بسم الله الرحمان الرحيم

بقلم: الأستاذ عبد الله الزواري

قبل أربع و عشرين سنة و في نفس هذا اليوم دعت حركة الاتجاه الإسلامي وسائل الإعلام المحلية و الأجنبية إلى ندوة صحفية تعقد بمكتب الأستاذ عبدالفتاح مورو بنهج الكوميسيون وسط العاصمة. و قبل حلول الوقت المحدد للندوة غص المكتب بممثلي وسائل الإعلام التي لا تزال تتمتع بهامش من الحرية يسمح لها بتغطية أنشطة الحركات و الأحزاب السياسية بقطع النظر عن الاعتراف به من عدمه دون مؤاخذة من سلطة كانت تؤمن ولو في حدود ضيقة بحرية التعبير و بحق المواطن في الإعلام، كما تواجد بالمكتب بعض أبناء الحركة و المتعاطفين معها.

و قد كانت هذه الندوة الصحفية تتويجا لأشهر عديدة من النقاش و المشاورات في مختلف أصعدة القرار في الحركة، نقاش تمحور حول الإعلان عن تكوين حركة سياسية تتقدم بملف رسمي للحصول على تأشيرة العمل القانوني..و إذ لا ينكر المرء أن هذا الإعلان إنما جاء بعد انكشاف 5 ديسمبر 1980 و بقرار من المؤتمر الاستثنائي للحركة الذي انعقد بمدينة سوسة في 10 و 11 أفريل 1981 و كان متزامنا مع مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري، فإنه من الواجب كذلك أن نقول إن هذا الانكشاف إنما جاء ليعجل بهذا القرار لا أن يغير خيارا كاملا في حياة الحركة.. و تم الإعلان عن هيئتها التأسيسية المتكونة من خمس و عشرين فردا كما تم الإعلان عن مكتبها السياسي الذي ضم كل من:

الأستاذ راشد الغنوشي رئيسا

الأستاذ عبدالفتاح مورو أمينا عاما

الأستاذ بنعيسى الدمني مكلفا بالعلاقات

الأستاذ زاهر المحجوب أمينا بالإعلام

و تولت الصحف المحلية نقل أشغال هذه الندوة في مساحات اختلفت من واحدة إلى أخرى، و لا شك أن مجلة “المغرب العربي” التي كانت تصدر آنذاك، قد قامت بما ينتظر من مجلة تحترم قراءها، فنشرت ملفا تناولت فيه أعضاء الهيئة التأسيسية بالدرس سنا و عملا و دراسة و جهة و جنسا. و كان تصيب المرأة- للذين يحبون الإحصائيات- 16 في المائة في أول هيئة تأسيسية لحركة الاتجاه الإسلامي، و ذلك ما لم تدركه آنذاك نسبة تمثيل المرأة في أجهزة الحزب الحاكم- محرر المرأة كما يحب أن ينظر إليه و بالأحرى كما يدعي-،

و توالت الاجتماعات في عرض البلاد و طولها، و كان ما لا بد له أن يكون في ظل نظام تمرس بالتفرد بالحكم كما تمرس باستعمال القضاء للتخلص من معارضيه أو منافسيه و قد وضع الآلية المناسبة لذلك تشريعا و اختصاصا، و في نفس الوقت الذي يسترجع فيه الحزب الشيوعي التونسي حقه في العمل القانوني الذي اغتصب منه قبل قرابة عشرين سنة، تبدأ حملة هوجاء من الإيقافات و الاعتقالات شملت جملة من أعضاء الهيئة التأسيسية و عدد كبير من النشطين الإسلاميين من الطلبة و غيرهم، و فتحت “فرقة أمن الدولة” أبواب زنازينها لاستقبال العشرات منهم، و لم ينسب إليهم غير ما قاموا به و إن كان ما قاموا به لا يعدو ما ضمنته العهود و المواثيق الدولية من الحق في التنظم و الحق في التعبير عن الرأي و إن كان بعض ذلك يجرمه القانون التونسي فحوكموا بمقتضاه، و ختمت المحاكمة – كما هو الشأن دائما في المحاكمات ذات الصبغة السياسية- بإصدار أحكاما قاسية لكن ليست في قسوة ما ستعرفه البلاد بعد عقد من الزمن.

