بقلم محمد الفاضل

بسم الله الرحمان الرحيم

المقدمة

لقد ظلّت مسألة شرعيّة نظام بن عليّ، منذ اللحظة الأولى، مسألة لا تغادر وعي أي سياسيّ، حدّث فيها نفسه أم حدّث غيره. فصفة الشرعية التي ينسب إليها نفسه ، لايمكن التعامل معها بالمعنى السياسيّ في صغتها المجملة، لذلك فإن التفصيل في المسألة يستدعي الحفر في التاريخ والسياسة والثقافة والنقابة والرياضة والعمل الخيري والفنون من أولها إلى سابعها والتعليم من الابتدائيّ إلى الجامعيّ والأنشطة الثقافية من مهرجانات المدينة إلى تلك الدوليّة. كما في السياحة واقتصاد السوق وفي أنشطة عصابات الأسواق الموازية المرتبطة بالقصر ثم في أشكال العنف الاجتماعي اللفظي والعضلي المستحدث منذ 1987 والعنف السياسي المنظّم. كما تستدعي المسألة النبش في تاريخ الرجل وقد علم القاصي والداني من أين جاء، فأيّهما يجهل إلى أين يمضي؟

وإذا كانت مسألة شرعيّة أيّ نظام سياسيّ، مسألة من أولويات بحث المشتغلين في الحقل السياسيّ والتشريعي داخل البلاد وخارجها، فإن ابن عليّ الذي اجتهد في أن يُكسب نظامه شرعيّة افتقر إليها منذ اللحظة الأولى لن يدّخر جهدا ليُراكم عددا من” الشرعيات” يستند إليها نظامه وسيظلّ يعتبرها بمثابة أسس الشرعية أو هو يستعيضها عن الأسس ذاتها.

وإذا كان الأمر، بأيّ عين قرأنا، يُبرره السلوك السياسي العام لأيّ نظام مهما كان منضبطاً للدستور، فإنّ حالة نظام بن عليّ ستجعل من توفير شرعيات من تحت القانون ومن فوقه، تُراكم بعضُها فوق بعض، حتى إذا بلغ درجة عالية من “الإشباع الشرعيّ” صار الدستور ذاته خارج الشرعيّة ،الشيء الذي سيحمل القائمين على ترشيد النظام في لجان التفكير بالتجمع الدستوري الديمقراطي ومستشاري بن علي “المتنورين” إلى دعوة الدستور ذاته للإنضباط على النحو الذي يوافق تلك ” الشرعيات المشبعة”. وبدلاً من أن يُرَاجع الأمر مع فقهاء القانون وأئمة السياسة من المعارضة بحرية هم حقيقون بها وبشفافيّة كانوا قد وُعدوا بها، راح النظام يطلب، وقد علم وأختبر أي نتائج يمكن لآلة القمع أن تقدمه من مكاسب سياسية عظيمة على الأرض، يطلب الفتوى من تلك الجماهير التي تـَشكّل سلوكها وقسماً من وعيها خوفًاً وطمعاً، خلال عشريّة ونصف العشريّة، يسألها إن كانت تقبل بتأبيده وقد أفتت من قبلُ بـتأييد.

غير أن حالة الترهّل التي يعيشها نظام بن عليّ بعدما بدت أولى مؤشراتها الظاهرة منذ سنة 1998، تدعـونا اليوم بقـوة، إلى إعادة طرح سؤال الشرعيّة على النحو التالي: ماذا بقيَ من الشرعيات التي ظلّ نظام بن عليّ يتزييَّ بها ؟ وإذا كانت هذه الصيغة، بنظر من لا يُقر لبن عليّ بأية شرعيّة، تبدو كما لو أنها تعيد النظر في البديهيات،فإن السؤال يجد في الصمت والإمساك عن الرفض و عن الإدانة في أول ذاك العهد وفي البحث عن خيارات المصالحة منذ عهد ليس ببعيد، ما يحتاجه موضوعياً لإعادة توصيف المسألة وقراءتها من منظور سياقاتها المنجزة. ومع كون المسألة ربما حملتنا إلى جرد ما تحت تلك” الشرعية السياسية” من وقائع أنهكت التونسيون وصحّرت حياتهم الإجتماعية والسياسية والثقافية والعلمية، فإن المسألة مع ذلك لا يُحتجّ بها فقط على نظام ابن علي بقدر ما يُحتجّ بها أيضا على مجمل المجتمع التونسي أفرادُه وجماعتُه وجمعياتُه، الذي استقال من قبل أن يُقال.

الجدلية الممسوخة، الحزب ودولة ابن عليّ

فحين جاء نظام السابع من نوفمبر في سنة 1987 لم يكن إ بن عليّ قد استقر في وعيّ الناس بصورة ترشّح له مكانة معتبرة لدى العموم. وعلى الرغم من أن السنوات الأخيرة لبورقيبة باتت ثقيلة في نفوس التونسيون، خصوماً وموالين، فإنّ تنحيّته من الحكم لن يكون القبول بها يسيرا على من اعتادت ذاكرتهم على شخصه الذي راكم له التاريخ الرسمي وسياسات الماضي والدعايات الحزبيّة ووسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية والكتب التعليميّة، رصيداً رمزياً من الكاريزمة المؤثرة. لذلك فإن جرعة واحدة من البيان رقم واحد، كانت تكفي لإرضاء الموالين:

1. التأكيد على مهمة الإنقاذ التي اضطلعت بها حركة السابع من نوفمبر، لتلك المسيرة التي قادها بورقيبة منذ 1956

2. التأكيد على الولاء الدائم لشخص بورقيبة ثم النهج والتا يخ البورقيبيين.

