بقلم مرسل الكسيبي

نعم لقد دعونا الى التهدئة والحكمة تقتضي تجاوز سياسة التسعينات !

بسم الله الرحمن الرحيم

الأستاذ صلاح الدين الجورشي واحد من أعلام الاعلام الحر في تونس ورجل جمع بين عراقة النضال السياسي والحقوقي وعمق الفكر والثقافة متشربا بذلك من منابع كثيرة في فضاء تونس الحضاري الفسيح ,ولذلك لم تفتني تقريبا جل كتاباته الصحفية أينما تناثرت في مواقع الواب أو على صفحات الصحف العربية المهاجرة أو غيرها من الصحف التونسية أيام شهد واقع الاعلام في تونس أوج ازدهاره في أوائل وأواسط الثمانينات.

اطلالاته على بعض الفضائيات العربية كالايأرتي وقناة الجزيرة والمستقلة أيام برنامج المغرب العربي الشهير مازالت منقوشة لدي في الذاكرة وحواراته المتألقة مع الدكتور وليد سيف والدكتور أحمد الكبيسي والمرحوم أحمد صدقي الدجاني والأستاذ أحمد نجيب الشابي والدكتور احميدة النيفر مازالت لدي محفورة في أعماق أعماق الوجدان, وهي تحملني دائما الى الحنين الى أن نرى واقع اعلامنا في تونس يرتقي الى أن يصبح منبرا حرا كتلك المنابر, فلا الجزيرة وقتها تقدرعلى أن تنفذ الى الثغرات ولا غيرها من الجهات الدولية المهتمة بواقع الاعلام تستطيع أن تصدر في حق تونس السيء من البيانات ولا بعض القنوات أو الصحف المحلية تنزل بنا الى واقع السفافات …,وكل هذا لاينفي في الأخير أن في تونس لدينا رجالات متألقون في كل المجالات ومبدعون متفوقون يبرزون كلما أتيحت لهم الفرص والامكانيات.

نعود للحديث عن واحدة من هذه الامكانيات المبدعة والعصامية الأستاذ صلاح الدين الجورشي الذي عرف بالاعتدال والتوازن والحكمة فيما يطرحه من تحليلات وقراءات للواقع السياسي التونسي وغيره من المشاهد العربية والاسلامية المحيطة,فلقد قرأت له هذا الصباح تحليله السياسي المنشور على موقع راديو سويسرا العالمي الناطق بالعربية والمعنون بانتخابات عادية في أجواء غير عادية وكنت مبتهجا شديد الابتهاج ومطمئنا الى أن استاذنا الكريم كان يتابع بدقة ماينشر من سجالات على المواقع التونسية المهاجرة وغيرها من المساحات الاعلامية التي اختارت الفضاء الاعلامي الاليكتروني, وكان أن لفت انتباهي في هذا السياق معطيان أشار اليهما الجورشي في خضم تعليقه على تطورات المشهد التونسي وهما الاتيان :

الأول يشير الى أن قيادة النهضة تعيش حاليا بين طرفي حبلين , طرف حبل يشده في تزايد جزء هام من كوادرها يطمح الى اطلاق سراح بقية المساجين والطرف الاخر من الحبل تشده قيادة النهضة في الخارج التي تحرص على الاستمرار الظاهر في الوقوف الى جانب الحركة الديمقراطية الاحتجاجية (حرصت على نقل المعاني كما هي دون اغفال شيء من التصرف في حرفية النص أما كلام الأستاذ الجورشي في هذا الشأن فهو تدقيقا وانصافا لحرفيته مايلي:” تقف قيادة حركة النهضة المحظورة مشدودة إلى حبلين. فهي من جهة، تتعرض منذ أشهر لضغط متزايد من قبل جزء هام من كوادرها الذين بدأ يُـداعبهم الأمل في قرب احتمال إطلاق سراح مساجينهم، ولو كان ذلك لاعتبارات إنسانية، خاصة بعد الحوار الذي بادرت بتنظيمه قناة “المستقلة” التي تبث من لندن مع الناطق السابق باسم حركة النهضة المهندس علي العريض” ).

