الذين اختاروا الهروب إلى الوراء أو إلى الأمام في قناعتهم بالمعضلة السياسية التي أصبح يشكلها نظام الحكم في صورته الحالية و في عدم قدرته على الاستجابة للتطلعات المشروعة للغالبية العظمى من التونسيين في نظام أكثر عدالة و أوسع حرية.
فإذا كانت الدكتاتورية تدرك جيدا أن أي تنازل أو انفتاح جدي من جانبها لا يمكن أن يقابله سوى تقوية الأصوات المنادية بمزيد من الحريات و الديمقراطية و يجعلها أضعف في التصدي لمطالب إضافية فإن مختلف التيارات التقليدية تعيش بدورها أزماتها الذاتية التي لا تقل حدة و تعقيدا و تدرك أن أي تحول جوهري في مواقفها سيؤدي بها إلى فقدان المزيد من مواقعها و جلي في ضل هذا المأزق أن التعددية لا تخلق لوحدها ديمقراطية و أننا بحاجة إلى أخلاق سياسية جديدة تنهي وصاية النخبة و تعمل على جعل الدعوة لانتخابات حقيقية مطلب وطني يعيد المرجعية الشعبية لشرعية السلطة السياسية و مقياس التمثيلية الانتخابية لوزن التيارات السياسية و يسقط كل الحسابات الوصائية.
المختار اليحياوي
تونس – أكتوبر 2004
http://www.mytunisie.tk
http://www.yahyaoui.blog-city.com
[1] – يراجع : نحن الجائعون أمام حقولنا – الطاهر العبيدي – جريدة الموقف العدد 278 بتاريخ 17 / سبتمبر/ 2004
[2] – أنضر مقال السيد محمد القوماني رئيس القائمة التقدمية لتونس ” إقصاء سياسي الديموقراطي التقدمي من المعركة الانتخابية بالعاصمة” بجريدة الموقف 281 في 08 10 2004 و بيان الحزب الديموقراطي التقدمي حول الطريقة التي تمت بها إسقاط قائماته الرئيسية.
[3] – رغم ما يحاول التظام الإيهام به من تعددية شكلية لا يزال التشيد الرسمي التونسي الذي يردده التلاميذ كل صباح و ينشد في كل المناسبات الرسمية يتغنى بالحزب الواحد:
“بحر يدي و بما في دمي أنا لبلادي و حزبي فدا.”
[4] – برهان بسيّس TUNISNEWS – N° 1567 du 03.09.2004
[5] – يراجع مقال آمال موسى ” المعرضة التونسية و الانتخابات: صراخ في مكبرات الصوت” حيث تقول : علما بأن خفوت النبرة السياسية لديها هو نتاج صفقة تلبي منافع ذاتية، وأبعد ما تكون عن سياسة المراحل التي تدّعي المعارضة سلكها. فما هو مرفوض، وهنا جوهر القضية، هو أنها اختارت طوعا قتل الطابع التنافسي لأي انتخابات.. (صحيفة الشرق الأوسط الصادرة يوم 8 أكتوبر 2004)
iThere are no comments
Add yours