بقلم عمر صحابو

كان العجمي الوريمي، القيادي السابق في الحركة الطلابية التونسية مع أواخر الثمانينات، عضوا في صلب الخلية الطلابية التي جمعتها في الفضاء التعددي لمجلة المغرب لتتابع الحياة الجامعية و صراعاتها الفكرية و الإيديولوجية و السياسية…كان العجمي من بين الأعضاء الثلاثة الممثلين لحركة النهضة و هم عبد الوهاب الهاني ـ و قد تحرّر من بعد من انتمائه الحزبي و الفكري لهذه الحركة ـ و المنذر شريط إلى جانب ثلاثة ممثلين آخرين لكل من التيار العروبي و اليساري و الدستوري… تعايش جميعهم مع بعضهم البعض في كنف الاحترام و التسامح و حتى الصداقة…كل يتقبل حقّ الأخر في التعبير و التحرك… لم أسجل أنا و زميلي الأستاذ صلاح الدين الجورشي رئيس تحرير القسم العربي و لو مرّة واحدة خلال الثلاث سنوات التي استمرت فيها هذه التجربة قبل تعطيل ” المغرب” أي توتر و أي تجاوز لضوابط المهنة و أدبيات الحوار…جوّ منعش جمعت على ضوء نوره و في مكتبي زعميي الجبهتين المتصارعتين حين ذاك في الساحة الجامعية و هما سمير العبيدي ـ عندما كان أهلا لذلك ـ ممثلا للتيار اليساري و عبد الكريم الهاروني ـ فرج الله كربه ـ عن التيار الإسلامي . ودام الاجتماع مدة ساعتين حاولت خلالها أن أخفف من حدة الصراع و اقرب ذات البين… وكان اللقاء , و إن لم يفض إلى اتفاق, غاية في اللياقة و التمدن التونسي…
كان العجمي نموذجا حيا للتمدن التونسي… و ما أعنيه بالتمدن التونسي هو ذلك التمع الغير الذي يحقق في طياته المصالحة بين ما يبدو في الظاهر من تناقضات ويحولها إلى سلوك معتدل تكون نسبة الذكاء فيه أعلى من نسبة الدهاء…

كان العجمي من أحبّ أعضاء الخلية الطلابية إلى قلبي لأنه كان يجمع أيضا من خلال قسمات وجهه الجميل و رشاقة جسمه الوسيم بين الحداثة و الأصالة و بين التدين و روح العصر حتى أني كنت أداعبه بسؤالي المتكرر حول الكيفية التي اهتدى إليها للتوفيق بين جاذبية رجولته تجاه الجنس اللطيف و واجب العفة التي يفترضها الانضباط الإسلامي…فكان يرد علي بابتسامة صامتة كنت أقرا من خلال ما تستبطنه من ذكاء و دهاء، أنه استطاع أن يوفق بين ذاك و ذاك، و أن الله على كل حال غفور رحيم… و قد أكون مخطأ في قراءتي هذه…

دامت هذه ” العشرة” إلى أن تزامنت في مطلع التسعينات الحملة الاضطهادية الرهيبة ضد حركة النهضة مع تعطيل صدور مجلة المغرب و دخولي على إثر ذلك السجن أين التحقت بزمرة من المناضلين الإسلاميين…, لا زلت أتذكر في ما أتذكر تقاطعي في رحاب “البرلوار” بالسجن المدني في تونس مع عبد اللطيف المكي و حديثي الشيق في جناح “آف” مع الدكتور المنصف بن سالم حول الزمن و وجوده المبدئي بأبعاده الثلاثة أي الماضي و الحاضر و المستقبل ( تتفكر ما و سي المنصف ؟ ) قبل أن تقرّر إدارة السجن فصلنا عن بعضنا و كذلك تبادل الأخبار في لحظة التقاطع عند الفسحة اليومية مع الأستاذ محمد النوري…و..و..و…كنت دائم السؤال عن أحوال “هيثم” ,الكنية النضالية للعجمي الوريمي, فيقال لي أنه عذّب أشدّ العذاب و أنه أصيب بشتى أنواع الأمراض و حتى السقوط من جراء ذلك . فينزف قلبي دما و أنا أتصور جسمه الوسيم و وجهه الجميل مشوهان و مدمران حاملين ربما إلى الأبد آثار مظالم سياط الجلادين… و حتى بعد خروجي من السجن و دخولي السجن الأكبر طيلة تسع سنوات بدون جواز سفر و لا شغل كنت أقتنص الفرص لأسأل عن أحواله و أرسل إليه عن طريق من لهم صلة به مشاعر عطفي و مؤازرتي…