ومع أن هذه الجرعة من التأكيدات في شأن العلاقة ببورقيبة و تراثه مستغربة من رجل لم يكن قبل اليوم بورقيبياً، إذ لم تأتي به غير الضرورات الأمنيّة التي وفرت له طريق العبور إلى السياسة من القوة إلى الفعل ثمّ لاحقاً إلى فعل القوّة. لكن حين يجد الرجل نفسه أمام شخصيّة بتلك الحجم في رصيدها ثلاثين سنة من الحكم واثنين وعشرين سنة من العمل النضاليّ في مستوى القيادة من أجل التحرير، فإنّه من الغباء لمن استقدمته الحاجة الأمنية ولم يكن له من رصيد لا في السياسة ولا في التاريخ، أن لا يدعي التماس نهج البورقيبية في سياسته وأن لا يدعي امتداد حركته الإنقاذيّة تلك لتاريخ الحركة الوطنيّة التحررية، لما يمكن لذاك الادعاء أن يوفره من تطمينات مؤقتة للدستوريين وغير الدستوريين، معارضة وغير معارضة ممن ارتابوا في ماهية هذه الحركة.

وأيّن كان موقف الموالين من تنحية بورقيبة لحظتئذ، وزعمهم أن حالة بورقيبة لم تكن بالعجز الذي رُوّج له، وأنه ظلّ بعد خروجه من القصر يمارس نشاطاته الخاصة اليومية بما فيها المطالعة بصورة معتادة، أو رأي المعارضة وموقفها وبعض جماعات القصر المتأهبة، الذين ظلّوا متمسكين بالقول أن بورقيبة قد انتهى سياسياً منذ السبعينات، ناهيك عن حالته الصحيّة التي بدأت في التدهور منذاك. وعليه فإن القولين في تقديرهما للحقبة البورقيبية السابقة لا يخفيان حقيقة أن الشهادات الطبيّة كانت وحدها تنهي حكم بورقيبة، سواء قبل سنة 1987 أو بعدها، وأنّ الأمر ما كان ليحتاج إلا لرجل استعد للمهمة أمنيا قبل أن يستعد لها سياسياً، فقد كان دائما يمكن اصطناع خطاب سياسي تقدمي يوافق هوى” الجماهير” إن كان الأمر لا يتعدى الحاجة إلى التسويق والتسويف، أما دون مؤهلات أمنية في هكذا عملية فلم يسبق لوزير أول ( محمد مزالي مثلاً )، يرشّحه الدستور للرئاسة إن عجز الرئيس، أن فكّر في المجازفة بهكذا خطوة.أما رجل كأبن عليّ، أعاد هيكلة الأنظمة الأمنيّة للبلاد وأحكم إدارة فروعها خطوة خطوة، من أجهزة الأمن العسكريّة إلى
الحرس الوطني إلى الأمن العام إلى الأمن السياسي إلى الأمن الرئاسي…الخ، فإنه، موضوعياً، كان الرجل الوحيد الذي يستطيع استخراج شهادات طبيّة تثبت عجز الرئيس، دون أن تثني عزائمه ردود فعل غير محسوبة من قبل جماعات القصر المتأهبة للخلافة.

لذلك فإنّ تخطي عقبات القصر نحو الشرعيّة القانونية، كان يحتاج، بصرف النظر عمّا يسمح به القانون، إلى مأهلات أمنيّة بدرجة أولى ثمّ إلى شهادات طبيّة بصورة شكليّة، وقد استوفى الرجل الشرط الموضوعيّ اللازم لحركته. وبالنظر إلى الشعارات التي رفعها بيان السابع من نوفمبر والتي كانت في مجموعها حصيلة مطالب المعارضة، فإنّ حركة 7 نوفمبر يمكنها فعلا بمعنى ما أن تجمّع الديمقراطيين من غير الدستوريين والدستوريين جميعاً من غير الديمقراطيين، كما تجمّع المرتزقة من النخب الفكرية والسياسية مع أبناء الشوارع، فتوسّع من قاعدة الحزب وقمّته، ولكنّها ستضع كلّ ذاك الرصيد الشعبي في خانة الشرعيّة السياسية لرجل وجد في القانون مدخلاً إلى القصر عبر شهادات طبيّة تثبت عجز رئيس شاخت دولته منذ السبعينات.

