تلك تساؤلاتكم المشروعة وهذه إجاباتنا

الجــــزء الأول : في البدء كانت المصافحة وتشخيص التحديات

4 |3 |2 | 1

د. خـــالد الطراولي

ktraouli@yahoo.fr

لم نكن نعتقد ونحن نطلق هذه المبادرة في إعلان تأسيس حركة اللقاء الإصلاحي الديمقراطي أن تجد هذا الاهتمام من كثير من الأفراد التي عبرت عنها اتصالاتهم الهاتفية أو البريدية، لقد تفاجئنا من هذا التجاوب وهذا التعطش الذي أبدته الساحة التونسية وخاصة المهجرية في التفاعل الإيجابي في مستوى الأفراد…

ليس لنا في هذا الموقف إلا التواضع لله أولا وحمده وشكره سائلين أن يخلص أعمالنا وأن يثبت أقدامنا ويوفقنا حيث يرى خير تونس وأهلها.

ليس لنا ثانيا إلا التواضع والتحية الخالصة لكل من ساند وهنأ وصافح، ونعده بمواصلة الطريق وإن كانت لا تحفها الورود والبسط من كل جانب وفي كل حين، ونحن نعلم كما قال الرجل الحكيم نلسون مانديلا أن طريق الحرية ليس طريقا سهلا!

ليس لنا ثالثا إلا التواضع والعزيمة والصدر الرحب والتفهم لكل من تساءل واستفسر وبحث معنا عن مواطن الضعف والعجز وعدم الوضوح وما أكثرها حتى نتجاوزها بهدوء ووعي وراحة ضمير، وليست هذه الورقة إلا محاولة استجابة لهذه الاستفهامات ونسأل الله أننا قد وفقنا في إيصال الكلمة الطيبة والكلمة والواضحة حتى يكون أصلها ثابت وفرعها في السماء.

لكن قبل هذا ليسمح لي القراء الأعزاء أن أبدي بعض الملاحظات وهي التي سوف تشكل أعمدة خطاب الإجابة حتى يكون المنهج سليما والرؤية واضحة وجلية. لقد استرعى انتباهنا ونحن نحصد هذه الأصوات التي طفحت على بريد اللقاء أو عبر موجات الهاتف ولا تزال، أربعة توجهات رئيسية تملي التوقف عندها بكل اهتمام :

أولا: توسع الظاهرة وتحديات الانتشار

الانتشار الكبير للمواطن التونسي وللفرد ذو التوجه “الإسلامي” في عديد المناطق والبلدان ظاهرة تستوجب التأمل والاستجابة، كانت الرسائل الصوتية والكتابية تحمل عناوين القارات الخمس تقريبا من سويسرا من هولندا من ألمانيا من فرنسا من بريطانيا من ماليزيا من المغرب…

كان هذا الانتشار والتوزيع يشكل فخرا ولا شك لتونس وأهلها في أن المواطن التونسي رحّال يسيح في أرض الله الواسعة بحثا عن رزق وأمن ولعله استقرار، لو…،

كان هذا الانتشار يمثل تعبيرا عن عزم وإرادة قوية، عن تجاوز الصعاب من أجل غد أفضل للبلاد والعباد، لو….،

كانت هذه الهجرة مَعْلم تطلّع نحو تقارب بين الأفراد والشعوب، وتعاون بين الحضارات والثقافات والأديان، لو…

كان كل هذا يجوز ويعتبر وصمة ضياء واعتزاز… لو كان إطاره سليما وعنوانه سليما والدافع سليما!!!!

كنت أسمع كثيرا أن سنوات الجمر التي مرت بها البلاد قد شردت مئات من الأفراد نحو بلدان لم يطأها التونسيون من قبل، لم تكن أساطير ولم تكن بلدان الواقواق ولم تكن قصص ألف وليلة… ولكنها كانت سطور الحقيقة وآثار أيام مليئة بالمآسي..، لقد قيل لنا أن البلدان التي وطئتها أقدام التونسيين المشردين في سنوات الجور قد بلغ الخمسين دولة! يقبع على أراضيها “رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا”. إلى هؤلاء جميعا بأبنائهم وزوجاتهم وأحفادهم أجثو ركبتاي تواضعا واحتراما وأحييهم بكل صدق ودون افتراء تحية أخوة ومحبة، داعيا لهم الله بالثبات والصبر والحلم والعفو عمن أساء في حقهم وجعل أيامهم سوادا ولياليهم دموعا وهموما… فمهما كان جمال المنظر، وحلاوة المقام، وطيبة العيش عند بعضهم، فإن نظرة واحدة إلى ذكريات الأمس، واستنشاق قصير لنسمة الحي أو الزقاق، ورؤية الأم والأب والأصدقاء والأحبة، لا يعدلها عند البعض ملئ الأرض نقودا… وليثق هؤلاء المعذبون بصمت، والمسجونون بدون قضبان، ورهائن الماضي والحاضر، في أن هجرتهم كانت للحرية ومن أجل وطن، وكانت عبادة لله في أعظم صورها وأجل آثارها! لقد علمتني هذه الاتصالات عمق المأساة وصلابة الرجال والنساء مما يزيدنا في حركة اللقاء الإصلاحي الديمقراطي عزما على مواصلة الطريق بخطى ثابتة وإرادة من حديد لأنها أمانة نحو هؤلاء ونحو تلك الزوجات الصالحات اللاتي ذكّرننا بزينب وعائشة وخديجة رضي الله عنهن جميعا.

