بقلم آلان غريش

لم يكن معروفاً من الجمهور العريض، وكان سيبقى على هذه الحال على الأرجح لولا السمكري البولوني الشهير. تحوّل السيد فريتز بولكشتاين، بما أنه هو المقصود، خلال اسابيع معدودة، الى الشخصية الاكثر اثارة للجدل في فرنسا. ويقف هذا المفوّض الاوروبي للسوق الداخلية وراء المذكّرة المعروفة التي تسمح لعامل سلوفاكي، موظّف في فرنسا لدى شركة سلوفاكية، بتقاضي أجرٍ موازٍ لما يُمكن أن يتقاضاه في… سلوفاكيا. وبعض انصار الـ”نعم” للدستور الاوروبي اعتبروا هذا النصّ شكلاً من اشكال التضامن مع عمّال بلدان اوروبا الشرقية، أمّا رافضوه فنُظر إليهم على أنهم من المتعصّبين الضيّقي الأفق. على الأرجح، إنّ السيد بولكشتاين فُوجئ بنسبته الى الأممية البروليتارية، وهو المسؤول السياسيّ الأول في هولندا، البلد المعروف حتى الآن بتسامحه، الذي أعلن في مطلع التسعينات عدم التطابق بين قيم المهاجرين المسلمين وقيم بلاده. وفي إشارته مؤخّراً الى انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي و”ضغط الهجرة”، حذّر من أنه “اذا حدث ذلك، فإنّ تحرير فيينا عام 1683 يكون قد ذهب سُدىً [1]
“. “أوقفناهم” في بواتييه… “أوقفناهم” أمام فيينا… و”سنُوقفهم” مرّة أخرى… ودعماً لمقولته، يستشهد بالمؤرّخ برنارد لويس: “ستصبح اوروبا مُسلِمة مع نهاية القرن”. لم يكن بولكشتاين المسؤول السياسيّ الأول ولا الأخير الذي يستخدم السلطة العلمية لبرنارد لويس من أجل حمل سلاح المقاومة في وجه الاجتياح البربري الجديد.

وعلى غرار الإله الروماني جانوس، فإنّ لبرنارد لويس وجهيْن. فهذا الجامعي البريطاني، المقيم في الولايات المتحدة منذ العام 1964، والخبير المعروف في الشؤون التركية، أصدر العديد من المؤلفات حول العالم الاسلامي. ومن جهة اخرى، هو مثقّف مُلتزم منذ زمن طويل في المعركة السياسية. وتميّز بدعمه غير المشروط للسياسة الاسرائيلية، وبآلاف الأعذار التي وجدها لتبرير الجنرالات الأتراك الذين احتكروا السلطة طويلاً في أنقره، وعُرف أيضاً بإنكاره المذبحة الارمنية, وقد أُدين في فرنسا لموقفه هذا. منذ وصول جورج والكر بوش الى سُدّة الرئاسة الأميركية، أصبح برنارد لويس مستشاراً مسموع الرأي ومقرّباً من المحافظين الجدد، لا سيّما منهم السيد بول ولفويتز. وقد خصّه هذا الأخير، عندما كان مساعداً لوزير الدفاع، بتحيّة مُدويّة، خلال حفل تكريميّ أُقيم للويس في تلّ أبيب في آذار/مارس 2002:”علّمنا برنارد لويس كيف نفهم التاريخ المعقّد والمهمّ للشرق الاوسط واستخدامه، ليقودنا نحو المرجلة الجدّية من أجل بناء عالم أفضل للأجيال الصاعدة ” [2].

بعد عام، “قاد” لويس الادارة نحو “مرحلتها الجديدة” في العراق. وكان أوضح أنّ اجتياح هذا البلد سيخلق فجراً جديداً، بينما ستُستقبَل القوّات الاميركية كقوّات تحرير، وإنّ “المؤتمر الوطني العراقي”، برئاسة صديقه المنفيّ والفاسد والقليل النفوذ، سيُعيد بناء العراق الجديد.