لقد ساعدت هذه التأكيدات التي حملها بيان 7 نوفمبر على استمرار ارتباط العلاقة على درجة عاليّة من الوثاقة بين الحزب والدولة وهو ما سيبقي الباب مفتوحاً لإعادة إنتاج دورة جديدة من الفساد وجيل جديد من المفسدين. فقد جدد هذا ” التغيير” في نفوس الانتهازية من بين الأنتليجنسيا إلى أبناء الشوارع حماسة الإنخرط في هذه الدورة الجديدة فاتحا ” للجياع” أفاقاً واسعة للتكسّب عبر الحزب ونفوذ الدولة. كما شحذ عزائم من طال عليه عهد النضال من موقع المعارضة، ليتحوّل طمعاً إلى مدارج “التغيير” كما دفع لاحقا من يطلب سلامة النفس والمال حين اشتغلت آلة القمع ضد الإسلاميين،إلى الاحتماء بالرمضاء من الحديد و النار. وعلى الساحة نفسها التي كان فيها التجمع الدستوري الديمقراطي يتوسّع أفقيا وعمودياً كانت أجهزة الأمن تتوسّع برجالها وحريمها ومتطوّعيها كتفاً بكتف في الريف وفى المدينة في المؤسسة وفي الشارع لحراسة البلاد وأمنها بعيون لجان اليقظة المبثوثة في كلّ مكان وأصحاب السوابق الذين أخلوا محلاتهم بالسجون قبل الوقت ليَحْجز بها الإسلاميون. و كـلما اشتد عنف أجهزة أمن الدولة القمعيّة ضد أبناء الحركة الإسلاميّة في النصف الأول من التسعينات خصوصاً، كان ذالك يدفع بالإقبال على الانخراط في التجمّع سليل الدستور ليحقق نسباً قياسيةً لم يحققها منذ مؤتمر قصر هلال 1934 . والواقع أنّ مثل تلك العلاقة الجدلية الممسوخة بالأمني و التي شملت كل أنشطة الحياة في تونس منذ نوفمبرسنة 1987 وإلى اليوم، أريد لها بقصد أن تضع كل المجتمع ومكوناته رهن التجمع الدستوري الديمقراطي و الأجهزة الأمنية لدولته.

ولمرحلة من تلك السياسات أغلقتْ كلّ المؤسسات أبواب الانتداب إلا وزارة الداخليّة فقد ظلت أبوابها مشرعة لمن ضاقت عليهم السُبل، وقد تم عبر تلك الفرصة الوحيدة لجني القوت، تعبأة البلاد أمنيا لتبلغ أعداد العاملين في القطاع الأمني 160ألف عون مسجل، وإذا كان كلّ عون من هؤلاء لديه من بين أصدقائه وعائلته وأهل حييه عشر أشخاص ممن يلجئون إليه للتوسط في بعض حوائجهم أوللتظلم أو للإستقواء على الغير، وهو سلوك من عُرف المهنة، فإن تلك الخدمات التي تقدم عن غير طريقها وهي في الغالب تتم لحساب غير مستحقيها أو على حساب أصحاب الحقوق، تؤلف شبكة من المنتفعين بالإمتيازات الأمنية لا يقل عددها عن المليون ونصف المليون من التونسيين الراشدين، وفي ظل دولة تعطل مهمات المؤسسة و تمنح أعوانها استثناءات و تـقايظ المتعاونين بهكذا إمتيازات، فإنها بذلك إنما تعمل على تسويق روح التطبيع والتسامح مع الأجهزة القمعيّة، وتخلق حالة من الاستقطاب الأمني بمناسبة الحملة على الإسلاميين لتعزلهم ثم تستمر في تغذية هذا الإستقطاب وتوظيفه لعزل ما تبقى من روح الممانعة لدى الأحرار من التونسيين. كما صار الانخراط بالتجمع الديمقراطي الدستوري شرطاً لازماً من شروط منح رخص الإنتصاب والأكشاك وسيارات الأجرة والمقاهي ومحلات البقالة وشرطٌ لمنح العائلات المعوزة وغير المعوزة اشتراكات مجانية للنقل العمومي والإقامات بالمبيتات الثانوية و الجامعية والرحلات الترفيهية والتزكيات للترقية المهنيّة والنجاح بالجامعة والانتداب في الجامعات ذات الصيت العلميّ والبعثات الجامعية إلى الخارج، حتى المشاركات العلمية بالمؤتمرات الدوليّة وهي حوافز وإكراميات توزّع بسخاء على المتعاونين أو المرغوب في تعاونهم ولكن توزع أيضا بحذر خشية وقوعها في يد من ترتاب الأجهزة الأمنيّة فيه لقرابته بأحد الإسلاميين، قرابة فصول أو فروع ناهيك عن أن تكون قرابة أصول.