و في السجن وقع إيواء هؤلاء المحاكمين في غرف خاصة بهم عملا بتصنيف المساجين حسب قضاياهم و إن كان هذا الإجراء لم يقع التنصيص عليه لانعدام قانون ينظم الحياة السجنية أصلا وقتذاك كما هو الحال الآن لكن دون جدوى، و لا أدري أكان جريان العمل بهذا الترتيب استمرارا للمعمول به قبل 1956 و انتقال الإشراف على الإدارة إلى تونسيين أم اعتبارا خاصا للمساجين السياسيين بقطع النظر عن انتماءاتهم الفكرية..

و من وراء القضبان واصل جمع دراستهم الجامعية و اجتازوا امتحاناتهم داخل السجن و أحرزوا على شهاداتهم العليا و خرجوا يوم خرجوا للاندماج في المجتمع من جديد و تبوؤوا المهام المناسبة لدرجاتهم العلمية..

و طيلة أيام سجنهم لم تمنع عنهم جريدة رسمية أو شبيهة بها من التي تصدر بتونس و لو ليوم واحد، فكانت “الصباح” و “العمل” و “الصحافة” و “بلادي” و “الإذاعة و التلفزة” و كذلكLa Presse ” و “Le Temps” و ” L’Action” تحت طلبهم و قلما تدق الساعة عشرا إلا و هذه الجرائد لم تصل إليهم بعد، أما المجلات الأجنبية الأسبوعية فكان يوم الأربعاء مساء موعد وصولها وقد تكفلت إحدى العائلات بجلبها، فهذه “المجلة” و “الوطن العربي” و” الصياد” و” الدستور” و “المسلمون” و “Le Monde Diplomatique”و ” Jeune Afrique” و ” Afrique-Asie ” و ” Le Nouvel Observateur ” و “L’Express ” و غيرها، و يكتفي العون المراقب بتصفحها سريعا ثم يسلمها إلى صاحبها ليعود بها إلى الغرفة عند انتهاء زيارته التي كانت تتم دون حواجز تفصل بين السجين و زواره، بل على مناضد يجلسون حولها و أمامهم ما جلبه السجين من غرفته من مرطبات أو حلويات أو مشروبات و غير ذلك… و لن أنسى أبدا مدير السجن و عيناه تذرفان دمعا عند توديعنا يوم نقلتنا من ” الناظور” إلى سجن العاصمة ألذي سنغادره في ظرف شهر تقريبا…
و تواصلت المحن في حياة الاتجاه الإسلامي و تتالت المحاكمات..

* * * * *

راهن كثير- و إن اختلفت مواقعهم- على الانشقاقات داخل حركة الاتجاه الإسلامي سابقا أو حركة النهضة حاليا، و لا يزال الكثيرون يراهنون على ذلك، و لهؤلاء نقول: إن هذا البيت بنيناه بعرقنا بجروحنا و دموعنا، بآهاتنا و صرخاتنا، بآلامنا بدمائنا و دماء شهدائنا، هذا البيت بيتنا لن نخربه أبدا بهذه الدعوى أو تلك، نعم نصونه و ننظفه و نرممه و نجدد ما يجب تجديده، لكن لن نتركه لنوائب الدهر و صروفه تعبث به، إننا لم نهجره يوما بسبب لون جدرانه، أو تصميم حدائقه و شرفاته، أو اختيار وروده و أزهاره، أو كثرة مكارهه و أشواكه، أو ضيق أروقته و ساحاته، فالأروقة والساحات و الحدائق و الشرفات و المكاره و الأشواك و الورود و الأزهار و لون الجدران إنما تواضع أغلبنا عليها اقتناعا بجدواها و صلاحها، فإن أيقنت بما هو أصلح منها و أفضل فالعقل مرشدي و الحجة و البرهان زادي و آلتي لإقناع من معي من الذين ارتضوا سكنى هذا البيت و لم يتركوه غضبا أو التباسا أو خوفا أو طمعا، أما الذين تركوه أفلا يليق بهم أن يستأنسوا ويسلموا مستأذنين عسى أن يؤذن لهم فيدخلوا البيوت من أبوابها، أو خشية أن يطلعوا على ما لا يرضون لأنفسهم، إن الكدح الأبدي و وعثاء السفر و قلة الزاد قد تزين للنفس بل تلبس عليها من السبل ما يحسبه البعض طوقا للنجاة فإذا به ظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، إن المرء ليربأ بنفسه أن يقف يوما شاهرا سلاحه على الضحية ليجهز عليها بعد أن أسمعها من النعوت ألوانا و قد جردها من إنسانيتها ثم يسمح لنفسه بالبحث عن ألف عذر و عذر للجلاد تبريرا لما اقترفت يداه أو أيدي أعوانه و مساعديه من تعذيب و قمع و نهب و تزييف و تدنيس و حيف و جور، فبقدر غلظتهم على “الضحية” كانت رفقهم” بالج 04;اد”، ألم يكن من الأولى الالتماس الأعذار للضحية؟ ملعونة هي “الحكمة” التي تسول الركون إلى الذين ظلموا و التخلي عن المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان.