تغفل المراجعات الفرنسية لكتب برنارد لويس، بخفر، هذا الجانب من المعركة التي يخوضها [3]
. لكن، وبدون أن تختزل أبحاثه بالتزاماته السياسية، فإنّ الاثنين مخترقان بخيط احمر واحد: العالم الإسلامي مُتحجّر لديه في مواجهة اساسية مع الغرب. وهو اكتشف “صدام الحضارات” منذ العام 1957: “يمكن فهم المشاعر العدائية الراهنة لدى شعوب الشرق الاوسط، عندما نلاحظ انها ناتجة، ليس عن صراع بين دول أو أمم، بل بفعل الصدام بين حضارتين. وكانت “المواجهة الكبرى”، كما يسمّيها غيبون، بين الإسلام والمسيحية بدأت مع تدفّق العرب المسلمين باتجاه الغرب وغزوهم سوريا وافريقيا الشمالية واسبانيا، وكلّها مناطق مسيحية. واستمرّت مع الهجوم المضادّ المسيحي في الحملات الصليبية وفشلها، ومن بعدها بالتوسّع التركي في اوروبا الغربية والمعارك الشرسة التي خاضوها للبقاء هناك وتراجعهم اللاّحق.منذ قرن ونصف ، يعاني الشرق الاوسط المُسلم من هيمنة الغرب ـ هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية، حتى في البلدان التي لم تعرف النظام الاستعماري(…) حاولت رفع النزاعات في الشرق الاوسط، المُعتبَرة مواجهات بين الدول، الى مستوى الصدام بين الحضارات [4]
“.

الزمن: غداة حرب السويس والشرق الأوسط يغلي. القومية العربية تتأكّد بقوّة في كلّ مكان. الإسلام السياسيّ مُهمّش. ومع ذلك، لا يرى برنارد لويس، في ارادة الشعوب بالتحرّر من الوجود الغربي، موقفاً سياسياً بل عداء، من حينه، للثقافة الغربية.

موقف لويس لا يهتزّ، بل يهزأ بما يعصف بالمنطقة من اضطرابات ويستعيد فكرته الثابتة حول صدام الحضارات في العام 1990 [5]
، لكنه يترك لكاتب آخر، صموئيل هانتنغتون، ان ينشر هذا المفهوم على صعيد واسع. مختصر الكلام، انهم “لا يحبّوننا”، ليس بسبب ما نفعله بل لأنهم “يرفضون” قيم الحرّية الخاصّة بنا، ولأنهم فقدوا جبروتهم قبل قرنيْن من الزمن. كيف نفسّر تأميم قناة السويس من قبل جمال عبد الناصر في العام 1956؟ بكراهيّة المُسلم للغرب… وسقوط شاه ايران وثورة 1979؟ بكراهيّة الغرب… والانتفاضات الفلسطينية المتكرّرة ضدّ تجريدهم من أرضهم؟ كراهية الغرب… المقاومة في العراق؟ كراهية الغرب… النزاع في كوسوفو او البوسنة؟ رفض المسلمين أن يُحكَموا من قبل الكُفّار… والاستنتاج العبثي: لهذا السبب ابنتك بكماء.

ولماذا يكرهون الديموقراطية… يوضح لويس: “طالما سعى الاسلام الضعيف، منذ قرنيْن، للحصول على الدعم في مواجهة عدوّه ـ الديموقراطية الغربية. ساندَ دول المحور، أولاً، ضدّ الحلفاء، ومن ثمّ الشيوعيين ضدّ الولايات المتحدة، ممّا أوصل الى كارثتيْن [6]
“. ممّا يعني أنه فات المراقبون ملاحظة التحالف بين الرياض وموسكو او بين الاسلام والشيوعية خلال حرب افغانستان…

