“الخطأ الوحيد, الّذي لا يمكن لرجل يملك السّلطان والنّفوذ, ارتكابه, ولو مرّة واحدة في حياته, هو أن يُصدر أمرا وهو ليس على يقين أنّ هذا الأمر سيُنَفَّذ…”
غبريال غرسيا مركاز, خريف القائد العجوز. [1]
في الخامس من أكتوبر 1987, وعشيّة تعيين الجنرال بن علي كوزير أوّل, كتبت نشرة Middle East Insider:
“أجمعت أجهزة الوزارة الأولى في باريس وكذلك مجلس الأمن القومي للولايات المتّحدة الأمريكيّة على دعم بن علي, القادر في نظرهم على حفظ القانون والأمن حتّى يتسنّى, في أقرب وقت ممكن, الانتقال نحو حكومة ائتلاف وطني, عند غياب المجاهد الأكبر.
وبحسب تقرير سرّي قدّمه الجنرال فارنون والترس إلى الحكومة الفدراليّة الأمريكيّة إثر جولة قام بها في شمال إفريقيا في مايو الأخير, فإنّ الجنرال بن علي هو الرّجل المؤهل لإعداد مجيء (ظهور) “الجمهوريّة الثّانية”. وستعمل هذه الأخيرة, وبحسب التّقرير, على المصالحة بين مختلف العائلات السيّاسيّة ذات التّوجهات الغربيّة والمتواجدة في تونس.
ويقترح التّقرير لهذه المصالحة الوطنيّة المراحل التّالية:
1. إعلان عفو عامّ.
2. الاعتراف بالتّشكيلات وبالأحزاب المعارضة الغير عنيفة.
3. عودة زعماء المعارضة إلى الحياة السّياسيّة (…)”
” أعود بك الآن إلى برنامج الجزيرة, فلقد أنهال أحد المتصلين هاتفيا بالبرنامج على العلمانيان واصفا إياهما بنعوت شتى, تنطبق في مجملها عليهما. ويبدو من كلامه أنه من مناصري ما أصطُلح على تسميته “بالتيار الأصولي المتشدد” ؛ ولذلك فإن راشد الغنوشي نفسه لم يسلم من بعض تلك النعوت. فلقد وصفه هذا المتدخل بأنه “يمثل وجهة نظر الإسلاميين المتميعين”…
لقد أفرزت عقود من القمع المتواصل للحركة الإسلامية في العالم العربي الإسلامي ظاهرة التشرذم والهروب إلى الأمام… كلما كانت الضربات قوية وموجعة, كلما تفتت الحركات الأم لتفرز مجموعات صغيرة, متقوقعة على نفسها, غير آبهة بمحيطها –أي مجتمعها و العالم- لاعنة ومكفرة لكل شيء خارج عنها, من نظام للحكم إلى مجتمعات بأسرها مرورا بالحركات الأم نفسها… هؤلاء جميعا في منظورها, هم سبب شقائها وعذاباتها. وفي كنف السرية والطوارئ صاغت هذه المجموعات لنفسها منظومات فكرية بسيطة, لا تكاد تتسع المرجعيات فيها لغير الكتاب والسنة في شكليهما “الخام”… بدون تاريخية . historicité ومن المفارقات, الغير مستبعدة لمن يحسن التدبر, أن هذه الحركات, ولكونها نمت وتنمو في كنف السرية “المطلقة” والطوارئ القصوى وبساطة الفكر, فإنّها باتت مرتعا خصبا لكل الاختراقات. لقد وجدت هذه الحركات نفسها منعزلة عن الواقع وكذلك عن التاريخ؛ في صدام يكاد يكون انتحاريا مع النظم القمعية بداية, لتنتهي في الأخير إلى صدام مفتوح وقيامي apocalyptique مع القوة العظمى المهيمنة على عالم القطب الأوحد…
“إنه بحق لمشهد أخير لتراجيديا الحركة الإسلامية اليوم… ثم ماذا بعد إسدال الستار؟ أهي النهاية لهذه الحركة كما يبشر به, من حين لآخر, بعض الأكاديميين الغربيين ومن تبعهم من مفكرينا العرب المستغربين [2] ؟ لا أعتقد ذلك البتة… بل أذهب إلى أبعد من ذلك: سيتلاشى هؤلاء الأكاديميون ومقولاتهم ذات القوالب الجامدة, وسيضمحل أتباعهم ممن اختصوا أنفسهم بلقبي “المثقفين” و “الديمقراطيين” -تسطير الراء ليس اعتباطيا… فبرنين هذا الحرف في أفواه سعيد سعدي, خالد نزار, خالدة مسعودي, رضا مالك, الجنرال لعماري, ومن شابههم تستشف الأبعاد الصوفية لهذا اللفظ (الديمقراطية) وتعلم أن له معنى باطن لا يمكن للعامة استجلاؤه- كعلامة مسجلة لا يسمح لغيرهم استعمالها… سيصبح هؤلاء نسيا منسيا. ستتهاوى الديكتاتوريات العربية لتقبر في مزابل التاريخ, وكهوف النسيان “وأما الزبد فيذهب جفاءا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”… إنه قانون أزلي. ستظل الحركة الإسلامية -أو حركة الإسلام- قائمة بالرغم من تنبؤاتهم الواهية… لا لقوة هذه الحركة؛ بل لأمر يتجاوزها هي نفسها.