* * * * *

أي من الحركات أو الأحزاب السياسية تعرض لما تعرضت له حركة النهضة من ملاحقة مستمرة واضطهاد متواصل، إذ لم تكد تخلو السجون التونسية منذ 1981 من مساجين إسلاميين؟، و مع ذلك أي من هذه الأحزاب عقد عدد ما عقدت “االنهضة” من مؤتمرات للبت في القضايا الشائكة التي تعترض طريقها؟ فمن المؤتمر التأسيسي(أوت 1979) حيث أقر القانون الأساسي و انتخبت القيادة انتخابا سريا و مباشرا إلى المؤتمر الاستثنائي (أفريل 1981) حيث أقر التوجه نحو العمل القانوني، ثم المؤتمر الانتخابي ( ديسمبر 1984) للنظر في مخلفات المحنة الأولى و محاكمات صيف1981 و تسوية مسألة القيادة إذ تتالت القيادات على تسيير أعمال الحركة بحكم الضرورة فمن قيادة منبثقة عن المؤتمر الاستثنائي غيبت داخل السجون ثم وقع إطلاق سراحها إلى قيادة باشرت مهامها من المهجر و استقرت هناك إلى أخرى تعمل في الداخل، وقد اكتسبت كل منها نوعا من الشرعية الواقعية، فجاء هذا المؤتمر ليزيل الالتباس و يوحد القيادة، ثم كان مؤتمر ديسمبر 1986 للنظر في بدائل الحركة و رؤاها. ثم كانت مؤتمرات المهجر…

لم تتذرع قيادة الحركة يوما بالظروف الاستثنائية أو المطاردة الأمنية الدائمة لتشرع” قانون طوارئ” يفسح لها المجال عريضا لتنزيل قناعاتها أو يسمح لها بالتخلي عن عقد مؤتمراتها اكتفاء بلجنة حكماء أو غير ذلك… كما لم تكن الشرعية الواقعية أو التاريخية في يوم من الأيام ذات غناء عن الشرعية القانونية..

و لعله من المفيد التذكير بأن ما يسع الفرد يكون دائما أرحب مما يسع الجماعة، و قد يجد هذا الفرد أو ذاك من الذين أقاموا الدنيا و هزوا الشبكة “احتجاجا” على ما بدا لهم تسلطا و احتكارا لمواقع التسيير و سيرا في الطريق الخطأ و تشددا في معالجة القضايا، قد يجد هذا الفرد نفسه في المربع الذي انطلق منه، و ذلك يوم يخالفه من معه الرأي و التقدير، فيضطر إما إلى التنازل عن رأيه وهو السلوك القويم في كل حياة جماعية أو إلى هز الشبكة من جديد، لكن هل من قارئ أو مصغ وقتها؟

و قبل هذا و بعده حبذا لو انبرى أحد الباحثين لدراسة الأبعاد الديمقراطية أو الشورية في تسيير شؤون الحركة على مستويات مختلفة: قانونا و مؤسسات و أدبيات، عساه بذلك يسد فراغا سمح للكثير بالتقول على الحركة و المزايدة عليها…