غريب أمر هذا المؤرّخ الذي يتجاهل الوقائع الملموسة، النفط ومنفى الفلسطينيين والتدخّل الغربي. فيكتب: “طوال قرون، بداكأنّ الواقع يؤكّد رؤية المسلمين للعالم ولأنفسهم. فكان الإسلام يمثّل اكبر قوة عسكرية”. ويضيف: “مرّتْ النهضة والاصلاح الديني والثورة التقنية مرور الكرام في بلاد الاسلام، اذ استمرّ المسلمون في اعتبار ساكني البلدان الواقعة خلف حدودهم الغربية على انهم برابرة غارقون في الجهل…”. وفي اشارة الى القرن السابع عشر، يتابع لويس: “بالرغم من شعورهم العام بالاحتقار ازاء الغرب، فإنّ المسلمين ادركوا أنه يمتلك مهارات لا يُستهان بها في مجال الاسلحة وقيادة الحروب [7]
“. في بضع صفحات فقط، يغطّي المؤلّف عشرة قرون تميّزت بتعدّد مراكز السلطة في العالم الاسلامي وبالانشقاقات والتحالفات (حتى مع القوى المسيحية)، ليدّعي القدرة على اختصار ما يفكّر به “المسلمون” من نخب وشعوب وامم وطبقات وسنّة وشيعة لا فرق…

“انهم” مختلفون في العمق عنّا. يرفضون حتى… الموسيقى الغربية، يشدّد برنارد لويس [8]
. السائح المُسرِع، الذي يتنزّه في شوارع القاهرة، لم يسمع على الأرجح نوتات موسيقى موزار او برامز تتصاعد من المحلاّت التجارية في السوق. لكن، هل سمعها في مقاهي لندن او باريس؟ يستنكر ادوارد سعيد هذا الكلام، وهو الخبير في الاوبرا والموسيقى الكلاسيكية: “هناك عدة عواصم عربيّة تملك معاهد جيدة للموسيقى، منها القاهرة وبيروت ودمشق وتونس والرباط وعمّان وحتى رام الله. وقد خرّجوا فعليّاً آلاف الموسيقيين الممتازين، على الاسلوب الغربي، وهم يؤدّون في العديد من الاوركسترات السمفونية والاوبرات التي تغصّ بالمستمعين. فهناك العديد من مهرجانات الموسيقى الغربية تُنظَّم في العالم العربي(…)”. ويضيف سعيد متسائلاً: لماذا يستخدم لويس سلاح الموسيقى الغربية لمحاكمة الاسلام؟ لماذا لا يأخذ في الاعتبار السجلّ الاستثنائيّ للموسيقى في العالم الاسلامي [9]
؟

ويشير ادوارد سعيد “إنّ جوهر ايدولوجية لويس، في ما يخصّ الاسلام، هو أنه لن يتغيّر (…) وإنّ أية مقاربة سياسية، تاريخية او جامعية للمسلمين، عليها أن تبدأ وتنتهي من كون المسلمين هم مسلمون [10]”. وعلى الأرجح، إنّ احد العلماء الاميركيين سيكتشف قريباً جينة الاسلام لتفسير ما “يفرّقهم” عن سائر العالم المتحضّر.

المصدر : العالم الدبلوماسي اغسطس / آب , 2005

[1] “لوموند”، 10/9/2004

[2] ورد في Lamis Andoni, “ In the service of empire ”, Al-Ahram Weekly, Le Caire, 12-16 décembre 2002.

[3] Eric Conan, “ Lewis, pilier de l’Islam ”, L’Express, 23 mai 2005.

[4] Bernard Lewis, Islam, Quarto, Gallimard, Paris, 2005, p. 55.

[5] Bernard Lewis, “ The roots of Muslim Rage ”, The Atlantic Monthly, septembre 1990.

[6] “جيروزالم بوست”، 11/3/2004

[7] Lewis, Que s’est-il passé ?, Gallimard, Paris, 2002, citations p. 12, 14 et 20

[8] Ibid.., p. 177

[9] Edward Said, “ Impossible Histories : Why the Many Islams Cannot be Simplified ”, Harper’s, juillet 2002.

[10] Edward Said, cité par Shahid Alam, Counterpunch, 28 juin 2003