وبقدر ما كانت توسّعَُ قاعدة التجمع انسيابية كما تبدو بفعل العنف الناعم الذي أصبح بعد سنة 2000 مسئولا عن إدارة الحياة بالبلاد، وتراجعت نسبياً آليات العنف المادي إلى قواعدها بأقبية الداخليّة، صار وعيّ اللامبالاة وفلسفته يفرّخ نشاطاته في همجية وعنف جمهور كرة القدم وسوقية ورقاعة هواة الممسوخ من الفن الشعبي وفي تهتك رواد المهرجانات الغنائية و في اللغة المنحولة التي تََنحَتُ ألفظها ومعانيها السوقة، لتروّج لها المسلسلات التلفزيونية، وتعمم الرشوة والإكراميات جميع القطاعات، وتفوت دولة ابن علي في مكاسب الاقتصاد الوطني الذي بُنيَ بسواعد وعرق التونسيين لفائدة المافيات اليمينية البرتغالية والأسبانية والإيطالية ناهيك عن المافيا “الوطنية” من أيتام القصر، فلم يبق مجال إلا ونخر عظامه الفساد. فقد كان فساداً كاسحاً بأتم معنى الشموليّة ما أنهك جمهور المواطنين وقتل فيهم روح الممانعة، وسهّل تطويعهم أو هو سهّل انصياعهم طوعاً أو كرهاً. فتراجع الجميع عمال و نقابيون و صحافيون وإعلاميون أساتذة الثانويات وأساتذة الجامعات، محامون وقضاة، رجال السياسة و”رجال الدين” وتولى الجميع الدُبُر، بعضهم يرى في تصفية النظام للإسلاميين من شأنها أن تعيد إلى الساحة السياسية مناخها الديمقراطي الذي “ناضل” التقدميون من أجلها سنوات السبعين وبعض الستين و أنّه إذا انتصر النظام غنم التقدميون توازن الساحة و بعضهم الأخر وفّر عليه النظام ما كان يقوم به لو أنّ الأمر بيده، وغيرهم اصطف خلف النظام يجتهد في الدعاية له والوشاية بالناس غير عابئ إن كان يغمس خبزه في الدم أم في الإدام فيما كان آخرون يهمسون بالحوقلة، إلا ما كان من بعض الشرفاء والشريفات ممن عزّت عنهم البلاد .وتُركت بعدها لزحف المفسدين من كبار المسئولين وصغارهم، وتقاسم المغانم عوائل إ بن عليّ و الطرابلسية. وفي غمرة تلك الهزيمة التي منيت بها البلاد واُضطهد شعبُها ودُمرت مؤسسات مجتمعها المدنيّ ومُسخت قيمها وهُتكت مقدساتها وضُرب بتاريخها عرض الحائط وتفككت اقتصادياتها، كان بن علي بترسانته الدعائية، وهي من أهم أذرع نظامه، يعدّ أكثر السيناريوهات إبداعا وأكثر الأدوار تألقاً و بأكثر الجماهير حضوراً لأكثر عروض مسرح “هواء الطلق” رومانسية، ولكنها أيضا أكثرها مهارة في انتاج وعيّ زائف للاستهلاك المحلي والدولي إذ ما عادت المظاهر الاحتفالية الجماهيريّة المعدّة في دوائر وزارة الداخليّة و بالتنسيق مع الحزب الحاكم لتنطلي على أحد، ما دامت السياسة وحدها في تونس من بين الثالوث المحرم، تتفرد بالتحريم ولا أصبحت تلك ” الجماهير” المنقولة من الريف إلى المدينة مجانا عبر وسائل النقل العمومية، تحضى بمصداقيّة، ما دامت المظاهرات الاحتجاجية تُمنع في شوارع المدن كبراها و صغراها و يضرب من حولها المتاريس وتواجه بالكلاب والعصي الغليضة. ولا عادت الجماهير تمنح أحدا مشروعيّة ما، ولا ما تمنحه يحضى بمصداقيّة، ما لم تكن
عبر صناديق للاقتراع مراقبة من قبل هيئات المجتمع المدني و لجان معروف أعضاءها بالنزاهة الدولية. و الواقع أن نظام بن عليّ ما ادخر جهدا ولا قريحة لتوظيف ما فوق الأرض و ما تحت السماء لإحكام إغلاق منافذ الحرية التي مُنعت عن الناس منذ مجيئه. وفي مطلق غياب الحريات الأساسية، شيّد كما شاء واشتهى”شرعيّة سياسية” هي اليوم على مشارف الاحتفاء بعيدها الثامن عشر.

لم يكن إ بن عليّ ليحقق ما يدّعيه من شرعية لولا إغراقه الحزب في الدولة وإشباع الحزب والدولة معاً بالأمن، وتحيّده التونسيين عن معركة ظنّ أغلبهم، بوعي ساذج أنّها ليست معركتهم، فأنعش الطمع نفوس الانتهازيين فمنحوه صوتهم، وأربك الخوف نفوس الأدعياء و المحايدين فمنحوه صمتهم.. و في ظل الإختلالات الخطيرة التي أفقدت المجتمع توازنه، انتهت التسعينات إلى سقوط سريع و حاد لجملة قيم الجسد والروح للمجتمع التونسي في توقيت قياسيّ عسُر على أكثر التونسيين انفتاحًا وأقلهم محافظة بلوغ سرعة السقوط ذاك. وفي الوقت الذي استمرت خطة تجفيف ينابيعَ كل حركة احتجاجية محتملة، ديدن نظام إبن علي، و إنهاك أجهزته القمعية لإرادة الفاعلين والمناضلين في الساحة السياسية والاجتماعية والحقوقية، كان يجري اختطاف جيل بكامله وتحويل وجهته نحو تنمية وعيه بالجسد والمتعة وتسييج روحه بالقيم المتهافتة. كما كانت دعايات التجمع المنتشية بانتصار الدولة توافق هواً في نفوس قسم من التونسيين وتمنح روح المستقيلين ما يكفيهم من حجّة، لقتل ضمير الثمانينات وأنفة السبعينات وصمود الستينات.