أما المعطى الثاني في تحليل الأستاذ صلاح الدين فهو فيما تعلق من تطورات علاقة السلطة بهيئات المجتمع المدني وعلى رأسها قطاعي المحاماة والصحفيين ونقصد بذلك نقابتيهما واستنتاجه الأخير في خاتمة تقريره المنشوربأن “الأصوات التي ارتفعت مع أواخر الأسبوع الماضي داعية إلى التهدئة، تعلم جيدا بأن الحكمة تقتضي تجاوز سياسة التسعينات”.

والقاء مني للضوء أو الأضواء على هذا التحليل المنطقي جدا في تقديري الشخصي المتواضع أذكر بأنني لن أخوض فيما تضعه قيادة النهضة من تصورات لكيفية تعاطيها مع هذه الأزمات وأترك لها الأمر في أن تتكلم في هدوء عن هذه المشكلات وتنور الرأي العام الوطني في ذلك,أما فيما تبقى من اتجاهات تحليل بالنسبة للاخر من النقاط , فانني أجزم بحكم قربي من هذا التيارونشطائه أن كثيرا من أبنائه وهم في تزايد اذا لم أقل بأنهم يشكلون سواده الأعظم اليوم , باتوا في حل من كل رغبة في تصعيد الخطاب مع السلطة أو الرغبة في البحث عن أي أزمات جديدة معها وهم وان كانوا يأسفون لكل تطور سيء يحدث لأي قطاع من القطاعات أو هيئة من الهيئات ويعبرون عن تضامنهم القلبي والمعنوي مع كل ضحايا السياسات الأمنية غير المرغوب فيها ولاسيما في هذا الظرف من تاريخ بلدنا, الا أنهم وفي تقدير موضوعي لا يريد أن ينتحل صفة ناطق رسمي أو غير رسمي, لايملكون في مثل هذه الظروف الا أن يدعوا شبابهم القابض على الجمرالى ضبط النفس وعدم التورط في أي مواجهة جديدة مع سلطة الاشراف يمكن أن تعود بالبلاد الى مربع التسعينات وكوارثه الفاجعة لكل المنتظم السياسي وأظن أن القياس هنا على حالة مصرية متوثبة اذا كان يصلح بالمعارضات الأخرى فهو لايصلح قطعا لتيار النهضة المجرب وان كانت الظروف الدولية انذاك تختلف عن رديفتها اليوم.
ولا أنكر في هذا السياق أنني كنت أحد الداعين الى هذه التهدئة التي تحدث عنها أستاذنا الجورشي ولازلت مقتنعا أن أسلوب الصدام لم يعد خيارا مناسبا للمعارضات الجادة والمتوازنة وهو في نهاية المطاف لايفسح المجال الا للمجهول أو الأجندات الأجنبية الخفية أو الى انتعاش ظاهرة الأعشاب الطفيلية والانتهازية في الحقل السياسي. أما الحديث عن الضغط القانوني المشروع اللذي يعيد الاعتبار الى التوازن المنشود بين السلطة والمجتمع فهو لاينبغي أن يكون في ظل تواصل سياسات الاقصاء لدى بعض مكونات الطيف السياسي التونسي من اللذين احترفوا العمل على جبهتي السلطة والمعارضة من أجل التشويش على كل ماهو اسلامي وان كان في غاية الاعتدال والمرونة.

