يقول عبده وغيره من زعماء الإصلاح: الإسلام دين الفطرة، العقيدة التي يتجه إليها تلقائياً العقل البشري (عقل كل فرد حسب ظاهر القول) عندما يكون غير خاضع لمؤثرات خارجية من تربية وقهر وإجبار.

نعود إلى كتب الفرق، فنجدها تقرر أن المعتزلة أرادوا فهم النصوص (أيّا كان نوعها) حسب ما يستقر في النفس على البداهة (وهو ما يتبادر الى الذهن من كلمة عقل). فقال لهم من ادعى حفظ ما فهم الاسلاف من النصوص: تطاولتهم ولم تقفوا عند الحدّ الذي يقره العقل نفسه. والكتب ذاتها تقرر كذلك أن الاشاعرة قد انتهوا الى تلك الخلاصة بعينها، فوقفوا عند حدّهم مع أنهم اتبعوا نهج المعتزلة في المجادلة واستنباط المعاني. فأحسنوا حيث أساء أولئك. العقل الصحيح السوي هو الذي يستعمل لإثبات عقيدة السلف التي هي عقيدة الفطرة، فطرتهم هم وبالتبعية فطرتنا نحن. هذه إذن خطة صريحة لحد العقل وإرغامه على أن يكون مجرد آلة في خدمة ما هو أسمى وأشرف منه. لكن إذا وجب وضع حدود لممارسة العقل، حتى نعقل معقول غيرنا من الاسلاف، فما مصير القول الذي انطلقنا منه وهو أن العقل، عقل أي فرد، يقود طبيعياً وتلقائياً لدين فطري، لاتعسّف فيه ولا أكراه، هو الإسلام؟

ثم نتابع البحث في كتب الفرق فنكتشف أن هذا الموقف الاشعري، المحترز من العقل، تعرض لنقد لاذع من طرف أهل الظاهر ووافقهم على ذلك النقد كل من الفلاسفة والمتصوفة. بل نرى الاشاعرة أنفسم يضعون شروطاً صارمة لطرح النصوص تحت نظر العقل. نستنتج من هذا أن المقصود هو الاعتراف بأنه يوجد فوق عقل كل فرد عقل آخر قد يحل أحياناً في ذهن الفرد لكن من مسلك غير عقلي وهو وحده الباعث على الإيمان، أي سَكينَة النفس، الامر الذي حرم منه المعتزلة والاشعرية بسبب تشبثهم الاعمى بالمسلك العقلي. يجمع هؤلاء المنتقدون، على اختلاف مشاربهم ومراميهم البعيدة، علي أن الايمان، وهو حقيقة الإسلام، خضوع وانقياد وتعبد، فلا يحتاج الى كلام. عندها نتساءل: أو ليس في هذا اعترافاً صريحا بأن الإسلام لايحتاج إلى العقل أصلا إذ المؤمن حقاً، من اتبع خطى السلف الصالح، هو في غنّى عن النظر، ومن يلجأ إلى النظر العقلي يسلك طريقاً غير مضمون؟ أو ليس في هذا إعراضاً عن المقولة السابقة؟ صحيح أن من انتقد علم الكلام من الفلاسفة قال بوجود دين فطري، ولكن بمعنى يبدو بعيداً عما قصده دعاة الاصلاح المعاصرين.

ومما لاشك فيه أن عبده وأمثاله يقررون بإسهاب أن الإسلام دين العقل وفي نفس الوقت يوافقون على نقد علم الكلام الهادف إلى تصحيح العقيدة الإسلامية بالنظر والجدال، أي عن طريق العقل الفردي. يتولى البعض هذا الموقف كما لو لم تعترضه أية صعوبة منطقية مع أن الإشكال واضح لكل من يولي اهتماماً لتماسك الافكار. فكيف يصح ذلك؟

لايجوز أن نكتفي برمي أصحاب هذه المقالات بالتهافت. إنما نريد أن نفهم الدافع الذي جعلهم لايلتفتون إلى ضرورة التناسق المنطقي. لابد أن يكون هناك أصل أصيل هو الذي أدّى بهم إلى ازدواجية الموقف، والأصل لايعدو أن يكون مؤدّي كلمة عقل.

………………………………

المصدر : مفهوم العقل