حركة” التغيير “وتدميرالمستقبل

لم يشهد تاريخ البلاد حقبة أكثر قتامة من تلك التي حكمها نظام السابع من نوفمبر، ففي الوقت الذي لا يزال التونسيون يتباهون بأن روح هذا الشعب المبدعة قد جاءت بخير الدين باشا رجل الإصلاح والنهضة و بعهد الأمان وبأول حزب سياسي عصري في العالم العربي في 1920 بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالبي وكان الدستور الذي نسب الحزب إليه نفسه، أول مطالبه. كما جاء هذا الشعب بجامعة عموم العملة التونسية، أول حركة نقابية في العالم العربي و إفريقيا سنة 1924 بقيادة محمّد علي الحامي وكان شغف التونسيّون بالحريّة والحقوق السياسيّة المشروعة قد حملتهم إلى الخروج في أفريل سنة 1938 ب 100.000 متظاهر مطالبين ببرلمان تونسي مقدّمين لأجله ولأجل حريّتهم الشهداء والجرحى متحمّلين جرائه معاناة السجون والإبعاد، كما كانت ثلاثينات القرن الماضي والمرحلة التي أعقبت الحرب العالميّة الثانية إلى 1956 قد شكلت أهم الملامح الثقافية والاجتماعية للبلاد التونسيّة فأنتجت رائد الرواية التونسّية عليّ الدعاجي وشاعر الحياة أبو القاسم الشابي ورواد الأدب والفنون عامة من جماعة تحت السور وتنافست الصحف التونسيّة في رصد الوقائع وتغطية الأحداث المحليّة والإقليمية والدولية كما انبرت الجامعة الزيتونية منذ مطلع القرن إلى خمسيناته تنفخ روح المثابرة لإنعاش الحياة الثقافيّة والاجتماعية والسياسية من خلال بعث الجمعيات الثقافية والرياضية والمسرحية والخيرية والكشفية والنقابات الزيتونية للطلبة والأساتذة…ولم تتأخر الجمعيات النسائية بدورها عن الظهور، فقد استطاع الشعب التونسي برغم فقده للسيادة أن يحافظ على تماسكه الاجتماعي ويشكل هيآته الاجتماعية والثقافية والسياسية و يبني رؤاه الفكرية عبر مؤسساته التعليمية التقليدية منها والعصرية وينتج نخباً سياسية واجتماعية وثقافية ودينية لن يستطيع نظام بورقيبة بعد 1956 وبما لديه من إمكانيات مؤسسيّة أن يعيد إنتاج أجيال مماثلة لها. فقد استطاعت هذه النخب التونسية: السياسية والاجتماعية والدينية في وقت لم يكن لبورقيبة زمن “هجرته” بين ( 1945و1949) على الساحة الوطنية أي قرار وأي نفوذ، أن تجتمع ، بصفتها المستقلة أو ممثلة لأحزابها وجمعياتها وتقرر في مؤتمر ليلة القدرسنة 1946، مطالبتها لأول مرة وبصورة علنية، بالاستقلال كما تم في تلك الفترة تأسيس الإتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين وقد جرى كل ذلك بالتنسيق مع الباي،. فلم يكن الشعب التونسي إذن، كما كان يهينه بورقيبة دائماً، حفنة تراب قبل مجيئه إلى حزب الدستور في أول الثلاثينات، ولا كان بورقيبة أول تونسي يحكم تونس منذ قرون، إذ لم تكن رحلة العائلة الطرابلسية الى تونس أسبق من رحلة العائلة الحسينيّة إليها. ولا كان بورقيبة أكثر وطنية من المنصف باي ولا كانت صورته في عيون التونسيين أكثر بريقاً منه.

وبدلا من أن تنمي الجمهورية الأولى مكاسب التونسيين الاجتماعية والمدنية و استقلال المجتمع وهيآ ته راحت تحاول، بالترغيب والترهيب، تقطع عنه شريان الحياة وتأمم ممتلكاته الخاصة فحلّت الأحباس وضربت استقلاليته الاقتصادية وصارت موارد منظمات المجتمع موكول أمرها إلى ابتزاز الدولة وأغلقت أعرق مؤسسة علمية وتعليمية في العالم الإسلامي (الجامعة الزيتونية) وأجرى معها بورقيبة باسم مُهمّات التحديث تصفية حسابات الماضي والمستقبل، وأبعد رجالها من شيوخ وطلبة عن كل مشاركة حقيقية في دورة التنمية، ولاحق رجال الأمانة العامة وتنكر لنضالاتهم وجعل من “صباط الظلام” مقابر لهم، فكان أن دشّن لإستبداد الجمهورية الأولى وأنهى تطلعات التونسيين العظيمة التي كانت قد حملتها جنبات الشرفاء من التونسيين وأسفارهم منذ عهد الأمان إلى الشباب التونسي مع علي باش حانبا. ثم هو أغرى الإتحاد العام التونسي للشغل بالتحالف معه إلى أن اخترقه ناخراً عظمه، وانقلب أبناؤه الدستوريون على الإتحاد العام التونسي للطلبة في قُُربة وزج بالقوميين واليساريين في السجون ولاحق الإسلاميين مع أول خروجهم للعمل السياسي العلني وألقى بهم المرة تلو المرة في السجون و داوم على ذلك إلى خروجه من السلطة.

