عمد، يوم الأحد 21 أوت 2005، العشرات من أعوان الحزب الحاكم والبوليس السياسي إلى عرقلة انعقاد المجلس الوطني للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان الذي كان من المفترض أن ينظر في آخر ترتيبات مؤتمرها السادس المزمع عقده أيام 9و10و11 سبتمبر القادم. وقد حاول هؤلاء، وفق بيان للرابطة صادر بتاريخ 22 أوت 2005، اقتحام مقرها المركزي بالعاصمة والاعتداء على كل الذين سعوا إلى إثنائهم عن صنيعهم. وقد جرى كل ذلك تحت أنظار مجموعات أخرى من البوليس السياسي التي تواجدت في ذلك الوقت في كافة الأنهج المحيطة بالمقر.

وقبل هذا الحادث بيومين أي يوم الجمعة 19 أوت 2005 منع البوليس السياسي عقد مؤتمر فرع نابل الحمامات للرابطة بمقر الفرع بنابل وقد مُنع رئيس الرابطة وأعضاء الهيئة المديرة والمنخرطون من الوصول إلى المقر ومن تبليغ احتجاج للوالي على هذه التصرفات الخرقاء، بل إن البوليس السياسي عمد إلى منع عدد من المنخرطين حتى من الجلوس في المقاهي المجاورة لمقر الفرع وأطردهم بعنف. وقد باءت محاولات رئيس الرابطة للاتصال بالجهات المسؤولة بالفشل.

ولئن تمكن أعضاء المجلس الوطني من الالتقاء مجددا يوم الأربعاء 31 أوت 2005 بمقر الرابطة وعقد اجتماعهم، فإن ذلك تمّ بصعوبة كبيرة وفي جو مشحون بالتهديدات إذ طوّقت عناصر مشبوهة معظمها من المنحرفين الذين كانوا على ما يبدو يتلقون التعليمات مباشرة من البوليس وقد حاولوا اقتحام مقر الرابطة وخلع بابه الخارجي واعتدوا بالعنف الشديد على عدد من مسؤولي الرابطة وأشبعوا الحاضرين سبا وشتما وقد كان بعضهم مسلحا بهراوات، كل ذلك وكالمعتاد تحت أنظار البوليس السياسي وحمايته.

ما من شك في أن هذه الممارسات الفاشستية تمثل تصعيدا خطيرا للحملة التي تشنها السلطة ضد الرابطة وخاصة منذ انعقاد مؤتمرها الخامس في سنة 2000. فقد حاولت السلطة خلال هذه الفترة وبوسائل مختلفة قضائية وإدارية وأمنية عرقلة عمل الرابطة، تارة بالطعن في شرعية مؤتمرها وبالتالي في شرعية الهيئة المديرة المنبثقة عنه، وطورا بمحاصرة أنشطتها بل ومنعها بالقوة وطورا ثالثا بمحاولة تعطيل تجديد عدد من هيئات فروعها واستصدار أحكام قضائية لإبطال المؤتمرات المنعقدة للغرض.

ولكن الأمور لم تبلغ رغم ذلك ما بلغته في الآونة الأخيرة إذ بات من الواضح أن السلطة تسعى إلى إثناء الرابطة عن عقد مؤتمرها السادس وربما الإعداد للانقلاب على هيئتها الشرعية وتنصيب أخرى محلها.

لقد أعطى بن علي في الخطاب الذي ألقاه يوم 25 جويلية الماضي إشارة الانطلاق للتصعيد الذي تتعرض له الرابطة بذريعة “الامتثال للقانون”. فبعد هذا الخطاب مباشرة عمد بعض الأشخاص المعروفين بانتمائهم للحزب الحاكم أو بتواطئهم مع أجهزة البوليس السياسي في عدة جهات (الكاف، القصرين، تونس المدينة، السيجومي، تطاوين، مونفلوري..إلخ) إلى تنصيب هيئات صورية على رأس فروع وهمية لاستخدامها عند الاقتضاء ذريعة للهجوم على الرابطة. وبعد ذلك جاءت الخطوة الموالية المتمثلة في منع عقد مؤتمر فرع نابل الحمامات والمجلس الوطني للرابطة إيذانا بمنع عقد المؤتمر ذاته في أجله المحدد. وقد بات من الواضح أن السلطة تعمل مرة أخرى على استخدام القضاء أداة لإصباغ هذا المنع بصبغة قانونية.