انني بهذا لا أدعو الى خذلان المناظلين الحقيقيين من أمثال الأستاذ عبو وفوزي بن مراد والصحفي القدير لطفي الحجي ونقابتيهما ولكن أقولها بكل صراحة ليس أبناء النهضة لعبة في يد من يشاء يتركون للسجان ومرارة السجن عندما تلوح اغراءات الداخل ويطلبون- مع ضم الياء- للمشاحنات والمزايدات والاصطدامات المفتعلة أحيانا عندما تلوح في الأفق بوادر حل هادئ بينهم وبين السلطة, وأؤكد مرة أخرى أنني متضامن للمرة الألف مع فرسان القميص الأسود وحملة أقلام السلطة الرابعة ولكن أدعو الى حل مثل هذه الأزمات بالروية والحكمة والابتعاد عن مناخات التوتر وأقدر أن سلطة الاشراف ليست نسيجا موحدا ولابد من البحث عن مربعات التفاهم والتناصح والتعاون قبل تصيد مربعات كش مات!

ولا أقصد هنا قطعا شرفاء المؤتمر من أجل الجمهورية أو غيرهم من مناظلين أحرا رفي التجمع الديمقراطي التقدمي أو المنتدى الديمقراطي أومجلس الحريات أو رابطة حقوق الانسان أو نقابتي المحامين والصحفيين أو منظمة رائد بفرعها التونسي… ولكن للفاهم أن يفهم أن كثيرا من شباب النهضة دفع ضريبة حرية غيره سجنا وتهجيرا فتحرر هذا الغير من السجن وعادت نوارسه المعارضة من منافيها أما هوأي شباب النهضة فبقي في السجن أو استمرت معه رحلة المنفى بعذاباتها التي لايذكرها الا القليلون.

قطعا يتمنى البعض تواصل مأساة النهضة كي يتمعش من عذاباتها الا أن العيب والاعوجاج ليسا حكرا على سلطة الاشراف التي ندعوها مرة أخرى الى طي صفحة الماضي واحتضان ابنائها المسجونين والمهجرين على اعتبار أن الوطن للجميع وحقوق المواطنة ليست حكرا على أحد أو فئة بعينها وأن سلوك المشاركة السياسية الهادئة والنصح والمشورة للحاكم باتا قناعة سياسية راسخة لدى الأغلبية الساحقة من شباب الصحوة الممتحنة منذ بداية التسعينات.

ان العيب قطعا فيمن يجعل من ماسي الاخرين رصيدا تجاريا ينمي به أسهمه الحزبية أو الشخصية على حساب الاشتغال على حل قضايا الوطن الحقيقية سواء ماتعلق منها بباب الحريات أومجالات التنمية والمساهمة في اثراء حلول جدية لقضايا الناس من البسطاء والمساكين والمحرومين والمرضى والأميين والعاطلين والخريجين الجامعيين الحالمين بوظيفة أو مراكز بحث تنمي قدراتهم وترفع شأوهم… ولا شك أن المنصف الحقيقي يقول أن السلطة برغم عيوبها وتقصيرها ومظالمها قدمت في هذا المجال مالم تقدمه هذه المعارضات المزايدة والتي لم يعد لها من شغل شاغل الا التنادي الى سياسة التشويه والتشويش والتامر على شيء اسمه الهوية العربية الاسلامية لتونس وكل دفاعاتها الحية من شرفائها القابضين على الجمر في السجون والمنافي أو حتى فيما أفسحت فيه سلطة الاشراف من مجالات عمل وحرية نتمنى عليها ونطلب ونلح عليها مجددا توسيعها حتى تقطع الطريق على العابثين ببقايا سيادة بلدنا واستقلاله والمتاجرين بمحن أبناء وطنهم من اللذين قست عليهم السجون والمنافي.

والشكر والتقدير ألف مرة للأستاذ الجورشي على هذه المداعبة الصحفية المتألقة التي حركت في كل هذا المداد والمعذرة للقراء والمتابعين على جرأة كان لزاما علي أن أكتبها حتى لايكتب لها الموت أو الاهمال في مقابر أرشيف الأحزاب .

أخوكم مرسل الكسيبي

ألمانيا الاتحادية

في 2 ربيع الثاني من سنة 1426 للهجرة

الموافق للعاشر من ماي من سنة2005