لكل ذلك وغيره مما يطول استعراضه، ربما أغرت حركة السابع من نوفمبر مَن أغرت باستعدادها لإنجاز تغيير باتجاه الديمقراطية، فهل كان في الإمكان انجازتغيير حقيقي يضمن نقلةً نحو الديمقراطية وقد ورث الرجل دولة الحزب الواحد بتراث الإستبداد الذي استغرق ثلاثين سنة من الحكم؟ هل كان مقبولاً حسن الظن بدعاوى التغيير باتجاه الديمقراطية، ثم منح صاحب التغيير مهلة كان يستجديها من التونسيين أفرادًا ومنظمات وهيآت وأحزابا، وقد لا تبعد الحاجة الأمنية التي استقدمته من جهاز الأمن العسكري الى السلك السياسي، أن تكون أمٌ لاختراع أكثر الوسائل القمعية منهجية وعقلانيّة لاستئصال الضمير واغتيال الحرية وفرض أجندة العولمة عنواناً للتغيير؟ وإذا كان شعار التغيير قد أغرى من أغرى، فإن هواجس الارتياب كانت تستند الى وقائع على الأرض، تعامى عنها الأدعياء، جميعهم على حد سوى. فالرجل قضى ستة عشر عاما منذ سنة 1958 مسئولا عن الأمن العسكري ثم عن جهاز المخابرات ثم دُعي لقمع الانتفاضة العمالية سنة 1978 ثم مديراً للأمن الوطني ثم دُعيَ ثانية لقمع انتفاضة الخبز في جانفي سنة 1984 ليصبح بعدها وفي ذات السنة كاتباً للدولة لشؤون الأمن الوطني ثم وزيراً للدولة للشؤون الداخلية كما تولى بنفسه الإشراف على قمع الطلبة أيام حصار منوبة سنة 1985، لكن اليوم و منذ ثمانية عشر عاما،لا يزال نظام بن علي، يذّكر الناس بكرة وأصيلا، ويشدّد عليهم حتى لا ينسوا، أنه هو “صانع التغيير”، تلك اللحظة التي انتظر حدوثها التونسيون برحيل طبيعي للرئيس بورقيبة، وحين أبطأ رحيله إلى القبر تم ترحيله عنوة من القصر. كان التونسيون قد انتظروا منذ وقت، مجيء من يخلّص البلاد والعباد من نظام شاخت أركانه وفسدت أجهزته وخبا بريق رجاله ولم تكن اللحظة لتسنح لأحد، مثلما سنحت لبن عليّ ليكون “المخلّص”.

وربما كان التونسيون على استعداد لينسوا للمخلص أي ماض يدان به لو صحّت منه النيّة وصدق منه العزم على التخليص. لاسيما وقد بدا مغرياً لعموم الناس وبعض خواصهم، ان يسمعوا من رئيسهم الجديد في زيّيه الجديد في عيدهم الجديد خطاباً جديداً، يوصي أن لا تُعلق صوره وأن لا يناد بحياته وإنما بحياة تونس، ويؤكد أن التونسيون قد بلغوا النضج الذي يجعلهم حقيقون بالديمقراطيّة. وقد أعلن نهاية عهد الفساد والمحسوبية والمحاباة وألزم نفسه سياسة تمتن انتماء تونس إلى فضائها العربي والإسلامي بدا الأمر كما لو أنّه حلم من أحلام الطفولة، وقد كان فعلاً حلماً من أحلام الطفولة السياسية لمن جرفهم الوهم، ذلك أن صانع ” التغيير” سيجعل من” تغييره المبارك ” ذاك فرصة لابتزازلاأخلاقي لشعب انتظر منذ سنة 1956 حياة تليق بكرامته. وشرَع الرجل فعلا في التغيير، فبدأ بشعره فصبغه وصففه وببزته فغيرها وزوجته فجاء بغيرها وباسم الحزب فأضاف إلى الديمقراطية نسبته ثم غير قانون الصحافة فألجم أقلامها وقانون الأحزاب فاستأصل شأفتها وأخرج للناس من تحت جبّته القرمزية أحزاباً تمثلهم وغيّر قانون الجمعيات فاخترقها وعطّل مهماتها ونقّح قانون الانتخابات فمَنَّ بموجبه على مُعَارضة السُخْف بنسب التشريف في البرلمان وجاء إلى الدستور فعاين قلة انضباطه لشرعيات رجل التغيير واستحقاقاته التاريخية، فضبطه ضبطاً ألغى بموجباته إرادة التونسيين وسفه أحلام نخبهم وجعل جماعَ كل أمر بيده يبسط متى شاء ويقبض. وسمح لإتحاد الطلبة أن يكون اثنان حسماً للخلاف ولإتحاد الشغل بمثله درأ للشقاقُ ثمّ مال على الإتحاد العام التونسي للطلبة فقصفه وعلى الإتحاد العام لطلبة تونس فشرّده وجاء إلى الإتحاد العام التونسي للشغل فأغرقه في التجمع الدستوري الديمقراطي غير آسف على عراقته ولا مكترث بمصير العمال الذين سيتحمّلون وحدهم نتائج العولمة وأضرار الخصخصة، كما جاء إلى التعليم ليصلحه فتدنت مستوى شهاداته وباتت الشهادات العلمية تُباع بحسب الطلب مع البضائع المهربة وسعّرت عصابات القصر شهادة التأهيل للتعليم الثانوي بثمانية ألف دينار تونسي ثم تكرمت الدولة على أولائك البؤساء بدورة ثانية لتحسين فرص نجاحهم وهي إنما في الحقيقة مناسبة أخرى لتسويق مزيد من الشهادات، وموسم جديد لعكاظيات الطرابلسية يدر عليهم مزيدا من الأموال الوسخة من جيوب بائسة ولكنها رخيصة أيضاً، وصار إلى الأئمة فأبدلهم وغيّر سحنتهم وحلق لحاهم وأملى عليهم خطبهم و أوجب له الدعاء يوم الجمعة، فأصبح الأئمة أبواق الحاكم والمساجد ملحقات الشعب الدستورية، وانتهت الدولة بإلغاء المجتمع ليصبح جزءاً من مجالها الحيوي تعيد مع كل تورط في قمع أفراده إنتاج شرعية سياساتها و مع كل تفتيت لمكونات المجتمع الحيّة الى استنساخ أخرى من جيفه الهامدة. وأفاق التونسيون بعد وقت ليدركوا أن “حامي الحمى والدين” أباح للموساد الإسرائيلي حمى البلاد ليجهزوا على ضيف التونسيين، رجل الانتفاضة الأولى، أبو جهاد، فتُقدم روحه أولى عرابين الوفاء وقرابين الإخلاص للصهيونية التي دعمت مجيئه وضخت في جيبه مالاً يلمّع به سحنته في الداخل والخارج.وليفتح البلاد للمخابرات الأمريكية قاعدة لعملياتها الإسخباراتية على بلاد المغرب العربي و أوروبا. ولا كان من جهة ثانية حاميًا للدين و قد استباح مقدساته وأحكامه ففتح الزيتونة وأغلقها ونزع حجاب المتدينة وشجع التعري و شنّ الحملات الأمنية ضد الكتب الإسلامية، وضيّق مواقيت الصلاة ومنع العلم الديني بالمساجد وأعلى من فوق المنابر ذكره، وعمّمَ رجاله ومريديه في وزارة الداخلية ومنحهم المشيخة وسمح لبعض الفسقة سنة 1993 ، نكالة في الحركة الإسلامية وأبناءها، صعود المنابر مخمورين يوم الجمعة، وهو جرم ما تجرأت المغول يوم استباحتها بغداد على فعله.