* * * * *

تعودت الاتصال من حين لآخر ببعض الإخوة و الأصدقاء للسؤال عن الصحة قبل كل شيء و للتعرف على أحوال عائلاتهم، ثم كثيرا ما يقع التعرض إلى قضايا خاصة وعامة والحديث ذو شجون كما قيل، و كان حديثي مع الأستاذ عبدالفتاح مورو ذا شجون فعلا، سريع البديهة حاضر النكتة كما عهدته دائما، يقاوم داء السكري الذي يعاني منه منذ سنة 1982 أو 1983 عندما كان بسجن الناظور بمزيد من العمل… وعن العريضة التي تصدر قائمة الممضين عليها أجاب بتلقائيته المعهودة: كمحام و مدافع عن المساجين و الموقوفين عموما لم أر مانعا من الإمضاء عليها دون أي خلفية أخرى و دون أي حسابات أو تأويلات…أما عن 6 جوان 1981 فيذكر جيدا الملف الذي تقدم به إلى وزارة الداخلية آنذاك و تسلم وصلا مقابله ثم كان اعتقاله يوم 18 جويلية بسبب ذلك..

ثم كانت دردشة مع الأخ علي العريض الذي فاجأني عند استفساره عن ملامح المبادرة التي يروج أنه تقدم بها بأنه لم يقدم مبادرة أصلا و لا يعتبر نفسه صاحب مبادرة، إنما هي قناعات يشاركه فيها كثير بدءا من قيادات الحركة و مؤسساتها…. و كعادته في البحث عن الدقة و تقصيا للوضوح أبى الأخ علي إلا أن يقدم رأيه مكتوبا، فكان :” هذه الكلمة (المبادرة) ليس لها معنى موحدا عند مستعمليها، فهي تطلق عند البعض حتى عن إجراءات جزئية، و لا تطلق عند آخرين إلا على مشاريع كبرى.. أنا عبرت على قناعاتي فدعوت إلى إطلاق سراح المساجين السياسيين لإنهاء معاناتهم و معاناة أهلهم و ذويهم، و دعوت إلى فتح حوار مع حركة النهضة بغاية إدماجها كطرف سياسي يتمتع بحقوقه و يؤدي دوره في تنمية البلاد، كما عبرت عن استعدادي للمساهمة في هذا الأمر لا سيما على مستوى التصور و ما زلت على هذه القناعة و الاستعداد و الاهتمام، و هذا في تساوق مع توجهات قيادة الحركة و مؤسساتها حيث أكدوا لي أنهم و منذ سنوات يدعون إلى مصالحة شاملة و يناضلون من أجل الحريات في كل أبعادها كأرضية جامعة لمقومات المشهد السياسي التونسي، و تقديري أنه لو تستجيب السلطة إلى المطالب المرفوعة من جل الأطراف- وهي مطالب واقعية- فستحقق للبلاد نقلة نوعية تضعها على طريق تغيير عميق و رصين ينخرط فيه الجميع عن قناعة به و أمل فيه، يمحو و يعالج ما وقر في الواقع و القلوب و العقول من محن و إقصاء أو كراهية و شطط”.

أما عما يتردد من وجود حوار بينه و بين السلطة فقال:” لا شيء من ذلك وقع، و أدعو كل من ينشر أخبارا في الموضوع أن يتصل بنا قبل النشر”

* * * * *

ما كان للمرء أن ينسى في هذه المناسبة اولائك الرجال- من الهيئة التاسيسية- الذين كان لهم فضل السبق في هذا العمل و قضوا نحبهم بانتقالهم إلى الرفيق الأعلى و تركونا لنواصل المسيرة: مسيرة محفوفة بالمكاره و المصاعب..

فإلى الشيخ الفاضل محمد صالح النيفر الذي اختتمنا مشاورات الإعلان عن حركة الاتجاه الإسلامي في بيته يوم 31 ماي 1981، و إلى الشيخ المجاهد عبدالقادر سلامة صاحب مجلة المعرفة، و إلى أخينا و رفيق دربنا الأستاذ علي نوير تحية وفاء و فاتحة تتلى ترحما و اعتبارا و دعاء…

عبدالله الزواري

الهاتف: 0021675685300 أو
0021697290491

abzouari@yahoo.fr

الخريبة

4134 شماخ

الجمهورية التونسية