على هامش إنطلاق برنامج تدريب الصحفيين العرب [1] الذي تنظمه منظمة (صوت حر) Free voice الهولندية بالتعاون مع عدد من الجمعيات الإعلامية العربية غير الحكومية أبرزها مركز الدفاع عن حريات الصحفيين في الأردن، شهدت العاصمة الهولندية لاهاي في الثامن من شهر حزيران/يونيو 2006 ندوة تناولت موضوع ” قناة الجزيرة : مستقلة أم دعاية ؟ ” كان ضيفها محمود عبد الهادي، مدير مركز التطوير والتدريب الإعلامي التابع للقناة القطرية، بيتر تتارو(Peter Tetteroo) صحفي هولندي كان قد قدم دورات تدريبية لصحفيي الجزيرة، رانا نتياز (Rena Netjes) صحفية هولندية مختصة في شؤون الشرق الأوسط، و محمد عبد الحميد عبد الرحمن رئيس تحرير القسم العربي لموقع إذاعة هولندا العالمية .

لقد نجحت قناة الجزيرة، منذ تأسيسها، في جلب إنتباه الأوساط الإعلامية و السياسية، بل حتى الأمنية و العسكرية، في العالم العربي و الغربي عل حد سواء. فهي التي فضحت الإعلام الرسمي العربي محررة الكلمة و كاشفة عورة الأزمات التي أنهكت العالم العربي. و هي التي زاحمت الإعلام الغربي و أوصلت وجهة نظر العرب و المسلمين إلى العالم. و بهذا تكون الجزيرة قد دشنت حقبة جديدة تركزت على محورين :

  1. فقد وضعت حدا لعهد الحقيقة الوحيدة التي سادت المشهد الإعلامي العربي الذي كان ملكا خاصا للإعلام الرسمي و المأجور.

  2. كما أنها وضعت حدا للإحتكار الذي طالما ضربته وسائل الإعلام الغربية على المعلومة و الخبر الذان لم يعد يتدفقان في اتجاه واحد، من الشمال إلى الجنوب.

و قد رافقت نشأة الجزيرة أحداث رئيسية عصفت بالمنطقة و بالعالم و ساهمت إلى حد كبير في سطوع نجم القناة القطرية، أهمها :

  • استهداف تنظيم القاعدة عام 1998 للسفارتين الاميركيتين في كينيا و تنزانيا.

  • القصف الاميركي لمصنع الشفاء للأدوية في السودان و لمعسكر القاعدة في أفغانستان في نفس عام 1998 في عهد الرئيس بيل كلينتون.

  • شن عملية “ثعلب الصحراء” عام 1998 ضد العراق و تفاقم أزمة الحصار المضروب على الشعب العراقي.

  • إنتفاضة الأقصى التي إنطلقت على إثر اقتحام شارون وجنوده المسجد الأقصى سنة 2000 و التي كان للجزيرة دورا هاما في انطلاقها حتى أن البعض وصفها بانتفاضة الجزيرة.

  • أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

  • الحرب على أفغانستان واستفراد الجزيرة بتغطية الأحداث بكونها الوحيدة التي كان لها مكتب في العاصمة الأفغانية كابول.

  • غزو العراق.

هذا التراكم من الأحداث المتفجرة التي هزت المنطقة، إضافة إلى حدّة الأزمات الداخلية التي تعيشها أغلب الدول التي تـُشكل المحيط الطبيعي للجزيرة، أي دول العالمين العربي و الإسلامي، قدما للقناة الجديدة كمّاً هائلا من المواد الإعلامية أحسنت توظيفها لتحقيق طفرة صحفية منقطعة النظير. و يعود هذا النجاح لعاملين رئيسيين :

  1. إمتلاك الجزيرة لأدوات فهم الواقع العربي و الإسلامي، من لغة و ثقافة. فطاقم الجزيرة يتكون من صحفيين و مراسلين يتقنون اللغات المحلية و هم ليسوا بغرباء عن ثقافة و تقاليد مسارح الأحداث التي هم بصدد تغطيتها.

  2. إمتلاك الجزيرة للجرئة الكافية و للإستقلال اللازم الذان مكّناها من عرض الخبر و تحليله و تقصّيه بطريقة فريدة ميّزتها عمّن سواها.