ولئن حاولت السلطة في فترات سابقة تحريك بعض العناصر التجمعية المندسة في الفروع لعرقلة نشاط الرابطة والادعاء بأن الأمر يتعلق بـ”خلافات داخلية” وبأن لا يد لها في ذلك، فإن التطورات الأخيرة بينت تحرك السلطة، من أعلى هرمها إلى أجهزتها الأمنية والقضائية، على المكشوف وبشكل فجّ.

ومن نافل القول إن هدف السلطة من تصعيد حملتها على الرابطة والإعداد لمنع انعقاد مؤتمرها السادس هو محاولة تدجين هذه المنظمة المستقلة التي ما انفكت تحرج نظام بن علي بمواقفها الواضحة من انتهاكه المنهجي للحريات وحقوق الإنسان.

إن هذا النظام لا يقبل بحرية النشاط الجمعياتي واستقلاليته وهو يضيق ذرعا بأبسط نقد أو احتجاج ولا يريد غير جمعيات ومنظمات خاضعة له ومتواطئة مع الممارسات الإجرامية لأجهزته. وليس أدل على ذلك مما تعرضت له الهيئات الممثلة للمحامين والقضاة خلال الأشهر الأخيرة علما وأن هذه الهيئات تتمتع بوجود قانوني.

وما من شك في أن هجوم السلطة على الرابطة يتطلب من منخرطيها وقفة حازمة باعتبار أن حرية نشاط منظمتهم واستقلاليتها في الميزان. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بوحدة الصف على قاعدة مبادئ الرابطة وميثاقها وقوانينها الداخلية ولوائح مؤتمراتها ومجالسها الوطنية.

إن وحدة الرابطيات والرابطيين كفيلة بأن تجعل السلطة تتراجع عن نيتها في منع انعقاد المؤتمر. وعلى فرض أنها لم تتراجع ومنعته بالقوة فإن هذه الوحدة مهمة جدا في مجابهة مرحلة ما بعد المنع.

ومن هذا المنطلق فالخطأ أن يسعى البعض، عن وعي أو غير وعي، بواعز فئوي ضيق، أو بسبب عداءات إيديولوجية، أو بذرائع لا تستند إلى واقع، نسيان الخصم الحقيقي للرابطة، وهو السلطة والحزب الحاكم اللذان يعملان بكل الوسائل على إخضاعها وتدجينها، والانخراط في حرب مواقع ضد هذا التيار الرابطي أو ذاك، أو ضد هذا الشخص أو ذاك، وتشكيل تكتلات غير مبدئية لتبرير مثل هذا التمشي.

إن هذا السلوك الذي يخلط بين التناقضات وينفخ في الخلافات الرابطية ليضعها في موقع الصدارة، لا يمكن موضوعيا أن تستفيد منه سوى السلطة لأنه يلهي الرابطيات والرابطيين عن مجابهة التحدي الحقيقي وهو الحفاظ على استقلالية منظمتهم وحرية نشاطها ويدفعهم إلى مجابهة بعضهم بعضا.

إن الرابطيات والرابطيين قادرون في إطار منظمتهم على مناقشة خلافاتهم، ومقارعة تصوراتهم المختلفة بعضها ببعض بروح ديمقراطية، بل إنهم قادرون على تحقيق وفاق بينهم يأخذ بعين الاعتبار مصلحة منظمتهم ومصلحة الحركة الحقوقية والديمقراطية ككل.

ولكن المؤتمر القادم للرابطة لا يمثل تحديا للرابطيات والرابطيين فحسب، بل إنه يمثل أيضا تحديا للمجتمع المدني بأسره. فالهجوم على الرابطة يشكل جزءا لا يتجزأ من هجوم الدكتاتورية على الجمعيات والمنظمات المستقلة، سواء كان معترفا بها أو غير معترف. وليس أدل على ذلك من تزامن الهجوم على الرابطة مع الهجوم على جمعية القضاة التي أغلق مقرها يوم 31 أوت 2005 وعلى نقابة الصحفيين التي منع مؤتمرها المقرر عقدها يوم 7 سبتمبر 2005 دون أن ننسى الهجوم الذي تعرّضت له نقابة المحامين والجمعية التونسية لمقاومة التعذيب والمجلس الوطني للحريات والجمعية الدولية للمساجين السياسيين وهي عدا الأولى، غير معترف بها.