إن رسوخ قدم الاستبداد الذي عاناه التونسيون ويعانونه خلال حكم ابن عليّ، أنما أيضا يطرح المسألة من زاوية النظر في حقيقة مستوى الرشد السياسي الذي عليه المعارضة التونسية، لاسيما وأن اللوم قد لا يخطأها حتى ولو بلغ القول بتوفيرها لبن عليّ أرضية أقام عليها قواعد استبداده أو أنها هيأت له بقصد أوبدونه “مداخل وطنية” مرت عبرها فلول الاستخبارات الأمريكية ونَشطَت خلالها الجماعات الصهيونية. فهل أدركت قيادات الحركة الإسلامية أن بسط اليد لرجل هكذا تاريخه دون مساءلته أولاً ومطالبته بضمانات حقيقية ثانية، لايعني غير بسط الرقبة للقطع ؟ وهل أدركت قيادات اليسار ورموزها أنّ التخفي وراء ضآلة أحجامهم السياسية وهلامية أجسامها ميدانياً، لإعلان رفضها لرجل “التغيير” لن يعبأ به أحدٌ إن كانت سهامها منذ ” التغيير” لا تُخطأ الإسلاميين؟ وهل أدركت قيادات الديمقراطيين الاشتراكيين أن المناورة من أجل السلطة إن لم تحملهم على (أن يكونوا معارضة إلى الأبد)، فأبداً ستنخر المعارضات
والانشقاقات القاتلة كيانهم حدّ التشرذم؟ وهل أدرك التونسيون الموالون لصانع التغيير ممن منحوه صوتهم والتونسيون من غير الموالين ممن منحوه صمتهم أن للتاريخ سنن تقول: من أعان ظالماً سلطه الله/التاريخ عليه. ..؟

هل أدرك الأطراف جميعهم أيضاً، أن التخلي عن الحركة الإسلامية المناضلة، ولم يكن أحد قد دفع حساب الاضطهاد والاستبداد قدر ما دفعت، إنما يكون قد أصاب في مقتل دفاعات المجتمع المدني ضد استأساد الدولة وأجهزتها القمعية؟ هل تدرك الحركة الإسلامية بدورها اليوم أنّها رتبت مواقفها إزاء الدولة من منظور لا يضع المجتمع وحمايته ضمن أولوياتها، وأنها قد تكون أكثر رسوخاً داخل المجتمع وأكثر أحلافاً لو أنّها افتدت لأجل الحريات الأساسية ما افتدت به لأجل السياسة.