و لولا العامل الثاني الذي أعطى للأول السند الكافي للقيام بالرسالة الصحفية على أحسن وجه لبقيت الجزيرة كغيرها من القنوات، كئيبة، رهينة اللغة الخشبية و بوقا للدعاية الرسمية لأنظمة فاسدة و فاقدة للشعبية. فالجزيرة ليست القناة العربية الوحيدة التي لها صحفيين من هذا النوع، فالعامل البشري، و إن كان شرطا لنجاح أي عمل صحفي متميز، ليس بعامل حاسم طالما أنه لم يـُشفع بتزكية من إدارة القناة أو من مالكيها. و باستثناء الصحفيين الذين حّلوا على الجزيرة من القسم العربي للقناة البريطانية البي.بي.سي (BBC) فإن أغلب صحفيي الجزيرة أنتجتهم الدوائر الإعلامية المحلية العربية. إلا أنه و في مقابل هذا البعد تـُعد الجزيرة القناة الوحيدة في العالم العربي و الإسلامي التي انتهجت هذا النهج الشجاع و الثوري في التعاطي مع العمل الصحفي. و نحن إذا ما قارنا الجزيرة بالقنوات الغربية أو بتلك التي تنشط في محيط تـُحترم فيه حرية التعبير و تـُصان فيه مهنة الصحفي لظهرت لنا الجزيرة بمظهر آخر، و لما بدت لنا متميزة أو نوعية. فالجزيرة، بالمقاييس المهنية للعمل الصحفي، قناة عادية في بيئة غير عادية. و على هذا الأساس فإن القنوات العربية الأخرى و كذا وسائل الإعلام المكتوبة هي التي توصف بالمرضية و غير الطبيعية و ذلك لتأقلمها مع بيئتها الخاضعة لأنظمة الإستبداد العربي. والبيئة التي تـُصادر فيها الكلمة و يُسجن أو يـُدجـّن فيها الصحفي و لا تسمع فيها إلا صوت وزارات الإعلام أو نهيق من يذكر حكاّمها بإحسان هي بيئة غير عادية. فإذا ما وُلدت فيها قناة ولادة قيصرية كولادة الجزيرة، ثم نمت على التمرد ونشأت على ” نشر الغسيل الوسخ”، كان طبيعيا أن تـُحدث حولها كل هذا الضجيج. فالعيب ليس في الجزيرة التي تقوم بدورها الصحفي في تقصي الحقيقة و عرضها، بل في حالة الإعلام العربي و في الواقع المتعفن الذي ظهرت فيه و الذي لم يتعود و لا يـُراد له أن يتعود على تقبل “الرأي و الرأي الآخر”، ذاك الشعار الذي تتيمت به الجزيرة و أباحت باسمه، تقريبا، حرمة كل شيء إلا حرمة راعيها أمير القطر.

الإستثناء المربك الذي أدخلته الجزيرة على مياه الإعلام الراكدة عربيا هو الذي بوّأها للعب هذا الدور الإقليمي والعالمي المهم، ليس فقط في تغطية الأحداث بل في صنعها و في المساهمة في خلق رأي عام عربي، مُوسعة دائرة النقاش و تقاليد الحوار في أوساط شابت على معادلة الإملاء و الإنصات. و عندما وصفها الرئيس المصري حسني مبارك، خلال زيارته لمقرها بالدوحة، ب”علبة الكبريت” لم ينتبه إلى كل تلك المواد الحارقة التي تحيط بالجزيرة من المحيط إلى الخليج و لا إلى ذاك الدخان المتصاعد الذي يمد الجزيرة يوميا بأحداث سريعة الإشتعال. فالعالم العربي و الإسلامي لكي ينفجر و ينفس عن مكبوتاته و عقده المتعددة الأوجه بحاجة إلى عود كبريت واحد : حرية التعبير التي تعد بمثابة قاطرة لكل الحريات وحلاّل لكل الأزمات.