وعلى هذا الأساس فإن نتائج المعركة التي يخوضها مناضلات الرابطة ومناضلوها سيكون لها بكل تأكيد انعكاسات مباشرة على المعركة العامة من أجل حرية العمل الجمعياتي واستقلاليته خلال المرحلة القادمة بالنظر إلى مكانة الرابطة ورمزيتها ضمن النسيج الجمعياتي.

إن السلطة تدرك تمام الإدراك هذا الرهان لذلك فهي تسعى إلى تحجيم الرابطة حتى تحجّم بقية قوى المجتمع المدني وتثنيها عن نضالها من أجل استقلاليتها وحرية نشاطها. وهو ما يؤكد أهمية وقوف جميع هذه القوى، دون حسابات ضيقة، إلى جانب الرابطة لأن المعركة هي معركة الجميع وليس معركة الرابطة وحدها، وبالتالي فإن الجميع سيتقاسم النتائج إن كانت إيجابية أم سلبية.

ومن جهة أخرى فإن مؤتمر الرابطة يمثّل اختبارا للحركة الديمقراطية ككل. فهذا المؤتمر ينعقد في مستهل السنة السياسية الجديدة، وهو يسبق قمة مجتمع المعلومات التي دعا بن علي مجرم الحرب أرييل شارون للمشاركة فيها، بشهرين تقريبا. وتخشى السلطة أن يكون مؤتمر الرابطة لحظة تعبئة للقوى الديمقراطية من أجل الحريات ومن أجل العفو التشريعي العام. لذلك فهي تحاول بكل الوسائل القمعية، الأمنية والإدارية والقضائية، منع هذا المؤتمر وضرب كل هيكل أو صوت حر بشكل مبكّر ضمانا لسنة سياسية “هادئة”.

لذلك من الخطأ كل الخطأ أن لا تعي الحركة السياسية والتقدمية هذا الرهان وتجرّ الرابطة إلى صراعات هامشية تضعفهما معا في مجابهة خصمهما المشترك ألا وهو الدكتاتورية التي تنيخ بكلكلها على مجتمعنا وتحرم أغلبيته الساحقة من حريته ومن أبسط حقوقه.

لقد بين تطور الأحداث منذ المهزلة الانتخابية لشهر أكتوبر 2004 أن السلطة شددت من نهجها القمعي ومن انغلاقها وكل المؤشرات تظهر أنها ستُقدم على خطوة لم تجرأ عليها في الفترة الماضية وهي القضاء على كل هيكل ديمقراطي مستقل وبسط نفوذها المطلق على المجتمع.

ولكن تطوّر الأحداث هذا بيّن أيضا أن الحركة الاحتجاجية الناجمة عن تفاقم المشاكل الاجتماعية والسياسية، آخذة في الاتساع لتشمل قطاعات مثل القضاة والمحامين والجامعيين والإعلاميين، وهي قطاعات تطرح مطالب ذات بعد سياسي مباشر يشكّل تهديدا جديا لأسس الدكتاتورية مثل استقلالية القضاء وحرية التعبير والإعلام واستقلالية الجامعة وحرية النشاط الأكاديمي.

كما أن زمن الوفاق المطلق بين السلطة وقيادات المركزية النقابية بدأ يتصدّع منذ مدة: رفض ربع الهيئة الإدارية تزكية ترشح بن علي، رفض المكتب التنفيذي زيارة شارون، رفض الهيئة الإدارية المشاركة في مجلس المستشارين إلخ.. يجري كل ذلك في ظل تكاثر الاحتجاجات العمالية التي تتخذ شكل إضرابات عن العمل واعتصامات وإضرابات عن الطعام.

إن هذا الوضع يملي على الحركة السياسية والديمقراطية والتقدمية أن تدعم كل مؤشرات النهوض هذه وأن تفتح لها آفاقا جدية وأن تجعل من وحدتها أساسا لوحدة الجماهير الواسعة من أجل تغيير ديمقراطي حقيقي. وبما أن الوحدة تبنى حجرة حجرة وبما أن التحولات الكبرى يمهّد لها بالتراكمات الجزئية، فمن باب أولى وأحرى أن لا تترك مكونات تلك الحركة الفرص التي تتوفّر لها اليوم بدءا بمعركة الرابطة (وكذلك جمعية القضاة ونقابة الصحفيين) من أجل استقلاليتها وحرية نشاطها لتكريس هذا التمشي في إطار من الوحدة الدنيا ونبذ الحسابات الحزبية الضيقة.

حزب العمال الشيوعي التونسي

1 سبتمبر 2005