“إن الحركة الإسلامية -من حيث نشوءها- نابعة من ضمير الأمة ومتجذرة فيه… وضمير الأمة هو بالأساس الإسلام. والذي لا يجد في الإسلام مبدأ “ديناميكية التجدد” وثنائية “الهدم والبناء”, “الموت والبعث”, فليراجع قدراته العقلية ومعلوماته الدينية والتاريخية…
لقد تجاوز الإسلام –وتلك مشيئة صاحب الأمر –مأساة البدء originelle المسيحية, فلم يبتلى بكنيسة تقتل باسم المسيح رسالة عيسى؛ وتجاوز كذلك -ولكن هذه المرة بنجاحات نسبية- مأساة اليهودية, فلم يتحول إلى ركام باهت من القوانين والمحرمات والأعياد الخالية أو تكاد من كل أبعاد روحية… قلت لقد تجاوز الإسلام كل تلك الانحرافات, وإننا على يقين تام بأن هذا الدين يحظى بالعناية الربانية. ولو توخيّنا المزيد من الدقة والموضوعية لقلنا بأن التاريخ الإسلامي على مدى الخمسة عشر قرنا لم يخلو -وهذا منذ البدء- من محاولات الانجذاب إلى هاتين المأساتين: “الكنيسة” و “القوانين”. ولكن الإسلام يسمو على التاريخ, ويسمو على صانعي التاريخ… الإسلام يتخطّى transcende التّاريخ ويتخطّى صانعي التّاريخ… الإسلام لا يرضى بالقيود , ولا يقبل التقولب داخل الأطر الجاهزة… الإسلام مرتبط أصلا بقيمة الحرية, فلا يتنفس بملإ رئتيه إلا في أجوائها الطلقة وآفاقها الرحبة.
هذه حقيقة لا بد للمسلمين عموما, وللإسلاميين خصوصا تدبرها واستيعابها وهضمها. وما لم يفعلوا فسيحومون حول الحمى, في رحلة تيه أبدية.
لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. أجل, هذا أمر أكيد. فأنا أومن بهذه المقولة إيمانا خالصا لا تشوبه شائبة, ولكن… الإشكال يفرض نفسه في النصف الثاني من المقولة. لا بد لنا أن نطرح على أنفسنا اليوم السؤال التالي: بما صلح أول هذه الأمة؟ لا تعطي الحركة الإسلامية اليوم جوابا شافيا ومقنعا لهذا السؤال. اللهم بعض المنظرين المنعزلين, المهمّشين, المنسيين الذين لم يخترق بعد نظرهم وعمق أفكارهم الجدران الحزبية المنيعة. ولم تصل إشعاعاتهم التنظيرية إلى المتاهات المعقدة للعمل السياسي و\أو العسكري المباشر. فإسلاميّو اليوم, الذين اقتحموا أو أُقحموا ساحة الأحداث وقنوات الإعلام, بشاشاته وبصفحاته الأولى, لا علاقة لهم تذكر بكتابات وآراء أقطاب من أمثال محمد باقر الصدر ومحمد عمارة, عماد الدين خليل وأبو القاسم حاج حمد, عبد الله النفيسي وحسن الترابي (المنظِّر) فهمي هويدي وعلي شريعتي, محمد حسين فضل الله وراشد الغنوشي (حين يكتب عن “وضع المرأة في الحركة الإسلامية, مثلا), محمد إقبال وسيد قطب (كأعمال كاملة لا كمقتطفات مختارة), مالك بن نبي ومحمد عابد الجابري, محمد الغزالي ومنير شفيق الخ…
بما صلح أول هذه الأمة؟ إنها مسألة منهج. لا مدعاة للسير قدما ما لم نستوعب أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت أكبر وأعظم من صياغة مجموعة من القوانين –لنسمها الشريعة كما يتصورها الدعاة إلى تطبيقها- مهما ارتقت إلى أعلى درجات الكمال. و ما كان عليه الصلاة والسلام أن يحمل أصحابه ومن تبعهم من الأجيال على الإقتداء به في ملبسه ومشربه ومنامه… مما يسميه, اختزالا وتضييقا, عدد من الإسلاميين بالسنة…
لقد قام الرسول, صلى الله عليه وسلم بعملية كبرى لإفراغ المسلمين الأوائل, أفرادا فمجموعات, من المحتويات الجاهلية – كمناهج – بما فيها المحتويات اليهودية (يهودية الأحبار) والمسيحية (مسيحيّة الكنسية) ؛ لملإهم بقيم الإسلام الجديدة, المكتملة والمتكاملة, المتعاملة مع الإنسان ككيان حر, ماسك بزمام أموره, متحرر من كل قيود العبودية والاغتراب l’aliénation التي لازمته بإصرها الثقيل طيلة فترات التاريخ السابقة.
لقد فشلت معظم الحركات الإسلامية المعاصرة في تأسيس مشروعها النهضوي – التغيري, وفي إخراجه للناس في صيغة تتناسب وضخامة مرجعيتها: الإسلام العظيم… تتناسب وضخامة التحديات المتصدية لها, وأقصد تحديات عالمنا الحاضر, فغلب عليها المنهج التجزيئي. تجزئة كل شيء. إبتداءا من تجزئة الإسلام نفسه إلى عقيدة وشريعة وآداب… بما يعنيه ذلك من تضارب وخلط بين المهم والأهم وغير المهم؛ وبما يعنيه ذلك أيضا من عدم اكتراث تجاه القراءة التاريخية للإسلام, بما في ذلك من خطر اختزال الزمان والمكان في “مشكَل” مركز تستوي فيه الآية المكية بالآية المدنية, العام بالخاص, الحديث النبوي بقول الصحابي, مقولة لحسن البصري باقتباس من الإمام الغزالي, نص لابن تيمية بنص آخر لمحمد بن عبد الوهاب… فتحولت أربعة عشر قرنا من تاريخ المسلمين إلى “مدينة فاضلة” انتهت بسقوط آخر خلفاء/سلاطين العثمانيين, في مطلع القرن العشرين.