حرية التعبير هذه أعادت بعثها الجزيرة عربيا بحيث غدت صوت من لا صوت له، ناطقة باسم الملايين من أبناء هذا العالم العربي الذين حرموا من أبسط حقوقهم و سـُلبت منهم خاصية آدميتهم الأولى: خاصية النطق التي تميز الإنسان عن الحيوان. فبعد كل هذه العقود التي قضتها الأنظمة العربية في تعليم مواطنيها الصمت، حلت الجزيرة لتعيد النطق للسان العربي و لتجعل من مناقشة الشأن العام مشهدا صارخا يكاد يكون ترفيهيا في تنفيسه للمكبوت. و لقد دفعت قناة الدوحة و لا تزال ثمن هذا الإتجاه الذي سلكته فاستشهد مراسلها طارق أيوب في العراق و مصورها رشيد الوالي و اعتقل مصورها الآخر توفيق الحاج و سـُجن تيسير العلوني في أسبانيا من أجل إجراء سبق صحفي كما جاء في نص الحكم و قصفت المدفعيات الأمريكية مكاتبها و لا يزال البعض ممن تعودوا على تكميم أفواه الصحفيين يتحامل عليها بالتهديد تارة و بمنعها من دخول مسرح الأحداث أخرى. إلا أن الحصار المضروب عليها في عدد من البلدان خاصة تلك التي مزقتها الحرب التي كما يقال “من أولى ضحاياها الحقيقة” [2] لم تمنع الجزيرة من الإلتحام بمحيطها الثقافي و الحضاري الذي ولدت فيه حتى أنها تحولت كما وصفتها الباحثة التونسية ألفة لملوم [3] إلى “مرآة العالم العربي المتمردة”.

ففي الوقت الذي صار فيه العالم العربي و الإسلامي محل اهتمام رجال السياسة و الإعلام و الأمن و العسكر كان من الطبيعي أن تتمركز ” مرآته” الأكثر شعبية، أي الجزيرة التي تستقطب أكثر من 50 مليون مشاهد يوميا، في صلب هذا الإهتمام بالرغم من مئات الفضائية العربية الأخرى التي تناسلت بكثرة في الأعوام الماضية دون أن تنجح في مزاحمة القناة القطرية. و يأتي هذا الإهتمام الغربي الأخير بالقناة القطرية قـُبيل حدث بالغ الأهمية يتمثل في إطلاق الجزيرة العالمية الناطقة باللغة الانجليزية و التي ستتوجه لمشاهدين عالميين سيتلقون لأول مرة وجهة النظر العربية والإسلامية مباشرة دون المرور بالقنوات الغربية مثل السي.ن.ن (CNN) أو البي.بي.سي (BBC). هذا التحدي الجديد الذي ينتظر الجزيرة و الذي سيكون بمثابة تحول تاريخي ثان تحدثه القناة على المشهد الإعلامي العالمي يحمل معه العديد من الأسئلة الحرجة و التي لا تخلوا من واقعية طرحها البعض على مدير مركز التطوير والتدريب الإعلامي لقناة الجزيرة خلال الندوة.

أهم هذه الأسئلة يتعلق بمسألة التوازن المهني للجزيرة. إذ يتسائل بعض الإعلاميين الغربيين و حتى العرب الحاضرين فى الندوة عن طبيعة التغطية التي تقوم بها القناة للأحداث، هل هي موضوعية أم منحازة؟ ثم هل أن المصطلحات التي يختارها طاقم الجزيرة لنعت بعض الأحداث، كالعمليات الفدائية أو الإستشهادية مثلا، تعبر عن “إنحياز” القناة للصف العربي الإسلامي ؟ و هل أن هذا الإنحياز، في حال وجوده، يخلّ بمصداقيتها المهنية ؟ هل أن الجزيرة تتخذ من الثقافة العربية الإسلامية مرجعية و قاموسا تستقي منهما مفاهيمها و مفرداتها التي تستخدمها في صياغة الخبر و معالجته و في تغطية الحدث و صنعه، أم أنها تلتزم بالمعايير المهنية العالمية و تحترم أخلاقيات المهنة من صدق في عرض الحقيقة و تجنب لتلوين الأحداث برؤى سياسية أو إيديولوجية أو قومية أو دينية ؟ و قد تسائل أحد الحاضرين عن تموقع الجزيرة في خارطة تصادم القيم و المثل الغربية بالإسلامية (صراع الحضارات) الذي ميز عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر.