وبناءاً عليه أما كان يمكن وقتها أن تفكر المعارضة، كل المعارضة، أن أيّ تغيير حقيقيّ مُحَال دون أن نرى يقيناً تغييرات بنيوية لجملة أجهزة الدولة وهياكلها وما تقتضيه من فصل بين السلطات وتقنين لعلاقة الدولة بالحزب الحاكم وبسائر أحزاب المعارضة ومكونات المجتمع المدني عامة وإبرام اتفاق شراكة سياسية حقيقية حول برنامج للمرحلة الانتقالية على أن لا يُمنَح أحدٌ الثقة قبل أن تتأهل الدولة والمجتمع لإرساء ديمقراطية تطمئن الأطراف جميعها إلى أنّها غير مفخخة ؟

وإذا كانت مسألة الشرعية التي تُنسب لنظام ابن علي، قد بان تهافتها في معرض توصيف الحالة في سياقيْها التاريخي والسياسي، فإن بنية النظام التكوينية ذات الطبيعة الأمنية وما تنتجه من علاقات بمكوناته الوظائفية الرديفة، محكومة بافتقارها إلى قابلية التجديد من الداخل وبالتالي فهي آيلة إلى التداعي الحر فيما لو بلغت مُراكمة التناقضات حدودها القصوى. غير أن لحظة السقوط تلك، لو حدثت قريبا، ولا يَستَبعدُ حصيفٌ قُربَ حدوثها، ربما فاجأت المعارضة وهي في عدة طلاقها مع الواقع، فلا هي استوفت شروط البديل السياسي ولاهي رسّخت تقاليد للحوار الديموقراطي فيما بينها، تُعدُ في مناخه ما يمكن أن يكون مستقبلاً بمثابة البديل السياسي بمواصفاته الوطنية.لاسيما وأن اللاعبون الدوليون بعد حرب الخليج الأولى صار لهم في تشكيل البدائل الوطنية دور المشارك الفاعل ولهم في تَركَات الأنظمة الديكتاتورية منابات متساوية مع المعارضة الوطنية الوريثة، ومن هنا ستكون وطنية المعارضة التونسية من زاوية النظر في قضايا الداخل والخارج في مثل الظروف الدولية الجديدة مع التنادي للتغيير والإصلاح موضوعة تحت المراصد الوطنية المناضلة، وسيكون الأمر على ذات الدرجة من الأهمية فيما لو سعت بعض المعارضات إلى البحث عن مصالحة تسميها وطنية تحت أي ذريعة، فتستجيب لمشاريع الديمقراطية المؤجلة أو المجزأة فيما هي لن تكون قد فعلت غير مسح مدية النظام قبل الذبح وبعده، ثم تقبيل شاربيه.

لذلك فان رصيد الإسبداد وجودة عمليات التخريب المنظّمة للماضي وبراعة التدمير المنهجي لكل أفق المستقبل. يجعل من أي طرف سياسي، كان من هو كائن، لو وجد في أي مصالحة خيراً عميماً فسيتوجّب عليه الإجابة عمّا إذا كانت تلك المصالحة تنهي الظلم والاستبداد المنظّم أم هي تأسس عليه؟ تفكك آلة القمع و منظومة الأمن المخترقة أم تعيدُ شحذه وتوضيبها؟ تعيد للدستور سيادته وللقانون مهابته وللمؤسسات موقعها ولمكونات المجتمع المدني حيويته وللإنسان حقوقه وللتراب حرمته أم ستأجل الإصلاحات وتجعلها رهانات العشريات القادمة؟ تعيد المظالم والممتلكات إلى أصحابها أم تطلق يدها مع المغتصبين بالمناصفة؟ تدع أثرياء “التغيير” ينعمون بما نهبوا أم تنتزع منهم ثروات البلاد وتعيد إليهم أكشاكهم و بسطاتهم بأسواق الانتصاب؟ تقاضي من كان قد امتهن كرامة التونسيين وقتل أبناءهم تحت التعذيب وأبّدهم في السجون والمنافي أم تَتَمَشْيَخُ بالقول من تاب تاب الله عليه؟ تعيد النظر في ولائها السياسي للقضايا العربية والإسلامية حقيقة أم تجاهر بالتطبيع مع الكيان الصهيوني وتفتح له مقرأً وتعلي له راية، لتستجديَ العون وتفوز بشهادة براءة المعجزة الثانية بعد الإنقاذ؟

إن مواجهة هذه الأسئلة وفي لحظات لم نعد فيها بعيدين عن بدء منازعة نظام ابن علي لسر الحياة، ستكون وغيرها بمثابة المعايير، نقايس إن تاهت عنا المقاييس، مستقبليات البدائل السياسية. ونرصد إن ضاعت عنا المراصد خيارات الخلفاء. وعليه فمصالحة أي طرف معارض للنظام مهما علا شأنه بين المعارضة وأياً كان حجمه وتضحياته ولو كان ممن غازل النظامُ بعضَ قياداته لمقايضة الملف الإنساني لأبنائه في السجون والمنافي بأطروحات المصالحة والتسوية، فإن شرعيته لن تمكنه من القفز إلي سدة الحكم هذه المرة دون أن يواجه بتلك الأسئلة بما هي في تونس اليوم، حقائق الأرض والوطن والإنسان والانتماء ولكن بوصفها أيضاً زاوية التحديات القصوى، التي سيكون نظام ابن عليّ حياً و ميتاً، قد حشر فيها المعارضة للاختبار.

محمد الفاضل ،

بنزرت في 23.09.2005