لقد أصبح القارىء (الإسلامي المعاصر) ينظر إلى المقروء (الإرث الإسلامي العظيم) لا كما كان (بالفعل), ولكن كما أراد له أن يكون (بالتمني). فلا عجب إذا, أن ترى حركات إسلامية كثيرة تجعل, اليوم, شعارها ومبلغ همها ومطلبها الأساسي : « تطبيق الشريعة الإسلامية »… من قِبل الأنظمة القائمة, متصورة بأن تطبيق الشريعة سيؤدي إلى « استئناف الحياة الإسلامية ». بعض هذه الحركات ذهب إلى أبعد من ذلك –أو بالأحرى إلى أقل من ذلك- فرأى أن الالتزام ب »الآداب الإسلامية », من ملبس ومجلس ومأكل ومشرب… كفيل بتصويب وتقويم الناس والمجتمعات. فكان من نتائج هذه الرؤية التجزيئية لإسلام لا يقبل أدنى تجزئة أن أعطت تلك الحركات لمناوئيها ولمناوئي الإسلام عموما, فرصة حشرها –بوعي منها أو بدون وعي- في متاهات « حوارات « و »صراعات « عقيمة ومضرة بمشروع التأسيس والتغيير . ففي أوج تصاعد المد الإسلامي وتناميه ترانا نناقش الآخرين –وهم قلة من « المثقفين » المعزولين فكريا وطبقيا ومن حيث الطموحات عن مجتمعاتهم الغير مكترثة بوجودهم أصلا- بصلابة وبرباطة جأش كبيرين, حول تعدد الزوجات وعمل المرأة والحجاب والرق في الإسلام… وسوف لن أتوقف هنا عند من أشتغل « بقضايا » الساعة… –أي موعد قيامها واماراته- ووجوب اللحية وفضل العمامة والسواك…
ثم إن الحركات الإسلامية, في مجملها, وتماديا منها في اتباع هذا المنهج التجزيئي, الذي صارت سجينة في قفصه الصلب القضبان, « قرأت » محيطها –القطري والإقليمي والعالمي- قراءة تفتت الواقع إلى عدد لا متناهي من المربعات المنفصلة بعضها عن بعض والمتساوية الأضلع والتي لا تخضع لأي نوع من الترتيب التفاضلي ؛ فصارت بذلك غير واعية بطبائع الصراع الدائر في العالم, غير نابهة لنوعية الصراع الكامن في أقطارها, فكانت بذلك عاجزة عن التعامل العقلاني الواضح مع هذا الواقع الذي تتدعي رغبتها وعزمها على تغييره جذريا… كان لا بد لحركة نابعة من رحم الإسلام أن تعي أن الشمولية هي إحدى أهم خصائص التّصور الإسلامي ومقوماته.
النتيجة التي لا مناص منها : خلط في المفاهيم, وتخبط في المناهج التغييرية.
إنها لمن المفارقات الغريبة, اليوم أن نرى حركات تبنت رؤية ثورية ولكنها توخت سياسة « إصلاحية » ؛ فوجدت نفسها في غياهب سجون الأنظمة القمعية وبرد المنافي الأوروبية. وهناك حركات لجأت إلى العمل المسلح الراديكالي ولكن بدون إمتلاك رؤية ثورية (تشي غيفارا أقرب إلى روح الإسلام الثّوريّة منهم!) ؛ فوجدت نفسها محاصرة في الجبال الوعرة أو في أقفاص « غوانتنامو »… وسوف لن أذكر هنا حركات أخرى, إكتفت ببعض المقاعد « المسموح بها » في حدود جد محترمة –أقل من !5 %- داخل برلمانات لا حول لها ولا قوة… فهذا داخل في باب الفولكلور العربي الأصيل…
أية خسارة هذه؟
لقد حبى الله كل هذه الحركات بأيديولوجيا حيوية, مجمعة ومحركة ومخترقة لكلّ شرائح المجتمعات وأجيالها,لم يتسنى لأي حركة في التاريخ البشري –بما في ذلك أيديولوجيا الثورة الفرنسية وأيديولوجيا الثورة الشيوعية- الظفر بمثلها. وهذه إحدى معجزات الإسلام الكبرى. ولكنها لم تحسن إستعمالها ؛ فكانت النتائج الوخيمة. وكان الإهدار الفادح لطاقات ضخمة من وقت ومال وجهد وعرق… ودم . وكان التأجيل والتأخير إلى ما لا نهاية لمشروع إقامة دولة –ومجتمع- الحق والعدل, حلم كل الإسلاميين والعرب والمسلمين, وأمل البشرية قاطبة في سعيها لإعادة الإنسانية للإنسان.
مشكلة الحركات الإسلاميّة, لا سيّما تلك التّي أجبرتها الظروف الموضوعيّة على اعتماد العمل المسلّح, أنّها لم تقرأ, لضيق أفقها الفكري, ماو تسي تونغ وتجربة الجيش الشّعبي, ولا الجنرال جياب وتجربة الفياتكونغ, ولا تشي غيفارا وتجارب “لا سيارا مايسترا” و”بوليفيا”, ولا حتّى تجربة الثّورة الإيرانيّة… ففشلت الحركات الإسلاميّة بإمكاناتها الضّخمة حيث نجح الآخرون على ضعفهم النّسبي. الفرق الشّاسع بين هؤلاء وأولئك, هو في فهم ماهيّة التّغيير والثّورة…
[1] Gabriel Garcia Marquez, L’Automne du patriarche, Grasset, 1976.
[2] Gilles Kepel, Olivier Roy, Antoine Basbous…
iThere are no comments
Add yours