كنّا على المستوي السياسي و الإيديولوجي على طرفي نقيض…كما كنت أسائله عن سرّ جمعه بين المرجعية الشريعتية ” نسبة للشريعة ” و قيم الحداثة الكونية , كان يسائلني عن سرّ جمعي أنا شخصيا بين المشروع الإصلاحي البورقيبي و مشروع مجلة المغرب العربي الديمقراطي… و كانت المجادلات شيقة و مفيدة و خاصة أخوية, مثلها كالتي كانت تشدني بالأخوة و الأصدقاء عبد الفتاح مورو ( زميل الدراسة في المعهد الصادقي) و الحبيب المكني و المنصف السليتي و الفاضل البلدي و الدكتور أحمد الأبيض و الهاشمي الحامدي وصالح كركر( عجّل الله بشفائه) و الذي كان أوشك أن يكون عضوا في مجلس تحرير المجلة سنة1986 و غيرهم … لكن ما كان يجمعنا أعظم و أنبل بكثير من الخلاف الإيديولوجي : اعني الإيمان بالله و برسوله و محبة وطننا الحبيب!!!
ثم بعد خروجي من تونس سنة 2001 و دخولي في دورة اللجوء السياسي واصلت السؤال عن العجمي و التذكير بمأساته في الكلمات التي ألقيتها في المناسبات التذكارية أو الاحتفالية التي دعاني لحضورها قيادي الحركة في باريس…
أما ما دعاني إلى كتابة هذه السطور في هذا الظرف بالذات هو ما بلغني من أخبار مفزعة حول تدهور حالته الصحية و المعنوية …قيل لي أنه شاخ قبل الشيخوخة و أن قسمات بشرته و وسامة قوامه انقرضت و انعدمت و لا حول و لا قوة إلا باللهّّ!!!


حكم على العجمي بالسجن المؤبد بتهمة التآمر على أمن الدولة و هي تهمة متصلة بمخطط الانقضاض على السلطة الذي باركه و أذن به راشد الغنوشي… و الذي كان بعض إطارات الحركة تبشر بنجاحه قبل أشهر من التاريخ المحدد لانجازه … فالسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد على المستوين الأدبي و السياسي هو الآتي : ما هي المسؤولية الأعظم خطورة في ما أصاب هيثم و بقية إخوانه الذين ضاعت أعز أعوام حياتهم؟ أهي مسؤولية العجمي الشخصية و هو شاب لم يكتمل رشده و المتمثلة في انخراطه في مخطط الانقضاض؟ أهي مسؤولية النظام النوفمبري الذي عامل بقسوة لا إنسانية مناضلي الحركة حتى و إن ثبتت ضدهم تهمة الانقضاض؟ أم هي مسؤولية من زج بهيثم , و عن دراية, في هذا الجحيم و هو ينعم في نفس الوقت برغد العيش و يغذي بحطب آلام العجمي و ألاف العائلات المضطهدة بريق زعامة فاشلة؟

سؤال أطرحه و أنا على يقين من أنه متصل بجوهر المأساة التي تعاني منها البلاد ككل…لأن تعفن الوضع السياسي ببلادنا ناتج أصلا ليس من اختيارات نظام السيد ابن علي فقط لكن أيضا من اختيارات ,ولو بدرجة أقل وقعا, رئيس حركة النهضة…و أنا مستعد للنقاش و الجدل إذا انطلقا في دائرة أدبيات الحوار المسؤول , أما إذا أطلق العنان كالعادة لمحترفي السب و الجبن ( ممن يتسترون خوفا و بهتانا وراء أسماء مستعارة) فسيكون ردي كالعادة : احتقار الصمت و صمت الاحتقار…

و أما العزيز هيثم فعزائي في صبره… و ما صبره إلا بالله فلا يحزن عليهم و لا يكن في ضيق مما يمكرون…. لأن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون…و ليس لي ما أقدمه له عنوان محبة و معاضدة إلا هذه الأبيات الشعرية لمن كرّم الله وجهه لعلها تساهم في رفع أحزانه و إيقاد مصباحه
الباطني :


النفس تبكي على الدنيا و قد علمت *****أن السلامة فيها ترك ما فيها

لا دار للمرء قبل الموت يسكنها *****إلا التي كان قبل الموت يبنيها

فمن بناها بخير طاب مسكنه *****و إن بناها بشر خاب بانيها

أموالنا لذي الميراث نجمعها***** و دورنا لخراب الدهر نبنيها

كم من مدائن في الآفاق قد بنيت *****أمست خرابا و أفني الدهر أهليها

Tunisia Dreams

طالع أيضا :