هؤلاء المشردون ليسوا رقما في هباء، ليسوا عددا وكفى، ولكنهم أفراد وأسر، قصص وعبر، ولا يمكن لأحد أن يغفل عن حقوقهم، عن مطالبهم، عن أشواقهم للحرية، عن حبهم لنسيم مدنهم وأحيائهم… إن المشردين والمنفيين يشكلون رقما كاملا في معادلة الإصلاح والمصالحة تفتح صفحاتها من باب التصالح الجماعي وليس النجاة الفردية التي تأتي على المشروع وأهله، ولا يجب نسيانهم أو التغاضي عن أحوالهم ومطالبهم، فهم عنصر ثابت وأساسي في كل مبادرة للمصالحة الشاملة التي ترنو لها البلاد.

ثانيا: التعددية داخل الصف الإسلامي

يبدو تعطش الساحة إلى مزيد من التمثيلية السياسية للمشروع السياسي ذي المرجعية الإسلامية، أمرا مفاجئا، حيث لم يعد حق الاختلاف “طبو” تتحاشاه الأقلام ويعير به الأفراد وينزل بصاحبه إلى مواطن الخيانة للجماعة وحتى الردة عن دينه. لقد لامسنا عن قرب قبولا للتعددية داخل الصف الإسلامي مع البحث عن التأصيل وراحة الضمير. لقد كان الخلط واضحا في عقلية الفرد بين الانتماء الحزبي والسياسي وبين الانتماء الديني والجماعاتي، لقد وقع خلط في المفاهيم بين الجماعة الدينية والجماعة السياسية ودخل المقدس في إطار اجتهادي خالص وعلا صوت الحلال والحرام في مجال لا يسع أكثر من تجربة الخطأ والصواب.

ولإتاحة هذه الراحة المنشودة والمفهومة للضمير يجب الحديث بأريحية عن هذه التعددية وتأصيلها في الفكر الإسلامي حتى لا ترفع سيوف الفرقة والخلاف وتظهر الفرقة الناجية ويغيب البقية في إطار من الاستبداد والإقصاء وحتى التكفير.

إن بداية الطريق في تغيير سلوكيات الفرد ذو التوجه الإسلامي وخطابه، تبدأ بتفكيك قيود قدسية الحزب وعصمة أفكاره ودينية مواقفه والتي لا تفيد المشروع ولا أصحابه، و السعي إلى تشكيل عقلية جديدة أساسها مدنية الانتماء السياسي واجتهادية التحزب، بما يفتحه ذلك من انفتاح على عالم ما وراء الأسوار وقبول بالرأي المخالف أيا كان صاحبه، ومناقشته على أساس مدني خالص، يقبل الخطأ والصواب.

ثالثا: الدور الرئيسي للمرأة في المشروع السياسي

لم تكن المرأة غائبة في ردود التهنئة أو التساؤل وهو ما أعاد لي أملا فقدته بعض الشيء منذ زمان… لم تكن المرأة التونسية غائبة في مشوار المشروع السياسي ذو المرجعية الإسلامية، ولكنها لم تكن أيضا ممن يشار إليها بالبنان، ضعف التمثيلية السياسية الإسلامية للمرأة التونسية يدخل ولا شك في إطار أوسع حيث لا تزال المرأة في الصف الثاني داخل المجتمع والمشهد السياسي عامة، ولعل سنوات الجمر ساهمت في تكريس هذا الضعف، لكننا لا نستطيع إخفاء حقيقتين تتحديان المشروع الإسلامي التونسي وتفرضان عليه الاستجابة والتململ :

* بروز وجوه سياسية نسائية على الساحة التونسية تتمتع بصوت وقلم وكاريزما عالية، وتاريخ نضالي محترم، وتفاعل مع الواقع وحضور قوي في الساحة النضالية الحالية وتواجد في الصفوف الأولى داخل أحزابها، وسوف نذكر باحترام واعتزاز السيدات الفاضلات أم زياد، سهام بن سدرين وراضية النصراوي وغيرهن والمعذرة لمن نسينا.