و قد كان جواب السيد محمود عبد الهادي أن الجزيرة تنطلق في عرضها للخبر من رسالة الإعلام النبيلة و الإنسانية التي لا تعرف حدودا ثقافية أو سياسية، ضالتها الوصول الي الحقيقة و همّها عرض الحدث بدون محاباة أو انحياز لطرف من أطراف النراعات التي تعرضها على الشاشة، و هي في هذا لا تولي اهتماما للوسط الثقافي و الفضاء القيمي الذي تتحرك فيه. إلا أن السيد محمود عبد الهادي أعترف فيما بعد، خلال إجابته عن سؤال يتعلق بقرارات استخدام المصطلحات التي تستعملها الجزيرة في تغطيتها للصراع العربي الإسرائيلي، أن القناة لا تستطيع مثلا أن تصف العمليات التي يقوم بها الفلسطينيون بالإنتحارية لأن للكلمة وقع سيئ على الجمهور العربي و المسلم الذي يضفي على الإنتحار دلالة سلبية. لهذا السبب اختارت الجزيرة مصطلح “عملية فدائية” كحل وسط بين الإنتحارية و الإستشادية.
هذه الإجابة التي فندت في الأثناء إدعاء الموضوعية الذي تضمنته إجابته للسؤال الأوّل أثبتت أنه ليس باستطاعة القناة القطرية، مهما ” احترفت”، أن تنفصل عن محيطها العربي و المسلم الذي لولا طبيعته غير العادية و المتفجرة و الحبلى بالأحداث ” الحارقة” لما كانت الجزيرة تلك القناة التي نعرفها.

و قد يكون هذا هو السبب الكامن وراء ” منح” الإستقلال للقناة العالمية الناطقة بالأنجليزية عن الجزيرة الأم. حيث سيختلف الطلب عما هو عليه الآن. و ستجد الجزيرة الأنجليزية نفسها أمام جمهور مختلف عن الشارع العربي و الإسلامي، جمهور لا يفهم معنى الإستشهاد و الفداء، قريبا من وجهة النظر الإسرائيلية غريبا عن المطالب الشرعية و القضايا العادلة التي تجمع العرب و المسلمين. جمهور هيـّأته أو قـُل دجنته آلة الدعاية الغربية، منذ قرون، على أن يرتاب من كل ما تأتي به رياح “الشرق”. فهل ستنجح الجزيرة في زحزحة المسلمات الثقافية و في تفكيك الصور النمطية الراسخة و التي يروج لها منافسوها عن العالم العربي و الإسلامي ؟ هل ستصمد في معالجتها للقضايا الساخنة في المنطقة و خاصة في تغطيتها للصراع العربي الإسرائيلي أمام ضغط اللوبيات الصهيونية المعادية التي نجحت إلى حد كبير في ترويض و تحييد الإعلام الغربي، بحريته، لصالح إسرائيل ؟ و هل ستقبل الجزيرة بتقديم “بعض الحقيقة” لا كل الحقيقة، على غرار رديفاتها الغربية مستبدلة قاموسها المنحاز لقضايا المنطقة بقاموس آخر ” معتدل” و ” محايد” ؟ ثم كيف ستتعامل الجزيرة ككل مع ظاهرة الإزدواجية التي سترافق ولادة و نشأة قسمها الأنجليزي ؟ و أخيرا هل ستخبو ثورة الجزيرة الأم في “إحتراف” الجزيرة البنت لتصبح مهذبة و وديعة أم أنها ستظل تلك القناة العادية، التي تقوم برسالتها الصحفية، في بيئتنا غير العادية ؟؟

[1] يمتد عمل هذا البرنامج لمدة خمسة أعوام و يطمح لإنشاء “تجمع إعلامي من أجل التغيير” عبر تكوين المئات من الصحفيين من ستة بلدان عربية، و هي لبنان ومصر و المغرب و اليمن و البحرين والأردن، على العمل الصحفي المحترف و تغذية وعيهم القانوني و إلمامهم بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان.

[2] منذ الغزو الامريكي للعراق قتل أكثر من مائة صحفي. أنظر : العراق، مذبحة الصحفيين… مرصد الحريات الصحفية يجري احصاء لعدد شهداء الحقيقة منذ الغزو الاميركي للعراق.

[3] الفة لملوم :”الجزيرة مرآة العالم العربي المتمردة”، صدر سنة 2004 عن دار النشر لاديكوفيرت la decouverte- باريس.
Al-Jazira, miroir rebelle et ambigu du monde arabe, Olfa Lamloum, La Découverte- 2004