* لقد أضعفت سنوات الجمر المشروع السياسي وكادت تستأصله ولكن الله قدر، ودخل أفراده نساء ورجالا في حالة أخرى من النضال تمثلت في السجون والمنافي، وكان نصيب المرأة فيه وافيا مهجريا وداخليا. لقد كانت المرأة سندا كبيرا للمشروع حتى لا ينسى ويتهافت.. كان سندها لصاحب بيتها من وراء القضبان، أو في بلدان الصقيع مثالا لن تنساه الأيام وسوف يخطه التاريخ بأحرف من ذهب.. وإذا كان كل رجل عظيم وراءه امرأة كما يقال، فإننا نقولها بفخر: كل المشروع الإسلامي التونسي في صموده، في ثباته على المبادئ، في صبره على البلاء، في بقاءه عنوانا ضخما في التاريخ، وفي نجاحه مستقبلا بإذن الله،… يعود إلى المرأة! المرأة التي صبرت على الضيم والعذاب وفراق الأهل والأحبة وتربية الأبناء في غياب أب مشرد أو محبوس..، المرأة التي تقطع الفيافي والكيلومترات كل يوم أو كل أسبوع لتحمل قفة إلى صاحب بيتها وتحيطه برؤية أبنائه، وذلك طيلة سنين وسنين…

والتحدي الجديد الذي يطرحه نفسه بين هذه الثنايا الملتوية هو : كيف تقع هذه النقلة بين فترة المؤازرة والسند والتي أبدعت فيها المرأة، وبين مراحل قادمة من النضال السياسي السلمي، والذي سوف تبدع فيه المرأة كما أبدعت حقوقيا؟ وكيف سيتمثل هذا التواجد ليتحقق الإبداع كاملا؟.

إن المشروع السياسي ذي المرجعية الإسلامية، عامة، والتونسي خاصة، وحركة “اللقاء الإصلاحي الديمقراطي” خصوصا، لن يتمكنوا من كسب معارك الحرية والعدل، ولن يحملوا مصداقية القول والفعل، إذا لم يتبنوا بوضوح إنسانية المرأة في التنظير والتنزيل، حيث يجب أن يتجلى هذا الاحترام في تحمل مشترك بين الرجل والمرأة لأعباء النضال، ويتمثل في المراكز الأولى في القيادة والتسيير، ويتشكل في خطاب وبرنامج سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي يحمل أبعاد العدل والسكينة والإحسان وحقوق الإنسان.

رابعا: ثنائيات خطيرة ومحدِّدة

لم تكن علاقة الدعوي بالسياسي والحركة بالصحوة خاصا بالمشهد السياسي التونسي، ولكنه يعبر في الحقيقة عن تأخر الخطاب في توضيح هذه الثنائيات التي ترتبط أساسا بمدى فهمنا لماهية الصراع السلمي والتدافع الحضاري داخل أوطاننا وبين الثقافات. تأخرت الممارسة عن التوضيح لأنها حرمت التواجد العلني وملامسة واقعها فلم تستطع التعبير المباشر عن علاقة هذه الظواهر ببعضها على عين الواقع. واستفسارات الإخوة والأخوات في هذا الباب هو تحرر أولا من الخوف من التعاطي معها لحساسيتها، و وهو ثانيا تعبير عن سمو في الوعي بمدى تأثر المشروع السياسي وانحساره وحتى زواله إذا لم يراعي ويحسم هذه العلاقة، وهو ثالثا خلوص الأفراد إلى مدنية الصراع السياسي وابتعاده عن ميادين المقدس والمعصوم، بعدما لامسوا الضرر الذي لحق المشروع السياسي وحتى الدين في بعده الشعائري والطقوسي، حيث كاد التيار أن يحمل الجميع لولا ألطاف الله ورحمته بتونس وأهلها حكاما ومحكومين!

ختـــــاما

هذه العناوين الأربع تمثل حسب نظري إشكاليات جديدة ومتجددة تحيط بالخطاب الإصلاحي جملة وبالمشهد التونسي خاصة، وتطرح على حركة “اللقاء الإصلاحي الديمقراطي” تحديا آخر، تشكل الإجابة عليه والتفاعل مع أطرافه، تميزا داخل الصف الإسلامي ولعله إضافة داخل المشهد السياسي.

4 |3 |2 | 1

ملاحظة : لمراسلة “اللقــاء الإصلاحي الديمقراطي” في انتظار إنشاء الموقع الخاص للحركة الذي لن يتأخر ظهوره بإذن الله، يستطيع الإخوة والأخوات استعمال البريد الكتروني التالي :


Liqa2005@yahoo.fr